يقف مرتدياً فساتينه وبدلات الرقص الخاصة به بألوانها الزاهية، وكعبه العالي، ويحتفي بنفسه ويرقص مع الجميع في عروضه المسرحية ليعطيهم البهجة.
جاء من سوريا إلى ألمانيا لاجئاً، ووجد ذاته أكثر هناك، واستطاع أن يعبّر عنها متصالحاً معها وشاعراً بأنه يقدّم بلاده بصورة ملوّنة مختلفة عن الصورة القاتمة التي كانت الحرب والدمار سببين لها، فتحوّل إلى مصدر طاقة إيجابية وسعادة لكل من يشاهد عروضه.
هو الدرويش، الراقص السوري الذي خرج عن المألوف كاسراً القيود المجتمعية ومثيراً الجدل.
يتحدث إلى رصيف22، عن طفولته ومهنته وحياته ورقصه على المسارح بأزيائه التي قد لا يتقبلها البعض. فكيف انتقل من زاوية المحظور إلى منطقة الأمان الخاصة به؟ كيف يعيش اليوم؟ ما مصدر قوته وتمرده؟ ماذا عن ردة فعل أهله والعرب الذين يشاهدونه في أوروبا؟
من هو الدرويش؟ كيف تعرّف عن نفسك ومتى اكتشفت شغفك بالرقص؟
الدرويش هو نسيج من الفلكلور السوري والذكريات الراسخة في داخلي من طفولتي ومراهقتي في مدينة اللاذقية في سوريا، والتي تُعدّ من المدن المنفتحة على الاختلاف، ففيها خليط من الثقافات الأوروبية التي أعتقد أني نشأت عليها.
بالنسبة إلى الرقص، حين قررت السكن في برلين والانخراط في مجتمع الميم-عين وشهدت على حياة الليل الصاخبة في المدينة، شعرتُ بأني قادر على جمع المدينتين في روح واحدة وجسد واحد، فالأولى قادرة على أن تعبّر فنياً عن التراث، والثانية معاصرة تعبّر عن الحداثة، وأعتقد أن هذا ما يميّز رقصي عن الآخرين في حال لم نذكر الشجاعة والالتزام في اتخاذي قرار أن أكون راقصاً.
شغفي بالرقص موجود منذ طفولتي حين كنت أرقص مع المقربين وفي الحفلات، ويمكن القول إن الدرويش خُلق من روحانية الفرح تلك، وأشعر بضرورة الالتزام بهذا الـcharacter لإظهار حالة التنوع عندي.
"الدرويش هو نسيج من الفلكلور السوري والذكريات الراسخة في داخلي من طفولتي ومراهقتي في مدينة اللاذقية في سوريا، والتي تُعدّ من المدن المنفتحة على الاختلاف"
* أخبرنا أكثر عن حياتك في سوريا، والتحديات التي كنت تواجهها قبل أن تهاجر إلى ألمانيا؟ هل طوّرتَ موهبتك في الرقص في بلدك أم أن الموضوع كان صعباً بسبب التقاليد والأعراف؟
بالنسبة إلى الطفولة، فقد كانت رائعةً. أذكر أن والدتي كانت تعمل بعزم وإصرار لتأمين كل شيء للعائلة، أما مرحلة مراهقتي فكانت صعبةً قليلاً، وذلك بسبب التنمُّر الذي كنت أتعرض له في المدرسة أو في منطقتي، مع العلم بأني كنت واثقاً بنفسي، لكن هذه المواقف جعلتني أستدلّ على مواطن القوة في شخصيتي، لذلك أشكر كل الكارهين لأنهم في الحقيقة كانوا سبباً في تألقي اليوم، فأنا بسبب هذا التنمر كنت أفرّغ طاقتي السلبية بالرقص حين أعود إلى المنزل، وأشغّل أغاني روبي وهيفا وهبي بعد أن أقفل عليّ باب غرفتي، وكنت أشعر وقتها بأنني في عالمي الخاص، وبأنني لامست حرية جسدي، وهذه كانت آلية مواجهتي للمحيط المتنمِّر، وقد ساعدتني هذه الطريقة على تخطّي الغضب الداخلي الذي كنت أشعر به، ولم أكن أتوقع أن يصبح الرقص مصدر عيشي في ما بعد.
طبعاً من الصعب اختيار طريق الفن في العالم العربي، لأن بعض الناس ينظرون إليه على أنه مستوى غير محترم لا سيما بالنسبة إلى الراقصين/ ات، ولكن أتمنى أن تتغير هذه الصورة النمطية قريباً.
* ما هو الموقف الأكثر صعوبةً الذي تعرضتَ له حين وصلت إلى ألمانيا، خاصةً بعدما قررتَ أن تكسر القيود وتمارس الرقص بالطريقة التي تناسبك؟
لا أستطيع أن أنسى الفترة الأولى تلك، فحين كنت أعرّف عن نفسي بأني من سوريا، كانت أول عبارة تواجهني: "يا حرام، بلد الحرب والدمار"، وكنت أشعر وقتها بالغصة، لأني أعرف بلادي وأراها بمنظور آخر جميل، وهذا المنظور أحاول أن أكرّسه على المسرح اليوم حتى يفرح الناس وهم يشاهدون الرقص والتمازج الثقافي والجمال، بعيداً عن الشعور بالشفقة تجاه السوريين/ ات.
وإلى الآن، وبعد مرور خمس سنوات من الأعمال المسرحية واللوحات الراقصة، ما زلتُ أعاني من نظرة بعض الأوروبيين السلبية إلى السوريين/ ات، لكن برغم ذلك لا يجب أن نتوقف عن إظهار صور أخرى زاهية من الأفكار والثقافات السورية.
*كيف كانت ردة فعل المقربين منك حين تحدثت عن ميولك الجنسية؟
في الفترة الأولى كان الوضع صعباً، لأن ذلك تطلّبَ مني قوةً ذهنيةً خارقةً كي أستوعب الرفض الذي سأعاني منه وكيف أواجهه بهدوء لأن العنف سيجعل التفاهم مستحيلاً ويوصِل إلى طريق مسدود، لذا كنت أحاول قدر الإمكان أن أعطي معلومات علميةً موثقةً عن الميول الجنسية المختلفة عند البشر، وبالأخص لوالدتي لكي تدرك أن المثلية الجنسية أمر طبيعي وموجود منذ الأزل، وبرأيي أنه يجب على المثلي جنسياً أن يضع نفسه محل الشخص غير المتقبِّل لهذا الموضوع، فالمجتمع المحيط مختلف ومقموع فكرياً منذ سنوات طويلة، ومجبَر على عدم التقبّل، خصوصاً أنه مجتمع أبوي صارم. لكن بعد سنوات من الصبر والتعليم والعمل من الطرفين على فهم الآخر -أي أنا ومحيطي الخاص- بدأ الوضع يتحسن ويتجه نحو التقبُّل، ففي النهاية نحن عائلة واحدة نحب بعضنا البعض، ولا نريد أن يخسر أحدنا الآخر.
*لماذا اخترت هوية "الدرويش" هويةً خاصةً باسمك الفنّي؟ وإلى ماذا يرمز الطربوش مع الفساتين التي ترتديها؟
راقص الدرويش هو من الثقافة الصوفية، ويرمز إلى التواضع والحكمة والجمال بنظر الراقصين/ ات، وذلك لقدرته على الرقص لساعات طويلة يكون فيها في قمة التركيز على هدف واحد، وهو خلق صلة روحية بينه وبين الخالق، لذا اتخذت هذا الاسم لأذكر نفسي بأهمية التواضع والإصرار على تحقيق أهدافي.
أما بالنسبة إلى الطربوش الأحمر، فلأنه يرمز في نظري إلى النظام الأبوي المتأصل في مجتمعاتنا العربية وإلى السلطة والمكانة أيام الاحتلال العثماني، وأحببت أن أكسر هذه الصورة النمطية عنه وأمنحه قصةً جديدةً كويريةً بحتة، تعبّر عن امتلاك القوة في ذواتنا كأشخاص كويريين/ ات، ولهذا بدأت بصنع طربوش بنفسي خاص بي بألوان عدة ليتناسب مع بدلات الرقص أو الفساتين التي أرتديها في العروض، وتالياً فإن هذا الطربوش بات يرمز إلى موقف سياسي من جهة، وموقف تعبيري آخر نابع من حبي للأزياء من جهة أخرى.
أفرح كثيراً بأنه وبعد اتخاذي قرار ارتداء الطربوش في الحفلات العامة، بات الحاضرون يحبون ارتداءه ويعدّونه رمزاً للقوة والجمال أيضاً.
* تعرّف بنفسك كراقص مسرحي، لكنك تظهر دوماً بملابس معيّنة ومكياج، بماذا يختلف ما تقدّمه عن الدراغ كوين؟
بالنسبة لي، الفرق بين الراقص وفنان/ ة الدراغ، هو أن الأول عبارة عن جسد نفَّذَ ما تمّت كتابته وتصميمه على مدار أشهر من قبل مصممي المسرحية أو حتى من الراقص نفسه، كالكوريوغراف مثلاً، كما أن الرقص لا يحدّ من إمكانات الخيال للراقصين/ ات فهو يسمح لي شخصياً بالتحكم في رحلتي الخاصة من خلال الارتجال والانسجام مع الموسيقى، أما الثاني أي الدراغ، فيكون عادةً أكثر مرونةً وتنوعاً، مع العلم بأن النمطين هدفهما الترفيه، ولكن الدراغ معظم الأوقات يكون للتسلية البحتة والتعمق أكثر في الشخصية من ناحية الشكل، وإيصال الفكاهة بأسلوب سلس، وتالياً فإن ما يقدّمه الدراغ، تسلية آنية قد تُمتِّع الناس في لحظة تقديمه فقط.
"أَدَعُ كل شخص مسيء يصرخ إلى أن يملّ، فأنا لا أستمع إلى هؤلاء الأشخاص لأني ببساطة أصمُّ أُذُنَيّ عن خطاب الكراهية سواء كان تجاهي أو تجاه مجتمعي، وأحب أن أحيط نفسي بالحب والتقدير، وهذا ما يجعلني قوياً"
* ما هي التحضيرات التي تقوم بها قبل كل عرض مسرحي؟ وكيف تجد التفاعل معك في أوروبا، خاصةً من قبل العرب واللاجئين/ ات؟
قبل العرض تكون هناك ساعات طويلة من التجهيز الجسدي وذلك من خلال التحمية والتمطُّط لتفادي الحوادث، أما تحضير المكياج فيكون حسب نوع العمل المسرحي، ففي بعض الأحيان يكون المكياج مبالغاً فيه، وفي مرات أخرى قليلاً وبسيطاً، وفي بعض الأحيان لا يكون موجوداً أصلاً.
وبالنسبة إلى تفاعل العرب مع العروض، فهو جميل ومليء بالفرح والتقدير للتمثيلية المعروضة ولنا، لكن لا يخلو الأمر في بعض الأوقات من أشخاص ينعتوننا بكلمات مسيئة ويضايقوننا، لكن أعتقد أنهم أشخاص يتحكم بهم التعصب الديني.
* نظراً إلى كونك شخصيةً مثيرةً للجدل، لا بد أنك تتعرض لبعض التعليقات المسيئة. كيف تتعامل مع هذه الانتقادات؟
أَدَعُ كل شخص مسيء يصرخ إلى أن يملّ، فأنا لا أستمع إلى هؤلاء الأشخاص لأني ببساطة أصمُّ أُذُنَيّ عن خطاب الكراهية سواء كان تجاهي أو تجاه مجتمعي، وأحب أن أحيط نفسي بالحب والتقدير، وهذا ما يجعلني قوياً.
* ماذا قدّم لك الرقص المسرحي على الصعيدين الشخصي والمادي؟ ما هي أكثر محطة مشرقة في حياتك؟
على الصعيد الشخصي، استطعت أن أكوّن ذاتي وأتعلم من خلال مناقشات عدة خضتها مع كثير من الفنانين/ ات خلف الكواليس عن كيفية تطوير عملي، فهي مهمة لا تنتهي أبداً، ولا أحد يستطيع أن يقول إنه يعرف كل شيء عن مهنته، بل هو بحاجة إلى التعلم بشكل متواصل.
أما على الصعيد المادي، فقد استطعتُ أن أعيلَ نفسي وأن أكوّن استثمارات خاصةً بي، بالإضافة إلى إعالة أهلي، وهذا ما يجعلني فخوراً بنفسي وهو يُعدّ بمثابة محطة مشرقة في حياتي.
* كيف تحاول من خلال عملك تحطيم الصور النمطية عن مجتمع الميم-عين؟ وهل تعدّ نفسك شخصيةً ملهمةً؟
لا أستطيع القول عن نفسي إنني شخصية ملهِمة لأحد أو لا، فهذا يحدده الناس الذين يشاهدونني، لكني أحاول أن أعيش بالطريقة التي أحب، ومن طريقة العيش هذه، فإن هناك الكثير من الأشخاص الذين باتوا يتعرفون على معنى الحرية بشكل أكبر من خلالي وخلال ما أقدمه بطريقة أو بأخرى.
أجمل ما يحصل معي أنني في الكثير من الأحيان وبعد العروض التي أقدّمها، تصلني رسائل عبر وسائل التواصل من أشخاص يعبّرون عن امتنانهم وفخرهم بما أقدّم، وهذا ما يجعلني أشعر بأنني على الطريق الصحيح، لأني استطعت أن أقدّم لهؤلاء الأشخاص -حتى لو كان شخصاً واحد فقط- نوعاً من القوة كي يعبّر عن ذاته/ ها دون خوف وأن يفعل ما يحب، فمجتمع الميم-عين عبارة عن لوحة مليئة بالألوان المشرقة، لا يجب إخفاؤها في صندوق واحد مُعتِم.
"عيشوا حياتكم/ نّ" لأنها لكم/ نّ، فالحياة قصيرة، ومن الخطأ أن ترموا/ ين أحلامكم/ نّ في الفراغ، وتذكروا/ ن أن ابتسامةً صغيرةً للشخص الذي يقابلكم/ نّ من الممكن أن تسعدكم/ نّ وتسعده/ ا"
* برأيك، ما هي القوانين التي يجب أن تتغير في دولنا العربية لتحمي أفراد مجتمع الميم-عين؟ وهل ترى أن التغيير سيحدث حتماً في عالمنا العربي في يوم من الأيام، وإن بعد سنوات طويلة؟
لديّ أمل كبير بأن تتغير القوانين نحو الأفضل، وتتجه نحو احترام كل فئات الشعب، سواء المرأة أو الأقليات، وليس مجتمع الميم-عين فقط، لكني شخص واقعي وأعرف أن هذا الموضوع سيأخذ وقتاً طويلاً، لذلك فإن مهمتنا اليوم تكمن في أن نحاول التقدمَ بخطوات صغيرة نحو فكرة تقبُّل وجودنا مجتمعياً وقانونياً ولو بالتدريج، وعن نفسي أفضّل أن أبدأ عملي دون أن أنتظر هذا التغيير لسنوات طويلة، فأنا من يمكنه أن يصنع التغيير بنفسه، على اعتبار أني لا يمكن أن أحدِث تغييراً قانونياً يفرض احترام الجميع وحمايتهم.
*كلمة أخيرة للأشخاص الذين يدفنون أحلامهم وموهبتهم خوفاً من أحكام الناس؟
"عيشوا حياتكم/ نّ" لأنها لكم/ نّ، فالحياة قصيرة، ومن الخطأ أن ترموا/ ين أحلامكم/ نّ في الفراغ، وتذكروا/ ن أن ابتسامةً صغيرةً للشخص الذي يقابلكم/ نّ من الممكن أن تسعدكم/ نّ وتسعده/ ا. أتمنى الحب والقوة للجميع في رحلتهم/ نّ على هذه الأرض.
وجد الدرويش ذاته وعبّرَ عنها من خلال مكياجه وأزيائه ورقصه على المسارح الألمانية والأوروبية. عبّرَ عن وجوده بطريقته ليحققَ سعادته ويكوّنَ صورةً مغايرةً عمّا يراه كثيرون عن سوريا، فهو رسمَ بلاده بألوانه الخاصة وقدّمَها للناس مرتدياً طربوشه الزاهي وملابسَ الرقص حتى لو انتقده بسببها كثيرون/ ات، فبرأيه الفرحَ والبهجة والرقص والألوان والفن، رسالة سلام موجهة إلى كل الناس حتى من لا يهوى السلام.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...