حزب الله حالياً في موقع يشبه موقع ذاك العالق فوق "الميدنة" (المئذنة) ولا يستطيع النزول عنها: يجلس فوقها مُجبراً لا بطلاً، وينتظر مَن يساعده على النزول.
ولكن مشكلة هذا الحزب الأساسية هي أنه هو مَن اعتلى المئذنة بنفسه، ولم يُصعده أحد عليها، لا بل أخذ يزيد من ارتفاعها يوماً بعد يوم بما يختلقه من مفاهيم تضخيمية للذات، حتى وصل إلى مرحلة لم يعد يستطيع فيها التعاطي بواقعية لا مع أصدقائه ولا مع خصومه.
إلى وقت قريب، كان حزب الله قادراً على فرض المعادلات التي يريدها في الداخل اللبناني: يجبر الحكومات على منح سلاحه غطاءً شرعياً في بياناتها الوزارية، ويفرض تفسيراته للدستور اللبناني ولما هو ميثاقي وغير ميثاقي، ويصعّد رؤساء حكومة ويُسقط آخرين ويحمي طبقة سياسية من السقوط أمام انتفاضة شعبية ويفرض فراغاً دستورياً في موقع الرئاسة الأولى إذا لم تقبل باقي القوى السياسية بانتخاب رئيس "على مزاجه"...
ولكن الحرب الإسرائيلية الأخيرة عليه وما ألحقته به من خسائر بشرية ومادية غيّرت كل شيء، ورَفَدَ مسار التغيّرات سقوط نظام الأسد في سوريا مع ما يعنيه ذلك من جعل احتمال إعادة بناء حزب الله لقدراته أقرب إلى المستحيل، قبل أن تأتي الضربة الكبرى لمحور الممانعة متمثلة بتجرؤ إسرائيل على ضرب الداخل الإيراني بعنف وبشكل مباشر.
عبر مئات الخطب التي ألقاها قادة حزب الله ونوابه منذ التوصل إلى اتفاق وقف الأعمال العدائية، عمد حزب الله إلى تحريف معظم تفاصيل ما يدور في السياسة اللبنانية، أو ربما لم يحرّفها عن عمد بل شكّل تضخيمه لذاته عائقاً أمام استيعابه لها...
تخلخلت القواعد التي بنى عليها حزب الله مكانته، ووصل به الأمر إلى أن وجد نفسه تقريباً بلا أي حليف وازن في الداخل اللبناني، باستثناء حركة أمل المجبرة على السير معه في مغامراته الداخلية لحسابات طائفية لبنانية بدون أن تكون مقتنعة بالمسار الذي يسلكه ويجرّها معه إليه. ضربة تلو الضربة، اختل توازنه وفقد قدرته على التكيّف مع وقائع تسير بسرعة كبيرة تحول دون قدرته على اللحاق بها.
ويجري كل هذا في ظل استمرار الحرب الإسرائيلية عليه بدون أن تكون له أي قدرة ليس على الردع، بل حتى على الردّ الذي يحفظ له ماء وجهه أمام مَن أقنعهم بأنه "قوة لبنان".
بين جلستين
في 27 تشرين الثاني/ نوفمبر 2024، سرى "اتفاق وقف الأعمال العدائية" بين لبنان وإسرائيل، وهو اتفاق قبل به حزب الله عبر ممثله في التفاوض عليه، رئيس مجلس النواب نبيه بري، وأقرّته الحكومة اللبنانية بمشاركة الوزراء الممثلين لحزب الله فيها. وينص هذا الاتفاق صراحة على تفكيك بنى حزب الله العسكرية بالكامل "بدءاً من منطقة جنوب الليطاني"، أي في كل لبنان، على أن تكون البداية في المنطقة الواقعة جنوبي نهر الليطاني، كونها الأقرب جغرافياً إلى إسرائيل.
فرضت نتائج الحرب مساراً سياسياً جديداً في الداخل اللبناني: انتُخب جوزاف عون رئيساً للجمهورية في التاسع من كانون الثاني/ يناير، وكان نواب حزب الله ممن انتخبوه، وتعهّد في خطاب القسم بالعمل على "تأكيد حق الدولة في احتكار حمل السلاح". وبعدها بخمسة أيام سُمّي نواف سلام رئيساً للحكومة، وإذا كان حزب الله قد رفض تسميته فإنه عاد وقبل المشاركة في حكومته وصوّت نوّابه على بيان الحكومة الوزاري الذي برز فيه تعهّدها بـ"بسط سيادة الدولة على جميع أراضيها، بقواها الذاتيّة حصراً"، وبالعمل على "احتكار 'الدولة' لـ'حمل السلاح'"، وامتلاكها "قرار الحرب والسلم".
الجلسة التي عقدتها الحكومة في 5 آب/ أغسطس وأقرت فيها حصر السلاح بيد الدولة كان من المفترض أن تمرّ بشكل سلس لأنها تماماً جزء من المسار المذكور أعلاه والذي يُفترض أن حزب الله موافق عليه، ولكن هذا الحزب اعتبر أنها خرجت عن هذا المسار، فسحب وزراءه من الجلسة وكذا فعلت حليفته حركة أمل، وأصدر بياناً أعلن فيه أنه سيتعامل مع قرار الحكومة "كأنَّه غير موجود"، متوجهاً إلى جمهوره بالقول: "تعوّدنا أن نصبر ونفوز".
كيف؟ لماذا؟
ما الجديد الذي أثار حنق حزب الله؟ واقعياً، لا جديد. ولكن يبدو أن حزب الله ينكر أو لا يستوعب أو يتعمّد تجاهل (أو الله أعلم) كل المسار المذكور أعلاه، وما يتضمنه من محطات وتعهدات لا تحتمل التأويل، رغم موافقته عليه أربع مرات، يوم شارك وزراؤه في إقرار الحكومة السابقة برئاسة نجيب ميقاتي قرار وقف الأعمال العدائية، ويوم انتَخَب جوزاف عون، ويوم قَِبلَ المشاركة في حكومة سلام، ويوم مَحَضها نوابه الثقة في مجلس النواب في 26 شباط/ فبراير 2025، لا بل هنالك مرة خامسة قريبة بتاريخ 16 تموز/ يوليو، يوم شارك نوابه في تجديد الثقة بالحكومة بعد أن طرح رئيس التيار الوطني الحر النائب جبران باسيل الثقة بها في جلسة مناقشة سياستها العامة.
غيّرت الأحداث التي جرت في العامين الماضيين الكثير في المنطقة برمتها وغيّرت الكثير في لبنان. خسر حزب الله الكثير من عناصر قوته ويبدو أنه فقد أحد أسلحته الفتّاكة: قدرته على تأويل ما يقوله الآخرون وفرض المعاني عليهم...
كيف ولماذا اعتبر حزب الله ذلك؟ هنا بيت القصيد. عبر مئات الخطب التي ألقاها قادته ونوابه منذ التوصل إلى اتفاق وقف الأعمال العدائية، عمد حزب الله إلى تحريف معظم تفاصيل ما يدور في السياسة اللبنانية، أو ربما لم يحرّفها عن عمد بل شكّل تضخيمه لذاته عائقاً أمام استيعابه لها، وهذا إذا صحّ يكون أصعب (وأخطر؟) من تقصّد التحريف لأننا سنكون أمام نوع من هذيان جماعي ضرب عشرات القادة والنواب...
في كل مفصل من مفاصل المرحلة السابقة سوّق حزب الله لفهم خاص لما يجري، ونجح في نشر هذا الفهم بين شرائح واسعة من جماهيره، وساعده على ذلك استعداد هذه الجماهير لتلقف ما يبثه لها، لأنها جاهزة نفسياً لرفض واقع سبق أن صُوّر لها على أنه لغير صالحها على المديين القريب والبعيد.
هكذا رأيناه يتجاهل كل ما ورد في خطاب قسم رئيس الجمهورية ويركزّ فقط على ما ورد فيه من دعوة إلى "مناقشة سياسة دفاعية متكاملة كجزء من استراتيجية أمن وطني على المستويات الدبلوماسية والاقتصادية والعسكرية"، ويتجاهل كل ما ورد في البيان الوزاري ويركز فقط على تعهد الحكومة بالالتزام "وفقاً لوثيقة الوفاق الوطني المقرَّة في الطائف باتخاذ الإجراءات اللازمة كافة لتحرير جميع الأراضي اللبنانية من الاحتلال الإسرائيلي".
عمل حزب الله على تأويل هذه الجمل ليفرض لها معاني تناسبه. ربط بين ما ورد في خطاب القسم وبين مصطلح قديم من ماضي السياسة اللبنانية كان يجري فيه حديث عن "استراتيجية دفاعية" تجمع بين الجيش وحزب الله وليتم له ذلك أعمى نظره عن تكملة الجملة: "بما يمكّن الدولة اللبنانية، أكرّر الدولة اللبنانية، من إزالة الاحتلال الإسرائيلي ورد عدوانه عن كافة الأراضي اللبنانية".
كذلك، ربط بين تعهّد الحكومة المذكور وبين الاستثناء الذي فرضه نظام الأسد أيام هيمنته على لبنان والذي استثنى حزب الله من الميليشيات التي يجب سحب سلاحها بعد الحرب الأهلية بوصفه "مقاومة"، وليتم له ذلك أيضاً كان عليه أن يغمض عينيه عن تكملة الجملة: "وبسط سيادة الدولة على جميع أراضيها بقواها الذاتية حصراً".
يصعب تصوّر كيف سينزل حزب الله عن المئذنة ومَن يمكن أن ينزله. ليَنزل بدون أن يرتطم بقوة بالأرض، ويرطم معه طائفة كبيرة تشكل ثلث اللبنانيين، عليه أن يعود إلى الواقع... فوحدها العودة إلى الواقع يمكن أن تعيده إلى الأرض بسلامة
الغريب في الأمر أن بيان حزب الله الذي أصدره، بعد قرار الحكومة في الخامس من آب/ أغسطس الجاري، وردت فيه الجملتان المذكورتان بكاملهما وكأنه يرى أن الطبيعي أن يُقرأ فقط قسميهما الأولان ويُهمَل قسميهما المكمّلان.
غيّرت الأحداث التي جرت في العامين الماضيين الكثير في المنطقة برمتها وغيّرت الكثير في لبنان. خسر حزب الله الكثير من عناصر قوته ويبدو أنه فقد أحد أسلحته الفتّاكة: قدرته على تأويل ما يقوله الآخرون وفرض المعاني عليهم.
الآن، يصعب تصوّر كيف سينزل حزب الله عن المئذنة ومَن يمكن أن ينزله. ليَنزل بدون أن يرتطم بقوة بالأرض، ويرطم معه طائفة كبيرة تشكل ثلث اللبنانيين، عليه أن يعود إلى الواقع وأحد شروط هذه العودة فهم كلام خصومه كما هو وفهم ما يتعهّد به كما هو وفهم ما يُكتب كما هو بدون أي محاولة لتأويله بشكل متعسّف، لأن هذا التعسّف يعلي المئذنة، ووحدها العودة إلى الواقع يمكن أن تعيده إلى الأرض بسلامة.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.