بوجه متعب وشاحب وروح مكسورة، تعود صبيّة من خاطفيها، وتنتشر شهادات يومية عن انتهاكات للحريات الفردية، وتُتداول تسريبات لجسّ النبض عبر وسائل التواصل الاجتماعي حول قرارات حكومية مرتقبة، فيتجادل السوريون ويعلو الصوت بين لجان إلكترونية ومؤيدين للرئيس الانتقالي أحمد الشرع، ومعارضين له. البلاد على كفّ عفريت؛ غلاء فاحش مع قوة شرائية ضعيفة للغاية، و90% من السوريين وفق أرقام "الأمم المتحدة"، تحت خط الفقر.
مصطلحات جديدة تدخل على المعجم السوري بعد "مين ربّك" و"نحنا الدولة ولاك"، كـ"ألطم بترتاح" و"عوّي ولاك" و"الشرع عمّك وعمّ ولادك". ضحايا في الساحل ولا أخبار عن تقرير "اللجنة الوطنية للتحقيق وتقصّي الحقائق في أحداث الساحل".
أنباء عن اتفاقية مرتقبة مع إسرائيل. عقود اقتصادية واستثمارية بالملايين تأتي الأنباء عنها بشكل متتالٍ دون تفاصيل إلا في ما ندر في قطاعات الطاقة والإعلام والموانئ وغيرها، وكأنها أمر واقع!
هل كان رحيل الأسد كافياً؟
هي فوضى ما بعد الحرب. نتلمّس جميعاً طريقنا نحو ما نرغب في أن نراه في سوريا غداً. فقد البعض الأمل، ويبحث آخرون عنه في كومة قش، أو يحاولون النظر إليه من الغربال ولا يرونه وينكرون عدم الرؤية لأنّه -أي الأمل- لا يُعدّ رفاهيةً بل هو أوكسجين في ظلّ المشاهد السابقة، بعد حرب مدمّرة لسنوات طويلة رافقتها كوارث لا تُعدّ ولا تحصى، اجتماعياً واقتصادياً وسياسياً.
ما نعيشه اليوم قد يبدو كله للحظةٍ طبيعياً للغاية بعد 14 سنةً. مَن الأحمق الذي يرى أنّ رحيل الأسد كافٍ لإعادة إعمار البلاد وإراحة العباد؟
رحيل الأسد لا يكفي لتكوين وإنشاء سوريا تشبهنا كسوريين، إذ إننا بالأصل نختلف في ما بيننا في تعريف أنفسنا وسوريا تالياً، فهناك من يتقوقع ضمن طائفته، وآخر ينتمي إلى عرقه، وثالث يعيد أصوله إلى عصور مضت قبل أكثر من ألف عام سعياً وراء وهم مجد يحققه عبر حفنة من الشعارات والأغاني الوطنية الجديدة أو القديمة، لا فرق
خلال سنوات الثورة الطويلة، كانت الإجابة النموذجية والآمنة عمّا تريده شريحة من السوريين ممن ثاروا على الأسد، لتفادي نقاش غير مرغوب فيه أو جدال عقيم، هي الوصول إلى سوريا "تشبهنا كسوريين"، وبعيداً عن لا منطقية الطرح، إذ لا يمكن لبلد أن يتشابه بشكل متطابق وكُلّي مع سكانه، وتحديداً إذا كان يضم إثنيات وعرقيات وطوائف متنوعةً ومختلفةً. إلا أنه يمكن الاتفاق على مبادئ وأسس عامة تجعل التشابه ينحصر في خطّ عام يتضمن نقاطاً أساسيةً ومعروفةً وبديهيةً بعد حرب طويلة وشهداء ومعتقلين ومهجّرين: رحيل الأسد، ومحاسبته ومن أجرم، وتحقيق العدالة الانتقالية، وإعادة بناء البلاد، ودستور يحترم الجميع ليحترمه الجميع. هذا عنوان عريض "مانشيت"، ونتناقش في التفاصيل لاحقاً لنحدد هوية البلاد: إسلامية أو علمانية؟ وقوانين أحوال شخصية عصرية ومدنية أو تستمدّ أساسها وتشريعها من الفقه الإسلامي؟
بالتأكيد، رحيل الأسد لا يكفي لتكوين وإنشاء سوريا تشبهنا كسوريين، إذ إننا بالأصل نختلف في ما بيننا في تعريف أنفسنا وسوريا تالياً، فهناك من يتقوقع ضمن طائفته، وآخر ينتمي إلى عرقه، وثالث يعيد أصوله إلى عصور مضت قبل أكثر من ألف عام سعياً وراء وهم مجد يحققه عبر حفنة من الشعارات والأغاني الوطنية الجديدة أو القديمة، لا فرق.
رحل الأسد، وهي الخطوة الأهم والأكبر، إذ كان بقاؤه العائق الأبرز أمام تغيير شامل للوصول إلى بلاد قادرة على الحلم. لكن لا شيء آخر حصل سوى أمر واقع، لننسى العدالة الانتقالية وعذابات أهالي المعتقلين وآمالهم بمحاسبة جلّادي أولادهم وأهلهم وأحبابهم. ها هو ذا محمد حمشو (اليد اليمنى التجارية لماهر الأسد) يزور دمشق، وفادي صقر المسؤول في قوات الدفاع الوطني (أحد أذرع الأسد العسكرية لسنوات)، يتجوّل في العاصمة غير آبه بما فعل، وربما يحضّر لما سيفعله لاحقاً، وكأنّه يشمت بالأسد وبمن ثار عليه في الوقت نفسه: هأنذا في الشارع، فما أنتم فاعلون؟! "عوّي ولاك ع وسائل التواصل فها هنا أنا باقٍ" ما أرادت السلطات الحالية أن أبقى، ولتذهب كل تضحياتكم هباءً منثوراً!
أو هل كانت مشكلتنا مع الأسد الاقتصاد؟
من قال إنّ سوريا، ولكي تشبه أولادها، عليها أن توقّع عقوداً بالمليارات فقط؟ أو أن توقع اتفاقية "استسلام" مخزيةً مع إسرائيل؟ من الذي حلّل وأفتى أنّ مشكلة السوريين مع الأسد لعقود كانت تتعلق بالاقتصاد وحده؟ إن كانت لدى "شبيحة" السلطة الحالية ولجانهم الإلكترونية ذاكرة السمكة، فالأسد سقط قبل أشهر قليلة، وذاكرة الآلاف لم تُمحَ بعد، وبعد نضال شعبي استمرّ لـ14 سنةً لا 11 يوماً كما يقولون، وكان الهتاف الأول في مظاهرات درعا: "الشعب السوري ما بينذل"، وأرشيف الثورة موجود يمكنكم العودة إليه.
هل أقول إنّ الشرع يشبه الأسد؟ لا، لا أقول هذا، بل أقول إنّ الصمت يُدفع ثمنه دائماً وغالياً ولا أعتقد أن سوريّاً واحداً يملك الحدّ الأدنى من المنطق والعقلانية يودّ أن يعيد التجربة.
لا شكّ أنّ الجانب الاقتصادي مهمّ للغاية، لكن سوريا لن تشبه أولادها ولا أحلامهم بناطحات سحاب وعقود مليارية وأحلام على الورق، وأن تنضمّ إلى محور "دول العالم الحرّ" (الاسم وحده كفيل بالضحك والسخرية بعد مجازر المنطقة لسنوات). ستشبهنا عندما تكون هناك كرامة للمواطن وللسوري أينما حلّ، والحق في أن يمشي دون خوف من أن ينتهك أي شخص مهما علا شأنه حريته الشخصية، وأن يثق بقضاء حرّ ونزيه ومستقلّ، وأن يعبّر عن رأيه بمن يريد دون أن يطالبه بأن "يعوّي"، وأن تنتهي ظاهرة اللجان الإلكترونية وحالة التشبيح المستمرة، وأن يعترف الجميع بحقوق الجميع بغض النظر عن طائفتهم وعرقهم ودينهم ومذهبهم وأفكارهم.
تشبه سوريا السوريين عندما يشعرون بأنّ تضحياتهم لم تذهب هباءً، وأنّ الأحلام والمشاعر الوطنية لا تُبنى عبر فيديوهات "التيكتوك"، ولا بأمجاد الماضي، وأن يحترم من في السلطة إعلاناً دستورياً هو من وقّعه وعيّن من كتبه له، وأن يعرف من في السلطة أنّ للسوري الحق في المساءلة والحصول على حرية المعلومات في المشاريع الحكومية، وأن يكون الجميع سواسيةً أمام القانون دون انتظار إذن "الشيخ" الذي حلّ محلّ سيادة الضابط خلال عهد الأسد (لا أراهما شخصياً أكثر من "مدام فاتن" في الفيديو الشهير).
سوريا ستشبهنا عندما نؤمن بأنّنا جميعاً في المركب نفسه، وهذا الإيمان لن يأتي دون تحرّك من الجميع، وبأنّ الانتهاكات الحاصلة قانونياً ودستورياً وعلى صعيد الحريات الشخصية والفردية وفي الساحل وغيره، إن لم تطَل أحدهم فإنّ سكوته عنها اليوم سيدفع ثمنه غداً، تماماً مثلما حصل عندما وصل حافظ الأسد إلى السلطة في السبعينيات، وصمت الجميع على تحركاته.
هل أقول إنّ الشرع يشبه الأسد؟ لا، لا أقول هذا، بل أقول إنّ الصمت يُدفع ثمنه دائماً وغالياً ولا أعتقد أن سوريّاً واحداً يملك الحدّ الأدنى من المنطق والعقلانية يودّ أن يعيد التجربة.
سوريا التي تشبهنا لا تحدث فيها اعتقالات تعسفية. وفق الشبكة السورية لحقوق الإنسان، تمَّ توثيق 658 حالة اعتقال تعسفي/ احتجازاً في النصف الأول من عام 2025، بينهم 33 طفلاً و16 سيدةً (192 حالةً منها على يد الحكومة الانتقالية، بينهم طفل واحد وأربع سيدات). كما وثّق التقرير 378 حالة اعتقال على يد قوات سوريا الديمقراطية، بينهم 32 طفلاً وخمس سيدات، وسجّل 88 حالةً بينهم سبع سيدات على يد جميع فصائل المعارضة المسلحة/ الجيش الوطني.
لا تزال هناك إذاً حالات اعتقال وأفراد يُقتلون وخرق للدستور وغياب للشفافية الحكومية، وهذه الأمور ليست رفاهيةً، ولا تبني سوريا أقوى وأكثر جمالاً ولا تنوّعاً، وإن مضت البلاد في هذا الطريق فهي بلاد لا تحترم مواطنيها ولا أبناءها، لذا فهي لن تشبه أيّ سوري، ولن تستطيع أن تقاوم الأعداء في الجنوب ولا أن تبني مستقبلاً أيضاً.
أمل أخير يا سوريا
ما حصل وما يحصل في السويداء من انتهاكات ودماء وإهانة واستهانة بحق الدروز والبدو، ولعبة غير بريئة تمارسها السلطة والهجري (الشيخ حكمت)، لن يبني بلداً. هذا أمر محتوم ولا يحتاج إلى محللين على مستوى عالٍ من الخبرة والذكاء والقدرات الخاصة.
إما أن نتصرف كسوريين بما يناسب مصالحنا كشعب متنوع الخلفيات الثقافية والسياسية والعرقية والدينية، ونقبل بأننا جميعاً يمكننا العيش معاً تحت مظلة العدالة والقانون والمساواة، وإدراك أنّ طريق التحرير طويل، أو أنّ ما تعيشه سوريا اليوم قد لا يكون سوى قطرة من سيل كوارث، لم تأتِ بعد
بالعودة إلى الشبكة، فإنّ 814 شخصاً قُتلوا وأُصيب 903 آخرون على الأقل منذ 13 تموز/ يوليو الماضي. هل تتخيلون أنّ سوريا تُبنى بدماء أبرياء قُتلوا لخلافات سياسية وعنتريات وخيالات سخيفة لإعادة تاريخ مضى قبل ألف عام؟ ستبنون سوريا الجديدة بالدماء و"الشوارب" والانتهاكات و"عوّي ولاك"، لا بالعلم والمعرفة والعدالة الانتقالية؟ بئس البلاد هي إذاً!
في شباط/ فبراير 2023، نشرت النص التالي هنا في "رصيف22"، تحت عنوان: "مجموعة أسئلة عن سوريا الملوّنة... هل نجرؤ على الحلم؟"، وجاء فيه: "قد يبدو الكلام سهلاً وبسيطاً ولا يحتاج سوى إلى عصا سحرية تعيدنا إلى ما نظنّه عصر الديمقراطية الذهبي في الخمسينيات (وهي معلومة غير صحيحة بشكل مطلق بالمناسبة)، لكننا اليوم أمام خيارين لا ثالث لهما؛ إما أن نتصرف كسوريين بما يناسب مصالحنا كشعب متنوع الخلفيات الثقافية والسياسية والعرقية والدينية، ونقبل بأننا جميعاً يمكننا العيش معاً تحت مظلة العدالة والقانون والمساواة، وإدراك أنّ طريق التحرير طويل، أو أنّ ما تعيشه سوريا اليوم قد لا يكون سوى قطرة من سيل كوارث، لم تأتِ بعد".
الكلام يعيد نفسه بعد سنتين ونيّف، ولا يزال موقفي موقف آلاف آخرين مثلي: نريد سوريا تشبهنا، أبناؤها نحن، سوريا متنوعة تحت سيادة القانون والدستور بلا دماء ولا تفرقة... ولا يزال الأمل ممكناً إن أردنا! هي اليوم فرصة ذهبية لنا، وهو النداء الأخير؛ فإما أن نكون أو لا نكون. إما أن تكون سوريا لنا جميعاً كسوريين بكل انتماءاتنا وطوائفنا وقومياتنا وطناً جامعاً لكلّ أفراده، وإما فلا أحد منّا رابح ولا حتى من امتلك السلطة اليوم، فقد يخسرها غداً والأسد خير مثال.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.