هذا المقال جزء من ملفّ "بين الأسئلة المهنية والشخصية... رصيف22 في 2024"، بمناسبة نهاية العام 2024.
كما هي حال جميع البدايات، فإن رحلة النضال من أجل حقوق مجتمع الميم-عين في العالم العربي لم تكن سهلةً على الإطلاق، خاصةً في بداياتها، بل كانت محفوفةً بالتحديات والمخاطر.
على مرّ السنوات، واجه هؤلاء الأفراد صعوبات كثيرةً، بدءاً من الرفض الاجتماعي وصولاً إلى التمييز القانوني والعنف، ناهيك عن المطالبة بقتلهم وإقصائهم.
بالرغم من هذا الواقع المرير، فإننا في رصيف22، لم نعتد يوماً على الاستسلام والخضوع للأمر الواقع، كسرنا حاجز الخوف وقمنا برفع الصوت من أجل المطالبة بالحريات وحقوق الفئات المهمشة، مسلّطين الضوء على القضايا الحساسة بمهنية ومصداقية، وداعين إلى إحداث تغيير حقيقي في طريقة التفكير لدى غالبية مجتمعاتنا العربية.
بداية النضال
بالعودة إلى السنوات الماضية، كان الحديث عن مجتمع الميم-عين بمثابة "تابو" في معظم الدول العربية، إذ كانت المواضيع المتعلقة بالمثلية الجنسية أو الهوية الجندرية و/ أو الجنسية تُعدّ من المحرمات التي لا يُسمح بتناولها في النقاشات العامة أو الخاصة، حتى أن بعض العائلات كانت تعيش في حالة من الإنكار وترفض الحديث عن مثل هذه المسائل ضمن الجدران المغلقة، وذلك بسبب ثقافة "العيب والحرام"، ما دفع بالعديد من أفراد الميم-عين إلى العزلة والخوف من التعبير عن هويتهم الحقيقية بسبب الألسنة التي لا ترحم والأيادي التي قد تمتدّ لإنهاء حياتهم.
في رصيف22، لم نعتد يوماً على الاستسلام والخضوع للأمر الواقع، كسرنا حاجز الخوف وقمنا برفع الصوت من أجل المطالبة بالحريات وحقوق الفئات المهمشة، مسلّطين الضوء على القضايا الحساسة بمهنية ومصداقية، وداعين إلى إحداث تغيير حقيقي في النفوس
بدأت الأمور تتغير تدريجياً مع ظهور بعض المنصات الإعلامية، على غرار موقع رصيف22، الذي وفّر مساحةً آمنةً للأفراد للتعبير عن أنفسهم/ نّ ومشاركة تجاربهم/ نّ وقصصهم/ نّ الملهمة، ما أتاح للأصوات المهمشة أن تُسمع.
وهكذا، بدأت القصص تتوالى تباعاً، كاشفةً عن التحديات اليومية التي يواجهها مجتمع الميم-عين، مثل التمييز، العنف والوصم الاجتماعي.
كسر حاجز الخوف
منذ بداية عملنا في رصيف22، أدركنا أهمية كسر حاجز الخوف والتحدث بصوت عالٍ عن جميع القضايا دون استثناء، واتخذنا قراراً بأن نكون "صوتاً لمن لا صوت لهم"، وأن نتناول قضايا مجتمع الميم-عين بشكل جريء وموضوعي.
لقد أدركنا حجم المسؤولية الملقاة على كاهلنا، خاصةً بعد أن اكتسبنا ثقة الجمهور وتحديداً الأفراد من مجتمع الميم-عين الذين قرروا أن يكشفوا عن هويتهم الجنسية لأول مرة من خلال منبرنا. فعلى سبيل المثال، تحدّث الإعلامي اللبناني جو خولي، لأول مرة عن مثليته، في مقابلة حصرية مع رصيف22، ضمن مشروع "رصيف بالألوان"، وهي مساحة للتحدث بحرية ومن دون أي قيود عن مختلف التوجهات الجنسية والجندرية والصحة الجنسية.
كما بدأنا بنشر مقالات وتقارير تتناول تجارب الأفراد، مع التركيز على الأبعاد الإنسانية لهذه القصص. لم نكتفِ بتناول القضايا القانونية أو السياسية فقط، بل حاولنا فهم الجوانب الاجتماعية والنفسية التي تؤثر على حياة هؤلاء الأفراد، فجاء مشروع "طيف22"، لإلقاء الضوء على التنوعات والاختلافات الجنسانية والجندرية والجنسية في بلدان الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، بغرض كسر "التابو" والحديث عن المواضيع الحساسة من أجل تغيير النظرة السلبية السائدة عن المثلية الجنسية والتمييز القائم على النوع الاجتماعي.
تحدّث الإعلامي اللبناني جو خولي، لأول مرة عن مثليته، في مقابلة حصرية مع رصيف22، ضمن مشروع "رصيف بالألوان"، وهي مساحة للتحدث بحرية ومن دون أي قيود عن مختلف التوجهات الجنسية والجندرية والصحة الجنسية
ومن خلال مشروع "قصص ملوّنة"، قمنا بتسليط الضوء على قصص نجاح ونضال الأفراد من مجتمع الميم-عين، ما ساهم في تعزيز الوعي حول حقوقهم/ نّ ومدى نجاحهم/ نّ في المجتمع بمعزل عن الأحكام المسبقة والتحيّزات اللاوعية.
في هذا السياق، تقول حنان حمدان، عن مشاركتها في "قصص ملوّنة": "كانت تجربةً مهنيةً غنيةً ومفيدةً للغاية، والأهم أنها مميزة وجديدة في طرحها، كونها سردت وأضاءت على قصص نجاح، وليس فقط صعوبات وتحديات يواجهها أفراد مجتمع الميم-عين في الوطن العربي، علماً بأن المقالات تناولت في مضمونها التحديات التي عاشها أصحاب القصص، لا سيّما في طفولتهم، ومراحل حياتهم، حتّى وصلوا إلى نجاحاتهم وما هم عليه راهناً، لكن التحديات لم تكن موضوع المقال نفسه، وإنما أتت ضمن سرد لمحطات مختلفة في حياة صاحب القصة".
شاركت حمدان، في مقالتين ضمن هذا المشروع، حيث أجرت حواراً مع الفنانة اللبنانية حساندرا، التي استطاعت صقل موهبتها وحجزت مقعداً لها على مسرح الدراغ وشاركت في مهرجان "قديرة"، وهو أول مهرجان دراغ كويري ناطق بالعربية في برلين، كما أجرت حمدان مقابلةً مع الإعلامي السوري أدونيس الخالد، الذي نجح في تخطّي جميع العراقيل وأثبت كفاءته الإعلامية وحقق حلمه الكبير بالانضمام إلى قناة ألمانيا الدولية.
أما عن التحديات التي واجهتها حنان، فتقول: "كصحافية وكاتبة أسرد قصص نجاح أفراد من مجتمع الميم، كانت التحديات تتمثل بالنسبة لي في نقطتين أساسيتين؛ الاختيار الموفق لصاحب القصة نفسه، ومن ثمّ الحصول على موافقة على إجراء المقابلة، وقد تفاجأت بإبداء البعض حماسةً جديدةً تجاه الموضوع، لم تكن ملموسةً في وقت سابق، نتيجة التابو الاجتماعي والأحكام المسبقة على الفئات المهمشة في المجتمع، ومن بينها أفراد مجتمع الميم-عين، خصوصاً أننا كنا نريد من خلال هذا المشروع سرد القصة لأفراد كسروا حاجز الخوف وكشفوا عن هويتهم الجنسية، وهنا كانت الصعوبة مضاعفةً، وكذلك المسؤولية أيضاً".
وتضيف حمدان: "مسألة أخرى كانت مهمةً للغاية بالنسبة لي، هي كيفية سرد القصة نفسها، بطريقة سلسة تصل إلى القارئ وتؤدي الغرض المطلوب منها، أي الإضاءة على نجاحات أفراد تمكّنوا من تحقيق أحلامهم ولم يخافوا من الصورة النمطيّة والأحكام المسبقة عليهم، وباتوا ملهمين في مجالاتهم، وكذلك أن أكون أمينةً في رواية قصتهم وإظهار محطات مهمة في حياتهم وسردها بطريقة شاملة وبسيطة في آن، وأعتقد أننا نجحنا من خلال قصص ملوّنة في تحقيق هذا الأمر، وقد لمسنا ذلك من خلال ردود فعل أصحاب القصص الذين وافقوا على مضمونها قبل النشر وكذلك القرّاء".
بدورها، شاركت ناهلة سلامة، في مقالتين تم نشرهما ضمن مشروع "قصص ملوّنة": مقابلة مع الراقص والفنان التشكيلي فادي خوري الذي قرر أن يفتح صندوقاً مقفلاً مليئاً بالذكريات التي يرويها لرصيف22، وكيف تمكّن من تحقيق نفسه في مجال الفن والرقص ووصل إلى العالمية، كما أجرت سلامة مقابلةً مع "كوكب زحل" الذي تحدث عن التحديات والانتصارات التي حققها في مجال الدراغ وحكايات لم يروِها من قبل.
عن تجرتبها في "قصص ملوّنة"، تقول ناهلة: "أعدّها من المحطات المهمة في مسيرتي الصحافية، حيث غصت في تفاصيل حياة أشخاص عايشت معهم قصصاً مليئةً بالتحديات والنجاحات، من الطفولة بتعقيداتها وحتى لحظات التميز والإنجاز، ووجدت في كل حكاية نبضاً إنسانياً يحمل معه أملاً وقوةً".
وتضيف: "عززت هذه التجربة رؤيتي للعمل الصحافي وللكتابة الإنسانية، بما أنني أعشق الكتابة عن حياة الناس وأؤمن بأن كل قصة تستحق أن تُروى وأن تصل إلى الآخرين بإحساسها وصدقها. كانت "قصص ملونة" بمثابة باب جديد يُفتح أمامي إلى عالم الصحافة من الناحية الإنسانية وفهم العمق الإنساني وتقبّل الاختلاف واحترام تجارب الآخرين وأهمية منحهم صوتاً يُعبّر عنهم".
بالمثل، شارك جوان ملا، في مجموعة من المقالات ضمن "قصصة ملوّنة": "الدرويش يرقص حرّاً بألوانه الخاصة من الطربوش إلى البابوج"، و"بين الكوميديا والأزياء والتوعية... الدراغ كوين أنيسا تختار طريقاً خاصاً في تحدّي المجتمع"، و"ديفا بيروت... تكسر نمطية الدراغ كوين بجسدها وأفكارها الخارجة عن المألوف"، و"الناشط الكويري خالد عبد الهادي: "لست بحاجة إلى إرضاء الآخرين على حساب حقيقتي".
تعليقاً على مشاركته في حوارات مع أفراد من مجتمع الميم-عين، يقول جوان: "اللقاءات مع عدد من أفراد مجتمع الميم-عين والحديث عنهم/ نّ ومعهم/ نّ حول طريقة تفكيرهم/ نّ وتمرّدهم/ نّ ووجودهم/ نّ في مجتمع ينبذهم ويصرون فيه على تأكيد هويتهم/ نّ برغم الأخطار، دفعت وتدفع العديد من القرّاء برأيي لمحاولة إعادة إنعاش طريقة التفكير الذاتي والمجتمعي تجاه هؤلاء الأشخاص وإمكانية تقبّلهم/ نّ على أمل أن يضع القارئ نفسه مكان هذا الشخص الذي عانى كثيراً في المجتمع بسبب اختلاف ميوله/ ا الجنسية وإثبات هويته/ ا، ليسمع ما يقوله".
ويتابع قائلاً: "التحديات الكبرى لم تكن في الوصول إلى بعض أفراد مجتمع الميم-عين، أو داعميهم/ نّ وإجراء حوارات معهم/ نّ، بقدر ما كانت حول نقل الصورة بشكل موضوعي وتمرير أفكار قد تخالف معتقدات الكثيرين/ ات وآراءهم/ نّ، الأمر الذي قد يعرّضني شخصياً للمضايقات من بعض الأفراد المحيطين بي، بسبب دعمي لهذه الفئة من المجتمع، لكني لم أخشَ ذلك كوني محاطاً في الغالب ببيئة داعمة لعملي وأسلوبي الصحافي الذي يحذو دوماً نحو الفن و"تقديس" الإنسان مهما كانت آراؤه السياسة أو ميوله/ ا الجنسية وهويته/ ا الجندرية".
ويختم بالقول: "من الممتع والمهم أن يُتاح لي ذلك في موقع رصيف22، على اعتبار أنه بيئة آمنة وحرّة لطرح أفكار كثير من الصحافيين/ ات في العالم العربي".
تحديات مستمرة
على الرغم من التقدّم الكبير الذي أحرزناه في معركة النضال من أجل الحريات، لا تزال هناك تحديات كبيرة تواجه مجتمع الميم-عين في العالم العربي.
للأسف، فإن الكثير من الدول العربية لا تزال تجرّم المثلية الجنسية، ما يعرّض الأفراد لخطر الاعتقال أو العنف، ناهيك عن الضغوط النفسية. ففي حين أن بعض الدول بدأت تُظهر مزيداً من الانفتاح، إلا أن الطريق نحو المساواة والاعتراف بالحقوق لا يزال طويلاً ومتعرجاً.
تجربتنا في رصيف22، كانت مهمةً جداً لناحية تعزيز النقاشات حول حقوق الإنسان والتأكيد على أن الحقوق لا تتجزأ. لقد قمنا بتغطية قصص نجاح لأشخاص تحدّوا الظروف الصعبة، ونجحوا في الخروج من دائرة الخوف وطاردوا أحلامهم وتجرعوا كأس النجاح حتى الثمالة
تتفاقم هذه التحديات في ظل الثقافة السائدة التي تطغى عليها الذكورية، وتدعم عن قصد أو غير قصد التمييز الجندري. ومع ذلك، فإن الأمل موجود.
تجربتنا في رصيف22، كانت مهمةً جداً لناحية تعزيز النقاشات حول حقوق الإنسان والتأكيد على أن الحقوق لا تتجزأ. لقد قمنا بتغطية قصص نجاح لأشخاص تحدّوا الظروف الصعبة، ونجحوا في الخروج من دائرة الخوف وطاردوا أحلامهم وتجرعوا كأس النجاح حتى الثمالة، ما ألهم غيرهم ليتحدثوا عن تجاربهم، وذلك ضمن محاولة منّا للمساهمة في تغيير الطريقة التقليدية التي يُنظر بها إلى مجتمع الميم-عين في العالم العربي.
مع كل التحديات التي نواجهها يومياً، يبقى الأمل موجوداً في تحقيق المزيد من النجاحات والاعتراف بحقوق مجتمع الميم-عين.
نؤمن بأن كل صوت يُحكى هو خطوة نحو التغيير. نحن ملتزمون/ ات في رصيف22، بمواصلة هذا النضال، ودعم حقوق مجتمع الميم-عين، والعمل على تعزيز الوعي حول القضايا المتعلقة بهم. فالتغيير يبدأ من قتل الخوف ورفع الصوت عالياً.
ربما يرى البعض أن ما نطمح إليه ليس سوى دولة "أفلاطونية" لا يمكن تحقيقها على أرض الواقع، وقد يرى البعض أن حلمنا بعيد المنال، لكن نؤكد أنه ما من أحد قادر أن يقتل فينا الشغف والحماسة والحلم بأوطان حرّة نحقق فيها ذواتنا
في نهاية المطاف، إن النضال من أجل حقوق مجتمع الميم-عين في العالم العربي، رحلة طويلة مليئة بالأشواك وغير معبّدة بالورود على الإطلاق، ولكن لا ننكر أننا شهدنا تقدّماً ملحوظاً في السنوات الأخيرة لناحية رفع سقف الحريات في الوطن العربي، ونحن نؤمن بأن المناصرة الفعالة يمكن أن تسهم في إحداث تغيير حقيقي. ومن خلال كسر حاجز الخوف، يمكننا جميعاً المساهمة في بناء عالم أكثر عدلاً وإنصافاً وشموليةً للجميع دون استثناء، وعلى أمل أن نعيش في عالم يقدّر الشخص كإنسان حرّ من دون أن يحكم عليه مسبقاً.
ربما يرى البعض أن ما نطمح إليه ليس سوى دولة "أفلاطونية" لا يمكن تحقيقها على أرض الواقع، وقد يرى البعض أن حلمنا بعيد المنال، لكن نؤكد أنه ما من أحد قادر أن يقتل فينا الشغف والحماسة والحلم بأوطان حرّة نحقق فيها ذواتنا.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
Ahmed -
منذ 6 ساعاتسلام
رزان عبدالله -
منذ 16 ساعةمبدع
أحمد لمحضر -
منذ يومينلم يخرج المقال عن سرديات الفقه الموروث رغم أنه يناقش قاعدة تمييزية عنصرية ظالمة هي من صلب و جوهر...
نُور السيبانِيّ -
منذ 4 أيامالله!
عبد الغني المتوكل -
منذ 5 أياموالله لم أعد أفهم شيء في هذه الحياة
مستخدم مجهول -
منذ 5 أيامرائع