هذا المقال جزء من ملفّ "بين الأسئلة المهنية والشخصية... رصيف22 في 2024"، بمناسبة نهاية العام 2024.
أعرف أسماءً كثيرة للحرب، القتل، الموت، الخراب، التهجير، لكنها كلها لم تكن كافية في العام الماضي لوصف الاعتداءات الإسرائيلية على قطاع غزة. كان هناك دائماً شعور بأنها أقل من المطلوب، حتى تبيّن أن ما نحن بصدده ليس حرباً ولا اعتداءً، بل إبادة، الكلمة التي بدت دقيقة على نحو شديد الرهبة.
ليس هناك مرادفات للإبادة، حتى الإبادات التي سبقتها عبر التاريخ لا تشبهها. على الأقل ليس من منظور من فقدوا حياتهم وتحولوا جثثاً ملقاة على قارعة الطريق.
العدل في التقرير الصحافي
لا يملك محرر الخبر في أيام الإبادة إلا أن يكون دقيقاً ومنصفاً، فهو كشاهد صامت على الأخبار التي يحررها ويدققها ويرسلها للناس، عليه أن يكون شاهداً عادلاً أيضاً، لكنها عدالة الكلمات التي بدت مجانية هذا العام أكثر من أي عام.
الكتاب والصحافيون والأدباء هم في العموم من المؤمنين بقوة الكلمات في هذا العالم. كلمة "لا" مثلاً من أقصر الكلمات، وأقواها، وللغرابة فهي تتكون من حرفين في معظم لغات العالم.
أعرف أسماءً كثيرة للحرب، القتل، الموت، الخراب، التهجير، لكنها كلها لم تكن كافية في العام الماضي لوصف الاعتداءات الإسرائيلية على قطاع غزة. كان هناك دائماً شعور بأنها أقل من المطلوب، حتى تبيّن أن ما نحن بصدده ليس حرباً ولا اعتداءً، بل إبادة، الكلمة التي بدت دقيقة على نحو شديد الرهبة
سمعنا "لا" للإبادة بمعظم اللغات هذا العام، ونقلنا الأخبار التي ترفض ما يحصل في القطاع وتجرمه من عواصم عدة، لكن تلك الـ"لا" الطويلة لم توقف الهجوم ولو ثانية، الأمر الذي تركنا في فجوة كبيرة وسؤال عن معنى ما نصنعه، وكان الجواب هو التوثيق، وحماية المستقبل من بعيد.
نوثّق... كي نساهم في منع الإبادة القادمة
لم يستطع أي منا نحن الرافضين للإبادة -من صحافيين ونشطاء وبشر لم يتخلوا عن إنسانيتهم- أن يساهم ولو بواحد بالألف في تخفيف وتيرة الموت المتساقط من السماء عن أهل غزة، لكن ربما سيكون لما فعلناه ونفعله دور في منع الحرب القادمة، المجزرة القادمة، أو الإبادة القادمة التي لا يجب أن يسمح بها التاريخ ولا البشرية.
ربما يكون للتوثيق الذي قدمناه جميعاً هذا العام دور في جمع الأدلة واستخدامها يوماً لإدانة وملاحقة المجرمين، دور ما لجعل المجرم القادم يفكر قبل أن يتخذ قراراً بالموافقة على القتل.
لذا جاءت "يوميات من غزة" كمشروع مبكر جداً لتوثيق الأحداث والتفاصيل الصغيرة التي يعانيها أهل القطاع، تفاصيل أصغر من أن تظهر في نشرة الأخبار، كبكاء امرأة أمسكت كأس ماء بارد للمرة الأولى بعد شهور من الحرب، أو نوع الراحة الذي أصاب الأب الذي دفن عائلته قبل أن يهرب للجنوب ولم يتركهم للكلاب الضالة، أو قنص أصحاب الصعوبات العقلية ممن لا يدركون أوامر الجيش بالابتعاد ولا يفهمونها.
كل هذا كان لنساهم في تأكيد الصورة الكبيرة "الإبادة"، بأدق التفاصيل، ولتكون موقعنا أرشيفياً للأدلة والشهادات التي كتبها أصحابها.
لا نتبنى أجندة على حساب أخرى
تقديم مساحة حرة لكل الأفكار والتوجهات السياسية كان أيضاً تحدياً لا يقل خطورة عن تحدي الكلمات ودقتها، وقد ظهر هذا الأمر بوضوح أكثر مع بدء الحرب على لبنان، التي نقلنا لغتها من اعتداءات إلى هجمات حتى صار الواقع أكبر وأكثر عناداً من اللغة السابقة، فأسميناها حرباً لأنها لم تكن أقل من ذلك.
الصحافة لا توقف الحروب الحالية، لكن ربما يكون للتوثيق الذي قدمناه دور في دعم الأدلة، واستخدامها يوماً ما لإدانة المجرمين، ربما يكون دور الصحافة منع المجزرة القادمة.
لذا يختلف قسم مثل "رأي ومدونة" بشكل جذري في تحريره للمواد عن قسم "سياسة" مثلاً، فالأول معني بإيصال أصوات الناس من دون محاكمة، والثاني معني بإيصال الخبر من دون محاكمة أيضاً، وبين حرية الرأي وحياد التقرير الصحافي تتحقق رؤيتنا العامة بأننا مساحة للجميع.
التسميات تعني إطلاق الأحكام مسبقاً، وتعني أخطر من ذلك لنا كمحررين ومحررات في رصيف22، تبني أجندة سياسية على حساب أخرى، وهذا كان أشبه بالسير في حقل ألغام، لأن تبني أجندة على حساب أخرى هو الكابوس الذي لا نرغب في أن نعيشه، والثابت الذي لن يتغير في موقعنا الذي يقدم مساحة لكل وجهات النظر.
كانت تلك النقاشات اليومية مساحة لا بد منها كل مرة نواجه فيها تسمية يتعارض معناها الاصلاحي مع التسمية القانونية، والمعنى البديهي مع الدقة التحريرية، مثلاً هل تسمى حماس بالمقاومة أم حركة مقاومة أم باسمها المجرد؟ وما هي الجملة التي تحيّد تماماً التوجه السياسي للموقع؟ كذلك الأمر مع "حزب الله" في لبنان وتسمية المقاومة الإسلامية باسمها؟ ماذا عن أؤلئك الذين لا يرونها مقاومة بل فصائل مسلحة؟ ماذا عن أؤلئك الذين يرونها مقاومة بطولية؟ وهذان مجرد مثالين لكنهما الأشد وضوحاً على صعوبة اختيار الكلمات المناسبة، تحديداً حين يكون الصحافي وسط بؤرة النار وليس خارجها.
حين يكون ثمن المهنية خسارة قراء
لا يستطيع كاتب الخبر ومحرره التفكير في رد فعل الجمهور ومعدل القراءات خلال مراجعة لغة المادة ودقة مضامينها، هذا النوع من التفكير الذي تفرضه الصحافة البديلة والصحافة العصرية بشكل عام، التي تريك رد الفعل الفوري على صياغة الخبر في التعليقات، أو في عدم المتابعة هو نوع من الجبن الذي قد يغيّر من فحوى الخبر، وهو شبح صامت يحوم فوق رؤوسنا خلال الكتابة.
اختيار اللغة المحايدة لا يتعلق بكثرة التوجهات السياسية في منطقتنا، وبالتالي الرغبة في إرضاء الجميع؛ بل على العكس تماماً يتعلق بإيصال الخبر الصحيح للجميع ليكوّن كل قارئ وقارئة وجهة نظر مستقلة بناء على صياغة محايدة غير مشبعة ولا ملغمة بخلاصات مسبقة ومحاولات استمالة.
2024 ليس عاماً عادياً، سمعنا عن أمهات توقفن عن تدليل أبنائهن لفترة بعد مشاهدة الأيتام في مناطق الإبادة. ورأينا في لبنان مشاهد كثيرة "فوق طائفية" وإنسانية لبلد وُصف من أعدائه وخصومه دوماً بأنه طائفي، ورأينا ملايين الابتسامات السورية في الشوارع تغني للحرية من دون خوف
ولتحقيق الفكرة السابقة سيظلّ تعدد وجهات النظر في المادة الصحافية الواحدة، أحد أهم الثوابت المهنية في رصيف22.
لا نعرف هل نجحنا أم لم ننجح في تحقيق التوازن المطلوب، والتجرّد من الذات الذي لا بد أن يتحلى به المحرر الصحافي لإيصال الخبر إلى بر العدالة، لكننا نعرف أننا حاولنا بمنتهى الأمانة ألا نكون متحيزين برغم خياراتنا كأشخاص قبل أن نكون كتاباً ومحررين صحافيين. ونعلم أكثر أن وجود زملاء كثر من رصيف22 في أماكن الخطر هذا العام في لبنان وفلسطين وسوريا لم يسهل الأمر.
ثم ختمناها مع سوريا
سوريا، لعلّها بكل أمانة اللحظة التي خسرنا فيها حيادنا وانجرفنا مع تيار الفرح بعد أنواع الألم والخذلان التي عشناها وكتبناها هذا العام، فلم نكن معنيين في رصيف22 بتمثيل وجهة نظر النظام السابق، ولم يؤلمنا "ضميرنا" لهذا الخيار، مع شعور -غير مهني- بأن مشاهد السجون والمقابر الجماعية كانت كفيلة بتمثيله.
وهنا -إذا سمح لي بتنحية الحديث المهني والوشاية بحديث شخصي- لا بد لي أن أقول، بأن خبر سقوط نظام الأسد في سوريا أجمل خبر كتبته خلال أكثر من 20 عاماً من العمل الصحافي.
2024 ليس عاماً عادياً، سمعنا أن أطباء بكوا بحرقة لأنهم كانوا يتمنون الذهاب إلى الحرب لمساعدة الآخرين، وأن أمهات توقفن عن تدليل أبنائهن لفترة بعد مشاهدة الأيتام في مناطق الإبادة. ورأينا في لبنان مشاهد كثيرة "فوق طائفية" وإنسانية لبلد وُصف من أعدائه وخصومه دوماً بأنه طائفي، ورأينا ملايين الابتسامات السورية في الشوارع تغني للحرية من دون خوف. وكنا الشهود على كل هذا، بقدر ما سمحت لنا أمانة الشهادة أن نكون.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
Ahmad Tanany -
منذ يومينتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ 4 أياملا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ 6 أيامأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ أسبوعمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...
Nahidh Al-Rawi -
منذ أسبوعتقول الزهراء كان الامام علي متنمرا في ذات الله ابحث عن المعلومه