لم يجرّب سكان قطاع غزّة وحدهم ذلك القهر المميت الذي يرافق تشييء الشعوب وتقديس جلّاديها من قِبل داعمي ومناصري أيديولوجيا الطغاة من خارج مناطق حكمهم؛ أي إنكار آدمية تلك الشعوب ومعاملتها معاملة المادة أو الشيء الذي يجب أن تسيّره سلطة الطغاة وفقاً لصوابيتها ومصالحها، بما يمنح داعمي النظام المتسلط شعوراً بالشراكة الأيديولوجية معه وبالفوقية على الشعب المقهور تحت سلطة ذلك النظام، على اعتبار أنّ الشعب مجموعات من الغوغاء غير المؤهَّلة للتصرّف في حياتها، وعليه تجب إدارتها وتحريكها عبر نظامٍ أبوي من أجل خيرٍ عظيم تعجز الغوغاء عن استيعابه، وحتى تحقّق ذلك الخير العظيم يكون على الشعوب تحمّل كل أصناف العذاب والشقاء الذي يجلبه النظام الأبوي المتجبّر.
ويوثّق التاريخ تجارب شعوبٍ كثيرة وقعت تحت نير "الاستعمار الشعبوي"، حين تُمجّد الجماهير طاغيةً -لا تعيش تحت حكمه- وتقدّم خطابها الأيديولوجي على المعاناة اليومية للشعوب التي تعيش تحت حكمه، كما هو الحال مع نظام حكم هوغو تشافيز في فنزويلا من العام 1999 حتى العام 2013، والذي دعمه اليساريون في أمريكا اللاتينية وأوروبا والعالم العربي وعدّوه نموذجاً لمقاومة الرأسمالية، بينما كان شعبه غارقاً في دوامة لا تنتهي من الأزمات. تُضاف إلى هذا المثال قائمة طويلة من أنظمة الحكم الشيوعي التي يُنظر إليها شعبوياً كنماذج ضد الإمبريالية والرأسمالية، بينما تعيش شعوبها أنماط حياةٍ قمعية كارثية.
التضامن لا يعني الوصاية الخارجية، فإما أن يكون تضامناً نابعاً من منطلقاتٍ أخلاقية ذاتية لدى المتضامنين، مع إقرار هؤلاء المتضامنين بأن تقرير المصير واتخاذ القرارات ملكية خالصة للفلسطينيين لأنهم وحدهم الذين يعرفون ما هو الخير لهم، فهذه قضيتهم. أما المتضامن، فلا ينبغي أن يخرج عن دعم قرارات الفلسطيني، لا الاختيار بدلاً منه
وفي العالم العربي، كان نظام صدام حسين؛ بين عامَي 1979 و2003، الذي عدّه كثيرٌ من سكان الدول العربية رمزاً لـ"القومية والعروبة"، ورأوا في رأسه "البطل الإسلامي" الذي يعيد إلى الذاكرة أمجاد المسلمين، بينما كان الشعب العراقي يرزح تحت الحصار والحروب والقمع والإنكار، الأمر الذي يشبه إلى حدٍّ كبير الواقع المعاصر الذي يعيشه سكان قطاع غزّة من خيانةٍ أخلاقية تحت مبررات "مثالية متوهَّمة".
أما السمة المشتركة بين كل هذه التجارب التي حَوّلت فيها "جماهير المثالية والصوابية" معاناة الشعب إلى "بطولات زائفة"، فهي العدمية والعجز والارتكاس خلف دماء الضحايا والتنظير من فوق شقائهم، ثم الاكتفاء بالقيمة المعنوية، والمادية في كثيرٍ من الأحيان، التي تأخذها تلك الجماهير العدمية كتعويض عن ضعفها وعجزها عن التفاعل مع الحياة كبشر منتجين أو ذوي هدف ورؤية للحياة تتجاوز خطاب العدائية غير المبرَّرة لمظاهر الحياة العادية. إذاً، هي العدمية العدائية للحياة، وانتظار بطولات جاهزة حتى إن جاءت على حساب دماء الأطفال ودمار المدن، وانهيار أجيال فلسطينية كاملة.
أن تصعد على آلام المعذّبين… هل من دونيةٍ أقبح؟
على اختلاف نوع الوهم، أو الأيديولوجيا التي يدافع عنها جمهور العدميين من مثاليين وصوابيّين وغيرهم، فإنهم في نهاية المطاف يعرفون أنهم بدفاعهم عن عقائدهم المنتهية الصلاحية إنما يدافعون عن عجزهم أمام الحياة، بينما هم مقتنعون بأن العقائد والدوغمات التي يدافعون عنها لم تعد قابلةً للتوظيف في الحياة المعاصرة، ما بعد الحداثة، كتلك الشعارات العامة والمفتوحة، مثل هزيمة الرأسمالية أو القضاء على الشرّ، أو إعلاء راية الإسلام واستعادة أمجاد الأمة عند الإسلاميين.
وعلى العكس تماماً من جمهور العدميين الخامل، جاءت حركة "حماس" كحركة راكدة معرفياً وسياسياً، محافظة، وشعبويّة، لتنتحر بسكان غزّة في معركة لطالما هرب منها الجميع سواء في محور الممانعة، أو محور الشعبوية العدمية المشجعة لأي فعل فوضوي عشوائي يثير حياتهم الرتيبة شريطة ألا يؤثِّر ذلك الفعل على جودة حياتهم.
فأحيت "حماس" بانتحارها "الغطرسة الدونية" للجمهور العدمي حين منحته لحظات نشوة جسّدت الخيالات التي تدور في رأسه عن المعجزة التي ينتظرها ضد الرأسمالية والاستعمار وإسرائيل والغرب، وذلك دون أن يضطر إلى التحرّك من مكانه. هذه الحالة من تجسيد البطولة المتخيّلة، دفعت ذلك الجمهور إلى ممارسة الاستعلاء ضد أي شخص يحاول سحب بطولاتهم الجاهزة منهم، حتى إن كان الغزّي نفسه هو من يطالبهم بالكف عن "أسطرتِهِ"، واستخدام معاناته لرفع "الأنا الأيديولوجية" لديهم.
لم يتوقّف الأمر عند إنكار الغزّي وتهميشه وعدم الاكتراث بآلاف الضحايا في مدينة تحترق، سواء من قِبل حركة "حماس" ومثيلاتها، أو من جمهور المناصرين والداعمين في الدول العربية والخارج، بل تم تخوين الغزّي أيضاً في حال طالب بحياته، حيث إنّ كل طرف منهما قد حصل على ما يريده ولن يسمح لأحد بسلبه ما حصل عليه مهما كانت الظروف.
حجزت "حماس" لنفسها مقعداً كطرف رئيسي ضد إسرائيل، اعتقدت أنها يمكنها من خلاله احتكار كل الأضواء والشاشات، وأصبحت تستطيع أن تمارس سياساتها المفضلة في ابتزاز العالم، ولكن سرعان ما اتضح لها أنها كانت مخطئة بعد أشهر معدودة من بداية حرب الإبادة الإسرائيلية على غزّة. أما جمهور المشجعين، فوجدوا محتوى يحفّز الأوهام في رؤوسهم، ويمنحهم قيمةً معنويةً، وماديةً أيضاً، ويمكّنهم من الاستمتاع بدور مناصري الحق، وفقاً لاعتقاداتهم، في معركة الخير ضد الشر، دون أي جهدٍ منهم.
تحدث الكارثة حين تستجيب الحركات الإسلامية واليسارية، التي تعدّ نفسها قوى فلسطينيةً وطنيةً، لاشتراطات تلك الجهات المتضامنة، فتجد غزّة حاضرةً في كل المحافل، مرةً كقضية أقليات، ومرةً كقضية إسلامية، ومرةً كقضية إنسانية، ولكنها نادراً ما تحضر كقضية فلسطينية سياسية، أي قضية شعب يطالب بتقرير مصيره. هذا لا يعود بالنفع إلا على إسرائيل
وبالحديث عن الخير والشر، ربما نكون متأكدين من الطرف الذي يمارس دور الشر في سرديتنا الفلسطينية. مع ذلك، فإنّ أولئك الذين يتنازعون على دور الخير يبقون محل شكٍ دائماً، سواء كانوا حركات إسلاميةً، أو نضاليةً أخرى، أو تضامنيةً وإغاثيةً، فما يقارب المئة سنة من الصراع مع الاحتلال الإسرائيلي دون أيّ نهاية محتملة، هذا يدفعنا لا محالة إلى التساؤل حول أهداف ودوافع من يعدّون أنفسهم ممثّلي الخير يعملون لصالح سكان غزّة، والفلسطينيين عموماً؛ هل هم جزءٌ من التاريخ الفلسطيني أو مجموعات طارئة تزيد من آلام الغزّيين لتصعد عليها؟
عندما تصبح المطالبة بالحياة خيانةً
من بين العديد من الرهانات الخطأ التي بنت عليها "حماس" تصوراتها وخططها لما يتبع هجوم السابع من تشرين الأول/ أكتوبر 2023، كان الأبرز ذلك الرهان حول أن جبهات الإسناد لغزّة ستُفتَح من كل فجٍّ وصوب، من الجنوب اللبناني، ومن سوريا، ومن العراق واليمن، ومن إيران نفسها، هذا ما أظهرته وثائق ورسائل قال الجيش الإسرائيلي إنه عثر عليها في القطاع، مع إشارة إلى تبادلها داخل محور الممانعة منذ العام 2021، وقيل إنها تكشف الاعتقادات التي كانت لدى "حماس" بشأن جبهات الإسناد.
لكن الحركة تفاجأت بعد ذلك بأنها دخلت وحدها حرباً وجوديةً مع إسرائيل. أما الإسناد الذي كانت تتوقعه، فاقتصر على "مُشاغَلة إسرائيل" عبر حزب الله اللبناني أو ميليشيات الحوثي اليمنية. أما بشكل أساسي، كان الإسناد هو الهتافات في بعض العواصم العربية من "جمهور مشجعي وناشطي الممانعة".
هذا الأمر الذي حوّل ورقة الإسناد إلى مأزق لـ"حماس" يجعل المواجهة حرباً بلا نهاية، فهي لن تستطيع الاستسلام بعد أن قدّمت نفسها كطرف رئيسي ووحيد يحارب إسرائيل، كأنما هو قادمٌ من زمن الأنبياء والمعجزات، ربما لن يكون ذلك دقيقاً إن قلنا إنّ هذا هو السبب الوحيد خلف عدم استسلام أو تراجع "حماس" حتى الآن. فـ"حماس" أيضاً حركة دينية أصولية متطرِّفة، تمتلك اعتقاداً راسخاً بأنها تنفِّذ إرادة الله بالوكالة عنه، وتالياً فإنّ هزيمتها تعني هزيمة الإله نفسه.
مع ذلك، فإنّ الموضع الذي حاصرت "حماس" نفسها فيه كآخر أعداء إسرائيل، وآخر المدافعين عن الأمة والقضايا العادلة، ضاعفَ تعقيد المشهد، فقد وضعت نفسها، وورّطت الفلسطينيين في غزّة معها بين دورين لا ثالث لهما: إما بطل، أو جثة، وهما دوران لا يتقبل جمهور الإسناد غيرهما من الغزّي، سواء كان مقاتلاً أو مدنياً. وبرغم أنّ "حماس"، مؤخراً وعبر خطاباتها، باتت تلوم جمهورها المساند بكثرة وتتهمه بالتخاذل، إلا أنّ ذلك لم يحرّك جمهور المتفرجين لأكثر من دفعِهِم للإقرار بأنهم بالفعل لا يملكون شيئاً لتقديمه، وحمداً لله أنّ هناك أبطالاً في حركة "حماس" يدافعون عنهم وهم العاجزون المستضعفون…
ولا بد من الإشارة إلى أنّ قادة حركة "حماس" طالما أنّهم خارج غزّة يعتاشون على حملات تمويل المقاومة، وتضخّم صورتهم كآخر المدافعين عن قضايا الأمة ضد الاستعمار، والهيمنة الغربية، فإن لا مشكلة لديهم في استمرار هذا المأزق واستمرار العلاقة المركبة مع جمهور الحركة -"الوهم مقابل المناصرة"- لأشهرٍ قادمة يفتّشون فيها عن سبل للبقاء. وعليه، فإنّ الضحايا في المشهد هم سكان غزّة فحسب، الذين تواجَه استغاثاتِهم ومطالبتهم بالحياة بموجاتٍ من الاتهام بالخيانة -دون أن يعرفوا خيانة لمن؟- بالإضافة إلى الشتائم والتشهير من جمهور المتفرجين الذين يمارسون "الخيانة الأخلاقية" ضد قطاع غزّة، في مقابل استمرار شعورهم بالنشوة لمجرد أنّ إسرائيل توجه مدافعها نحو غزّة، والحرب مستمرة، والخطابات البطولية الدرامية لا تتوقف.
أسوأ ما في العلاقة بين الفلسطيني الموجود في غزّة والمتضامنين معه، هو أنّ صوت أولئك المتضامنين أعلى من صوته، بل إنهم يتحدثون بلسانه، ويمارسون الوصاية ضده، ويحوّلونه -بقصدٍ أو دون قصد- إلى مادة، كلٌ يريد توظيفها في خدمة أهدافه، ومصالحه، وتحقيق طموحاته، وهذا ما يمكن تسميته "بالتضامن المشروط"
على أحدهم أن يقولها بصوتٍ عالٍ: "التضامن لا يعني الوصاية"
أسوأ ما في العلاقة بين الفلسطيني الموجود في غزّة والمتضامنين معه، هو أنّ صوت أولئك المتضامنين أعلى من صوته، بل إنهم يتحدثون بلسانه، ويمارسون الوصاية ضده، ويحوّلونه -بقصدٍ أو دون قصد- إلى مادة، كلٌّ يريد توظيفها في خدمة أهدافه، ومصالحه، وتحقيق طموحاته، هذا ما يمكن تسميته "بالتضامن المشروط". فتجد الإسلاميين يشترطون أن تكون غزّة ملفاً ضمن قضايا الأمة الإسلامية والمشروع الإسلامي لمناصرتها، أما اليساريون وناشطو المؤسسات الأهلية، فيريدون غزّة قضية أقلياتٍ وسكانٍ أصليين كشرطٍ للتضامن والعمل من أجلها، بالإضافة إلى المؤسسات الإغاثية التي تريد من غزّة أن تكون مشروعاً للاستجابة الإنسانية الطارئة…
وتحدث الكارثة حين تستجيب الحركات الإسلامية واليسارية، التي تعد نفسها قوى فلسطينيةً وطنيةً، لاشتراطات تلك الجهات المتضامنة، فتجد غزّة حاضرةً في كل المحافل، مرةً كقضية أقليات، ومرةً كقضية إسلامية، ومرةً كقضية إنسانية، ولكنها نادراً ما تحضر كقضية فلسطينية سياسية، أي قضية شعب يطالب بتقرير مصيره. وعليه، تضيع العلاقة الطبيعية المفترضة بين الفلسطيني وإسرائيل، وتتشتت بين قضايا تخدم المتضامنين ولا تخدم الشعب الفلسطيني، وهذا لا يعود بالنفع إلا على الاحتلال. فما الذي يريده الاحتلال الإسرائيلي أكثر من تشتيت القضايا الفلسطينية ونزعها من سياقها، ليتمكّن من تنفيذ مشاريعه الاستعمارية على الأرض الفلسطينية بهدوء؟
إحدى أزمات الحرب الراهنة على غزّة، وأزمات القضية الفلسطينية بشكلٍ عام، أنّ التضامن يتحوّل في النهاية إلى حالة من الوصاية، وفرض الاشتراطات، في حين أنّ كل ما يحتاجه الشعب الفلسطيني بغزّة هو علاقة تواصلية مباشرة مع جميع أطراف الصراع الفلسطيني الإسرائيلي من أجل الوصول إلى تفاهمات مشتركة، تنهي حالة التلاعب والاستغلال للصراع وتمكّن الفلسطينيين من تقرير مصيرهم باستقلالية، وذلك لا يمكن أن يتحقّق إلا عبر تأكيد الفلسطينيين أن التضامن لا يتطلّب الوصاية الخارجية، سواءً من العالم العربي أو الغربي. فإما أن يكون تضامناً نابعاً من منطلقاتٍ أخلاقية ذاتية لدى المتضامنين، مع إقرار أولئك المتضامنين - أفراداً ومؤسسات وأنظمةً - بأنّ تقرير المصير واتخاذ القرارات هما ملكية خالصة للفلسطينيين، فهم وحدهم الذين يعرفون ما هو الخير لهم، فهذه قضيتهم، أما دور المتضامن فلا ينبغي أن يخرج عن دعم قرارات الفلسطيني، وليس الاختيار بدلاً منه.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.