تندرج هذه المادة ضمن ملف "12 سنة على رصيف22 وما زلنا نقول لا". للاطلاع على مواد الملف كاملة، يُرجى الدخول إلى الرابط.
كيف كانت سنة 2025؟
أحياناً أشعر أنني لا أريد أن أجيب عن هذا السؤال. يعتريني شعور بعدم القدرة على الردّ. يرددون دائماً على مسامعي عبارة "بكرا أحلى". وننتظر "بكرا". وفي الانتظار الذي يبدو لنا نحن الصحافيين أنه سيطول كثيراً، سأتحدّث عن اليوميات التي أعيشها، في هذه المهنة، وفي رصيف22 على وجه التحديد. والحديث هذا يُراد به أن يقدر من يقرأ هذه السطور على تصوّر حياتنا كصحافيين في هذا المكان الذي نُحب.
في يوم من الأيام السوداء التي لم تفارقنا منذ 7 تشرين الأول/ أكتوبر 2023، وبينما كنت أتابع الأخبار، قرأت اسم زميلنا من غزّة في عناوين فضائيات عربية وعلى مواقع التواصل. عرّفوا به كـ"شهيد" سقط جرّاء غارة إسرائيلية على القطاع. في لحظة، تحوّل محمد، من شاب مُندفع يريد أن يدوّن وينقل ما يحصل له ولأهله، إلى ماضٍ. فكرة البحث عن حقيقة لا نُريد أن نصدّقها هي بحدّ ذاتها فعل مُرهق. مضى محمد وبقينا نحن في يومياتنا، ننتظر "بكرا".
في خضم هذه اليوميات، أحاديث يومية عن الغارات، عن القتل، عن الجوع، وعن المجازر. نتنقّل كُلّ يوم في اجتماعاتنا التحريرية بين الموت والبؤس. نحاول البحث عن أخبار مُفرحة أو عن أخبار فيها شيء من "الأمل" كي نقول إنّ هناك ضوءاً في آخر أحد الأنفاق الكثيرة التي نتنقّل بينها كُلّ يوم. نبحث كثيراً، لكننا نعود من جديد إلى حيث نبدأ يومياتنا؛ قتل، موت، جوع، دمار، ومجازر… إلخ.
بينما كنت أتابع الأخبار، قرأت اسم زميلنا من غزّة في عناوين فضائيات عربية وعلى مواقع التواصل. عرّفوا به كـ"شهيد" سقط جرّاء غارة إسرائيلية. في لحظة، تحوّل محمد، من شاب مُندفع يريد أن يدوّن وينقل ما يحصل له ولأهله، إلى ماضٍ. فكرة البحث عن حقيقة لا نُريد أن نصدّقها هي بحدّ ذاتها فعل مُرهق. مضى محمد وبقينا نحن في يومياتنا، ننتظر "بكرا"
في يومياتنا أيضاً نقاش أوسع وأعمق من الخبر بحدّ ذاته. في يومياتنا نقاش أخلاقي دائم. شاهدنا في سوريا ما جرى في الساحل من تنكيل. شاهدنا أيضاً ما جرى في السويداء. تحدثنا كثيراً عن التغطية المثلى. وأجمعنا، وهذا ما أعتقد أنه أكثر ما يميّزنا، على أننا لن نكون جزءاً من انتهاك خصوصية الضحايا. بين ثقافة "الكليكس" والحفاظ على مبادئنا، النقاش ينتهي بسرعة، قبل أن يبدأ. رفضنا عرض أيّ فيديو يأتينا من هناك. اكتفينا بنقل الأخبار، المجازر، والاشتباكات. لكننا كنا في الوقت نفسه نشاهد الفيديوهات ونتأثر. وننتظر "بكرا" الذي لا يأتي.
في يومياتنا، محاولات كثيرة لأن نُبقي على ما تبقّى من قدرة لدينا على الاستمرار. بين الحين والآخر، نخضع لجلسات علاج نفسي جماعي. نتحدث عن مشاغلنا ومشكلاتنا و"أمراضنا"، تحديداً تلك التي اكتسبناها من كمّ الحزن الذي نعيش معه يومياً، ومطلوب منّا أن ننقله للعالم ونوصل صوت الناس المفجوعة كل يوم. الجلسة الأخيرة لم أستطع أن أشارك فيها، لتعارضها مع ارتباط عمل سابق عليها. لكنني شاهدت التسجيل. وشاهدت فيه كمّ التعب الذي وصل إليه الفريق. بحثت عن "بكرا" في ست ساعات من العلاج الجماعي، ولم أجده.
في يومياتنا أيضاً، أن نضطر إلى التعامل مع نقص التمويل الذي نعاني منه، والذي ازداد كثيراً منذ مطلع هذا العام. أن نُفكر في كيف سننقل مآسي شعوبنا، وفي الوقت نفسه نخاف من مستقبلنا وعليه. أن نضطر إلى اتخاذ قرارات صعبة كي نستمرّ. قرارات كنت أعتقد أنني لن أواجهها يوماً. في يومياتنا، ويومياتي، نسيت كُل ما كنت أعتقده بعيداً أو مستحيلاً، وتعلّمت وتعلّمنا أننا نحيا اليوم، ونبقى اليوم، ونكتب اليوم، ولا ننتظر "بكرا" مهما كان هذا "البكرا".
التخطيط؟ في يومياتنا نُخطط للكثير، لكنّه يبقى من ضمن هذه اليوميات التي سننتظر مثلها غداً أو بعده، أو بعد عام أو أكثر. نُخطط كيف نصل أكثر، ونوصل أصواتاً أكثر.
انتصاراتنا صغيرة في أغلب الأحيان، لكنّها بالنسبة لنا تُحدث الفارق. فحين سقط نظام بشار الأسد احتفلنا، عدَدنا سقوطه انتصاراً لنا أيضاً، لأننا نؤمن بالحرية ونرفض أشكال الديكتاتورية كلها... وحين صدرت مذكرات التوقيف عن المحكمة الجنائية الدولية بحق بنيامين نتنياهو ومسؤولين إسرائيليين، فرحنا، لأنّ جزءاً ولو بسيطاً، ولو صوريّاً من العدالة، يتحقق
لكن في هذا كله، كيف نستطيع أن نعمل يومياً؟ الأمور بسيطة. انتصاراتنا صغيرة في أغلب الأحيان، لكنّها بالنسبة لنا تُحدث الفارق. انتصارات تجعلنا نزيد من إيماننا بما نفعله. حين سقط نظام بشار الأسد احتفلنا. عددنا سقوطه انتصاراً لنا أيضاً، لأننا نؤمن بالحرية ونرفض أشكال الديكتاتورية كلها. احتفلنا لأنّ سقوط طاغية يعطينا الدافع لكي نُكمل وندافع عن حقوق الناس وحرياتهم.
حين صدرت مذكرات التوقيف عن المحكمة الجنائية الدولية بحق بنيامين نتنياهو ومسؤولين إسرائيليين، فرحنا. عددنا أنّ جزءاً ولو بسيطاً، ولو صوريّاً من العدالة، يتحقق. شهدنا كُل المجازر التي ارتكبها هؤلاء. تابعنا وغطّينا كلّ آلام أهل غزة والفلسطينيين بشكل عام. وتابعنا وغطّينا ما فعله هؤلاء بلبنان. فرحنا نعم. انتصار صغير لكنّه بالنسبة لنا مجزٍ. ليس كافياً لكنه يقول شيئاً.
نفرح بالجوائز التي نحصدها. نفرح بيومياتنا وتواصلنا وإنجازاتنا مهما كانت بسيطةً. نعم نفرح ولا ننتظر "بكرا". نحاول قدر المستطاع أن نصنع هذه اليوميات على قدر آمالنا في حياة أفضل لنا جميعاً.
في هذا العام، في عيدنا الـ12، لا ننتظر. بل نستمرّ.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.