لم يتفاجأ أحد تقريباً، حين أعلن مكتب رئيس الوزراء الإسرائيلي، صباح اليوم الجمعة 8 آب/ أغسطس 2025، عن موافقة "الكابينت" على اقتراح بنيامين نتنياهو، المطلوب للمحكمة الجنائية الدولية، باحتلال قطاع غزّة بالكامل، وذلك برغم المعارضة التي أبدتها قيادة الجيش.
وقالت صحيفة "جيروزاليم بوست" الإسرائيلية، إنّ الحكومة وافقت على اقتراح رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو، احتلال القطاع بالكامل، لتستمرّ حرب الإبادة التي لم تتوقف على قطاع غزة منذ قرابة سنتين، وخلّفت وراءها حتى الآن قرابة 62 ألف قتيل وأكثر من 151 ألف جريح، مع وجود تقديرات دولية بأنّ الأعداد الحقيقية قد تصل إلى الضعف.
يقولون "استيلاء"... ونقول "احتلال"
لم يستخدم قرار مجلس الوزراء الإسرائيلي كلمة "احتلال"، بل استُبدلت بكلمة "استيلاء" لأسباب قانونية تتعلق بالمسؤولية عن السكان المدنيين، إلا أنّ مسؤولاً إسرائيلياً أكد أنّ هذا هو التعريف الرسمي فقط، بينما المقصود في الواقع هو "احتلال غزة".
وفي التفاصيل، ذكرت صحيفة "إسرائيل هيوم" أنّ المباحثات استغرقت أكثر من 10 ساعات، لافتةً إلى أنّ الجيش الإسرائيلي يستعدّ للسيطرة على مدينة غزة مع ما أسماه "تقديم المساعدات الإنسانية للسكان المدنيين خارج مناطق القتال"!
وكان نتنياهو قد أعلن، في مقابلات عدة، اعتزامه السيطرة عسكرياً على قطاع غزة بأكمله، حتى قبل موافقة الكابينيت، مضيفاً أنّ إسرائيل لا تريد الاحتفاظ بالقطاع وإنما تريد "محيطاً أمنياً" بقوله "لا نريد أن نكون هناك ككيان حاكم". وفي المؤتمر الصحافي، أوضح أنّ خطته بشأن غزّة تفضي إلى تسليم القطاع إلى "هيئة حاكمة تتولى إدارته بشكل مؤقت"، دون توضيح ما المقصود، زاعماً أنّ "الحرب قد تنتهي غداً إذا ألقت حماس سلاحها وسلّمت المحتجزين من دون قيد أو شرط".
تُعرِّف الحكومة الإسرائيلية الخطة كـ"استيلاء" لأسباب قانونية، لكنّ مسؤولاً إسرائيلياً يقرّ بأن المقصود فعلياً هو "احتلال غزة". وتتقدم بثلاث مراحل: إدخال مساعدات إلى قطاع غزة، ثم نقل السكان إلى الجنوب والمخيّمات الوسطى حتى استكمال الإجلاء بحلول 7 أكتوبر 2025، وأخيراً حصار المدينة والسيطرة العسكرية عليها، مع توقعات بتجنيد ستّ فرق لتنفيذ المهمة
في المقابل، عدّت حركة حماس أنّ تصريحات نتنياهو تمثّل "انقلاباً" على مسار مفاوضات وقف إطلاق النار في غزة، واستكمالاً لنهج "الإبادة والتهجير"، متوعدةً الجيش الإسرائيلي بمزيد من الضربات. وأكدت الحركة أنّ "مخططات نتنياهو لتوسيع العدوان تؤكّد بما لا يدع مجالاً للشك أنّه يسعى للتخلّص من أسراه، والتضحية بهم، خدمةً لمصالحه الشخصية وأجنداته الأيديولوجية المتطرّفة".
كما شددت الحركة على أنّ "غزّة ستبقى عصيّةً على الاحتلال، وعلى محاولات فرض الوصاية عليها"، وأنّ "توسيع العدوان على شعبنا الفلسطيني لن يكون نزهةً، وسيكون ثمنه باهظاً ومكلفاً على الاحتلال وجيشه النازي".
تفاصيل الخطة
تتضمن الخطة ثلاث مراحل رئيسيةً، بحسب الإعلام الإسرائيلي:
المرحلة الأولى: إدخال مساعدات إنسانية واسعة النطاق إلى غزة، بهدف تلبية احتياجات السكان المدنيين في مناطق القتال.
المرحلة الثانية: نقل السكان إلى جنوب قطاع غزّة والمخيمات الوسطى، على أن تُستكمل عملية الإجلاء بحلول 7 تشرين الأول/ أكتوبر 2025.
المرحلة الثالثة: حصار مدينة غزة بشكل كامل وسيطرة الجيش عليها، كجزء من الجهود الرامية إلى هزيمة حماس.
يتوقّع محللون انهياراً إنسانياً متسارعاً بفعل الإجلاء الواسع المستعجل والحصار والقتال، فيما لا يبدو أن "الفاتورة القانونية الدولية" تشكل هاجساً لدى تل أبيب مقابل ما تعتبره "إنجازاً تاريخياً" بإعادة احتلال القطاع.
كما تنص على إخلاء جميع سكان مدينة غزة بحلول الموعد المذكور، تمهيداً لعملية عسكرية واسعة تستهدف أيضاً استعادة جميع الأسرى ونزع سلاح حماس بالكامل، مع توقعات بتجنيد ست فرق عسكرية لتنفيذ المهمة.
وتزامن ذلك مع ما ذكرته شبكة "NBC" الأمريكية، نقلاً عن مصادر، بأنّ صور الأقمار الصناعية أظهرت تحركات وتشكيلات لقوات إسرائيلية تشير إلى اقتراب عملية برّية كبرى ووشيكة في غزة، في وقت يمارس فيه وسطاء دوليون ضغوطاً مكثفةً على إسرائيل لمنح المفاوضات فرصةً أخيرة.
ردود الفعل متوقعة ولا تحمل "تهديداً"
وفي أولى ردود الفعل الدولية على القرار الإسرائيلي، دعت وزيرة الخارجية الأسترالية، بيني وانغ، اليوم الجمعة، إسرائيل إلى التراجع عن خططها لفرض السيطرة العسكرية على قطاع غزة، محذرةً من أنّ الخطوة ستفاقم الكارثة الإنسانية.
من جهته، شدّد رئيس الوزراء البريطاني وزعيم حزب العمال البريطاني، كير ستارمر، على أنّ هذا الإجراء "لن يسهم في إنهاء الصراع أو ضمان إطلاق سراح الرهائن، بل سيؤدي إلى مزيد من سفك الدماء".
وفي ألمانيا، صرّح المستشار الألماني فريدريش ميرتس بالقول: "حتى إشعار آخر، لن نوافق على تصدير معدات عسكرية إلى إسرائيل قد تُستخدم في غزة".
إسرائيلياً، رفضت رابطة أهالي الأسرى الإسرائيليين القرار، وعدّته بمثابة "حكم بالإعدام" على أبنائهم، بحسب ما ورد في صحيفة "هآرتس" الإسرائيلية. وقال زعيم المعارضة الإسرائيلي، يائير لابيد، على منصة "إكس": "قرار الكابينت الليلة كارثة ستجلب المزيد من الكوارث. خلافاً لموقف الجيش والأجهزة الأمنية، جرّ بن غفير وسموتريتش، نتنياهو إلى خطوة ستستغرق أشهراً، وستؤدي إلى مقتل الأسرى ومقتل العديد من الجنود، وتتسبب في انهيار سياسي. هذه بالضبط النتيجة التي أرادتها حماس: احتلال بلا هدف وبلا خطة لليوم التالي".
أما رئيس الأركان إيال زامير، الذي اعترض على "الخطة" مطوّلاً، فقال إنها قد تستغرق عامين وستعرّض الجنود للقتل وحياة الأسرى للخطر، مؤكداً أنه سيواصل إبداء موقفه "دون خوف وبشكل موضوعي ومستقلّ".
من جانبه، قال زعيم حزب "إسرائيل بيتنا" أفيغدور ليبرمان، إنّ "القرار الذي تم اتخاذه خلافاً للموقف المهني لرئيس الأركان يُثبت أنّ قرارات مصيريةً تتعلق بالحياة والموت تُتخذ خلافاً للاعتبارات الأمنية ولأهداف الحرب".
ما القادم؟
إنسانياً، يتوقّع محللون أن تتجه الأوضاع إلى انهيار أسرع إذا مضت الخطة بصيغتها الحالية: إجلاء واسع لسكان مدينة غزة ثم حصار وسيطرة عسكرية. فنقل مئات الآلاف جنوباً سيضغط على مناطق منهكة أصلاً، ويُفاقم ندرة الغذاء والماء والدواء، فيما ستتعطل شبكات المستشفيات والصرف الصحي وتتصاعد أخطار الأوبئة والمجاعة.
لا يبدو أن المجتمع الدولي على استعداد للتدخل بكامل قوته لمنع احتلال جديد يحدث على مرأى من العالم اليوم، مع تخطيط متمهل يأخذ وقته لجريمة الحرب، ونقاشات ممتدة داخل دهاليز السلطة في تل أبيب، في الوقت نفسه، لا يظهر أيضاً أن المعارضة الإسرائيلية كذلك قادرة على كبح جماح نتنياهو الذي اقترب أخيراً من تحقيق هدفه النهائي من حرب الإبادة على القطاع
أي حصار طويل مع قتال حضري كثيف، سيرفعان أعداد الضحايا الفلسطينيين، بينما تعجز المنظومة الإنسانية عن الوصول الآمن والكافي. وبحكم الأمر الواقع، ستتحمل إسرائيل التزامات "قوة الاحتلال" تجاه تأمين الاحتياجات الأساسية، حتى لو أسمته "استيلاء" في قرارها، وهي التزامات تصعب تلبيتها وسط نقل قسري محتمل وعمليات عسكرية مستمرة، ما يفتح الباب على انتهاكات جسيمة ومسؤوليات قانونية دولية ثقيلة. لكن لا يبدو أنّ "الفاتورة القانونية" تقع ضمن مخاوف تل أبيب مقابل الإنجاز التاريخي بإعادة احتلال القطاع.
أما سياسياً، فغالباً سوف تقود الخطة إلى مأزق مفتوح: فغياب خطة "اليوم التالي" يعمّق فراغ الحكم ويُضعف أي مسار تفاوضي، فيما تتزايد كلفة العزلة الدولية عبر قيود تسليح وضغوط قانونية ومالية من شركاء غربيين، مع توقعات بأن تتسع ارتدادات الأمن على الحدود ومعابر الجنوبية، ويزداد خطر تفكك النظام المدني في غزة وتحوّل المشهد إلى إدارة قسرية بالقوة مع اقتصاد حرب ومجموعات مسلّحة متشعبة، من دون وقف نار مقترن بصفقة محتجزين وترتيبات إدارة مدنية قابلة للحياة.
لذا، فربما تلوح في الأفق المنظور ما يسميه البعض "حرب استنزاف"، لكن دون توازن قوى، وبلا أفق سياسي أو استقرار إنساني.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.