استماع كويري… رسالة إلى زياد الرحباني

استماع كويري… رسالة إلى زياد الرحباني

مدونة نحن والحقوق الأساسية

الجمعة 8 أغسطس 202515 دقيقة للقراءة

بعد مرور أسبوع على رحيل زياد الرحباني، أجدُ نفسي أستمع إلى أغانيه مراراً، تلك التي رافقتني وأنا أحاول أن أتنقّل في دروب الحبّ، والطبقيّة، والجندر. هذه الرسالة تكريمٌ من مُستمِع كويريّ، ترسِمُ خريطةَ الرحلةِ التي أخذتني فيها كلمات زياد من حانات بيروت إلى جسدي المُصغي في هذه اللحظة. أكتبُ إلى زياد، كما نكتبُ إلى ليلٍ غائب، لا لأُعرّف بكلماتهِ المعروفة، بل لأشهد كيف عَرّفت كَلِماتهُ بي.

"عَ المفرق" 

عزيزي زياد،

كنتُ أقود سيارتي الرينو المستعملة في آخِر شارع "بلس"، عندما لمحت عيني ظلّاً واقفاً عند مفترق "زعتر وزيت"، على بُعدِ أمتارٍ قليلةٍ من موضع التشييع، حيث وضعوك في سيارةٍ أُخرى أقلّتك من الأرض إلى السماء. فتبيَّن لي أنّ ذلك الظلَّ هو لليلى، زميلتي منذ أيام الدراسة. على الأرجح كانت تنتظر "سرفيس"، وبدا عليها الارتباكُ في الحرِّ الّلاهب. كانت كتفاها مُثقلتين بلوحاتٍ مطوية وموادّ فنيّة وحقائب قماشية، كما ترافق عادةً طلّاب الفنون والهندسة في الحرم السفلي.

هذه الرسالة تكريمٌ من مُستمِع كويريّ، ترسِمُ خريطةَ الرحلةِ التي أخذتني فيها كلمات زياد من حانات بيروت إلى جسدي المُصغي في هذه اللحظة. أكتبُ إلى زياد، كما نكتبُ إلى ليلٍ غائب، لا لأُعرّف بكلماتهِ المعروفة، بل لأشهد كيف عَرّفت كَلِماتهُ بي

–" لوين واصلة ديموزيل؟".

غالباً قلتُ شيئاً من هذا القبيل. لا أذكر ما قلته حرفياً، أتذكّر فقط وجهها المشرق عندما رأتني بعد عامَين، وعرضي عليها توصيلةً، فهزّت رأسها مبتسمةً عندما أدركت أنّني أقود سيارةً "مانيوال". لم تكن قيادة هذا النوع من السيارات شائعةً بين الفتيات آنذاك. لم أخبرها بأنّ محرّك السيارة يتوقّف فجأةً عند "الطلعات"، أو بأنني كنتُ أستعين حينها برِجالٍ غرباء لدفعها وإصلاح محرّكها، ولا بأنّ اعتمادي عليهم كان يهمس لي خِفيةً بأنني أفتقر إلى رجولةٍ لم يخطر لي يوماً أنني أشتهيها.

أصبحنا أصدقاء، وسكن كلٌّ منّا في قلب الآخر، وكانت هي أوّل مَن عرّفتني على أسطواناتك الخالدة، عزيزي زياد، في مشاويرنا اللاحقة. "قدّيش كان في ناس عالمفرق تنطر ناس؟"...

"بلا ولا شي"

عزيزي زياد،

ما إن انتقلتُ من هدوءِ الشويفات إلى صخب بيروت في أثناء مواعدتي ليلى، حتى أصبحت أغانيكَ رفيقةَ أيّامي. كانت ليلى، كبصّارةٍ تعرف قعر فنجانها، تُجيدُ كلَّ زقاقٍ صغيرٍ في العاصمة وتتقِن تفاديَ الزحمة دون اللجوءِ إلى "لفّة العروس" أو Google Maps. من ناحيتي، باستثناء محلّ "Network" الذي كنت ألعب فيه Counter Strike مع أخي الصغير وأصدقائه، لم يحدث في ضاحيتي ما يُذكر حتى تلك اللحظة. "هلّأ على أكثر من صعيد، صار كثير… بس كل حادث إلو حديث".

عند وصولي إلى بيروت، انقلبَ كلُّ شيءٍ رأساً على عقب. فوجدتُ نفسي في قلب الحانات التي زيّنت جدرانها صور تشي غيفارا وأباريق العرق الباردة، والتعاونيات النسويّة التي وزّعت الواقيات مجاناً وسط ضحكات الأصدقاء، والمطاعم التي احتضنت لقاءات التنظيم السياسي، وجلسات البيوت حيث تبادل اليساريون الأطباق والآراء إلى ما بعد منتصف الليل، وحيث شاركتُ عاماً بعد عامٍ في التحضير للمظاهرات والمسيرات وحملات البلديات، متعلّماً من رفاقٍ بذلوا الجهد الأكبر. برغم تناقضات تلك المساحات، انغمستُ في النقاشات بشغف، أبحث عن موضع قدم لم أجده كاملاً. وكنت أرى الجميع، حقّاً الجميع، يستمعون إلى أغانيك. تردّد صدى "يا زمن الطائفية" و"لشو التغيير" في الحانات، ثم احتلَّ مكبّرات سياراتنا في رحلاتنا إلى الشواطئ. لفتت كلماتك انتباهي إلى الطائفية والطبقية التي تجاهلها بعض الأشخاص في مدرستي ومنزلي. وكما في كثيرٍ من البيوت، دُفِنَت ذكرى الحرب في زوايا الغرف تحت الغبار، ومع هذا نبشت أغانيك هياكل السلطة المحيطة بنا من جديد.

في هذا الإطار، وبينما كانت ليلى تبحث عن الجمال في بنية أعمال محمد الرواس الفنيّة، كنت أجِد الجمال فيها. "كنت موت بربّها يا زياد"… قالت لي بعد حين إنها كانت خلال أيام الدراسة تتسلّل مع صديقتها لتتفحّص أيّ قميص "لبَّقتُه" على أيّ جينز، غير أنني لم أكن أعرف كيف أُراوِغ دفء مشاعرها تجاهي. اندفقت مقاطع "بلا ولا شي" في أثناء الزحمة في طلعة نادي "الرياضي" حتى أصبحت الأغنية لنا وحدنا. ولكن ما أردت أن أحتمي بالظل، أردتُ من العالم أن يرانا عاشقتَين لا شقيقتَين. فحين قدّمتني لوالدها كواحدةٍ من أعزّ صديقاتها، تمنّيتُ لو كان بإمكاننا نَيل بركته.

ولذلك، اخترقني بيت واحد من قصائدك: "حبّيني وفكري شوي بلا جوقة إمّك، بيّك"، وتوأمه بيت آخر في أغنية "كيفك إنت": "هيدي إمّي، بتِعتل همّي منَّك إنتَ، ملّا إنتَ". وإن كانت بيننا وديان متفرّقة، بدا لي، يا زياد، أنك تفهم الخوف الذي نختبئ منه أمام أهلنا. كنت أتخيّل أمي، التي كان يُقلقها حكم العالم على رغباتي أكثر من رغباتي نفسها. وكنتُ ألتقط في كلماتك تلك الأكاذيب البريئة والحجج المقنعة التي كنا نحيكها لأهلنا وأهل الأحبّاء عند ردهم على الهاتف الأرضي. مع ليلى كان كلّ شيءٍ سهلاً: فقد احتضنتني أمّها، وعدّني أبوها صديقةً وفية. أما مع علياء، حبيبتي السابقة، فكانت أمّها، دون استئذان، تقتحم الغرفة وتنشر الفرشة بيننا، ثم تشمّ التوتر ككلبة صيدٍ ترصد أثر فريستها. وبين هذا وذاك، كان لنا عالمنا: شاركنا أصدقاؤنا بمشاريعهم الفنيّة، سواء كانت أفلاماً طلّابيةً، عروضاً مسرحيّةً، أو "بورتريهات" فوتوغرافيةً في "الرملة البيضاء". في حفلاتهم، كنا ببساطة "سنين وليلى"، بلا تبرير. لكن خارج تلك الدوائر الصغيرة، كانت الحكاية مختلفةً تماماً.

ولم يكن الأهل وحدهم من نخشى حكمهم. كان هناك دائماً "الناس"، ذلك المفهوم الذي يتردّد في أغانيك كظلٍّ ثقيل. وبعد رحيلك، عدتُ إلى ألبوماتك وألحانك لأحاول فهمك وفهم معاني كلماتك، ووجدتُ انشغالك بـ"الناس" في كل مكان. في عبارتك عن المجتمع أجد معركتي الخاصة للانتماء في مجتمعٍ تبرز فيه العيون خلف كل "أباجور". يتجلّى ذلك في "عايشة وحدا بلاك"، في هؤلاء "أولاد الحارة" الذين يقررون كم امرأة يحتملها قلبٌ واحد، وفي "كيفك إنت" كهمٍّ صامتٍ يُسمّى "العيال والناس"، وفي "ع هدير البوسطة" مع "ركّاب تنورين" الذين تجالسهم في الباص متوهّماً أنّ "بالهم فاضٍ"، ثم في "عودك رنّان" حين جمعتَ الناسَ على صوت الوتر فامتلأت ساحة الرقص بأجسادهم برغم أنك واقفٌ على الهامش، تترجم فرحهم. كنتَ دائماً بينهم، تعزف مشاعرهم دون أن تلتحق بهم، تتأرجح بين الانتماء والنقد. وهي إحدى النبضات الكويريّة: أن تشعر بالعزلة في غرفةٍ مكتظّة.

وفي ثنايا كلماتك، ألمح شيئاً آخر أيضاً. أرى حركةً لا تستقرّ على حال، بين اتجاهاتٍ متقلّبة واهتزازاتٍ وعبوراتٍ تتكرّر: من الكميون الذي "طالع دغري وموزون"، إلى الليرة التي "بتقطع من هون لهونيك"، ومواسم الطائفية التي "بترجع من هون وهونيك"، والعاشق الذي إمّا "رق وحنون" أو "مايل عالغصون"، وذاك الذي "من مرا لمرا عم يرجع لورا"، وختاماً بـ"روّاد الأبجدية يللي قطعتو السبع بحور". كنتَ تتحدّث عن تحوّلاتِ المجتمع وتقلّباتِ السياسة والاقتصاد، لكنّك التقطتَ أيضاً التيّارَ المضادّ الذي نسبح فيه "نحن"، روّاد الدروب غير المرسومة؛ نحن من لا نسيرُ في خطٍّ مستقيم، بل نميلُ ونتبعثر ونعود، ونموتُ كي نُخلق من جديد، بحثاً عن أرضٍ نحيا بها ومعها. 

رُبّما لأنّنا كنّا في بدايات الطريق، لا نعلم وجهتنا بعد، وعلى رغم حبّنا وشبابنا، زرعت في رأسي موعداً لانتهاء علاقتي مع ليلى، فأفسدتها بيَديّ، لعلّي لم أصدّق يوماً أنّ بإمكاني البقاء معها "حتى النهاية". وعند مفترق دروبنا المشتركة، أحطتُ نفسي بأغانيك دعامةً لقلبي، وضممتُ بقاياه في فجرِ عشقٍ جديد.

"الحالة تعبانة"

عزيزي زياد،

بعد عامٍ من انفصالي عن ليلى، أهو عامٌ واحد؟ لست أذكر، فالذاكرةُ بيتٌ يُبدِّلُ أثاثَهُ كلما طرقنا بابَهُ. تعرفتُ إلى ثريّا التي سرقت قلبي بفَساتينِها الفضفاضةِ المرقَّعةِ بألوانٍ زاهيةٍ، وبحُبِّها العتيقِ لأسطواناتِ جوني ميتشل الفينيلِيّةِ، حتى وجدتُ نفسي أغرسُ ممتلكاتي في زوايا بيتِها، نصوغُ معاً مأوى يُشبِهُنا. كانت ليالينا مليئةً بالطبخ المشترك والنبيذ والألعاب وعزف الغيتار، وأصدقائنا الذين ملأوا البيت بالدفء والنكات. كنتُ أخطو بحذر نحو رشدٍ يزدادُ وقعُهُ، وإن ظننتُ نفسي راشداً منذ زمنٍ. بدأت المسؤولياتُ تتوالدُ في صدري، ولأول مرّةٍ عشتُ مع حبيبةٍ بعيداً عن عائلتي وخارجَ مهاجعِ الجامعة. هناكَ أدركتُ "الحالةَ" في عباراتِك كما تُعاشُ ولا تُسمَعُ.

حين قلت "إنتِ غنّية يا ليلى ونحنا دراويش"، وتبعتَها بـِ"ولا في بهالحبّ مصاري"، ثم ختمتَ بمرارتك: "إنتِ بوادي ونحنا بوادي"، كنتُ أسمعُ هذه العباراتِ بأُذُنٍ كويريّةٍ وترانسيّة تستبدلُ الليرة بشعورِ النقص: لستُ المرأةَ التي تحسبني إيّاها حبيبتي، ولا الرجل الذي أحمله في داخلي بعد

كنتُ أُدَرِّسُ دروساً خصوصيةً بالكادِ تسدّ الإيجار، محظوظاً بمنحةٍ جامعية أتاحت لي المعرفة واللغات ووقتاً للحب والتفكير والاستماع إلى أغانيك. بينما كانت هي تمتطي السفرَ من قارةٍ إلى أخرى، تلقي مئةً وخمسين دولاراً على كفّ الصيّاد إكراميّةً لشراء "أويسترز" طازجٍ في الأشرفيّة، وتقودني إلى غداءٍ لا يسعُ جيبي إلا نصف ثمنه. ثمّ من وحي اللحظة تطلبُ سجادةً مصممةً من الولايات المتحدة كونها الوحيدة التي تليق بالطابعِ العصريِّ للبيت. يا زياد، عندما كتَبتَ "الأرض عنا بلا سجادة" وهي "معوَّدة تمشي على الريش"، "كان خاطر على بالك إنّو في ناس بيوصّلهُن هالرّيش بالبريد الدّولي؟"...

أصابني شيءٌ من الضيق المالي الذي صوّرته حين قلت "إنتِ غنيّة يا ليلى ونحنا دراويش"، وتبعتَها بـِ"ولا في بهالحبّ مصاري"، ثم ختمتَ بمرارتك: "إنتِ بوادي ونحنا بوادي". كنتُ أسمعُ هذه العباراتِ بأُذُنٍ كويريّةٍ وترانسيّة تستبدلُ الليرة بشعورِ النقص: لستُ المرأةَ التي تحسبني إيّاها حبيبتي، ولا الرجلَ الذي أحمله في داخلي بعد، ولا أملك ما يكفي من النقود لبناء هذه العلاقة أصلاً. واليوم أدركُ أنّ أغانيك ليست عن المال فحسب، بل هي لقطات للحبّ مثقلة بعبء الإعالة؛ ذلك العبء الذي علّقه المجتمع على كتف الرجل، وهو أحد مصادر الإحساس بالنقص الذي سكن جسدي. ومع قناعتي بأنّ الزواج فخّ ومؤسّسة فاسدة، أغراني حلم الحياة العادية، ذلك الحلم المزروع فينا منذ الطفولة. حملتُ ثقل دور الرجل المُعيل دون أن أدركه. وكنت كلّما أخفقتُ في أداء هذا الدور، ازداد النقص رسوخاً في جسدي، فأتمدّدُ بعد العناق كرسالة حب بُترت قبل أن تُختَم.

وما إن خرجْتُ من ضيق غرفتنا إلى صخب الشارع، حتى وجدتُكَ تكشفُ الثقلَ نفسه على رؤوس الأشهاد. ربطتَ بأغانيك همَّ الإعالةِ بالمساحةِ العامّة، وأنا أقرأُ في ذلك أنّ الضغطَ على الرجل لإثبات قدرته الماليّة، وجه آخر لقمع النساء، والرجال، وجميعِ الأجسادِ والهويّاتِ غير النمطية. سخرتَ من إصرارِ المجتمعِ على تلميعِ صورةِ الأسرةِ النوويّةِ الكاملة؛ ثم غنّيتَ "بما إنو كل شي نظيف... لفّ حصيرة وشنجل مرتَك، روح افرِشْهن عالحشيش"، كأنّما يُطلَبُ من الرجل أن يفرشَ عائلته على العشب كبسط البائع منتجاته على الرصيف.

إذا كان ضغط "الصورةِ الأسريّةِ الكاملة" خانقاً، يا زياد، فتخيَّل العبءَ الذي أثقلني: لم يعترف المجتمع بعلاقتي مع ثريّا، ورؤية الناس لنا كامرأتين معاً أيقظت فيّ شعوراً قارصاً لم أعرفه بعد. فأنا أتحرّك في هوامش هذا المسرح، أعيشُ ظلَّ الستارة التي هززتها بأغنياتك. ولو تفلّت من "الناس" الكَرَمُ للحظة، واعترفوا بي رجلاً، لما كنتُ إلّا رجلاً يدوخ رأسه أمام فاتورة "الأويسترز"، بعد أن لوّحتْ بها حبيبته أمام صيّاد الأشرفيّة… هكذا التقت كويريّتي بنقدك: الرأسمالية والذكوريّة قفصان من المعدن نفسه، وما بين قضبانهما نحاولُ أن نُحبّ.

"خلّي إيدك عالهويّة"

عزيزي زياد،

وفيما أتهيّأ لإعادة تهجئة اسمي ومؤشّر جنسي في بلد أجنبي، حيث يغطّي التأمين الصحي ما نناضل لأجله في بلادنا، ولا يتوقّف تغيير الأوراق على مزاج المختار أو نفاد الحبر في الدوائر الرسميّة، أتأمّلُ لبرهة في التواء كلماتك. كم من مرّةٍ غيّرتُ وجهي لِحُب امرأة؟ بدّلتُ المدنَ والعشّاق، وتقلّبتُ بين هويّةٍ وأخرى، حتى ما عدتُ أعرفُ اسمي. واليوم، لا يزالُ صوتُك يدوزنُ ذاكرتي، وفي دوّامةِ تغييري، يعيدُني الحزنُ على رحيلك إلى كلّ زقاقٍ وبيتٍ ومساءٍ علّمتَني حُبّه.

وأنا أستقبلُ شَوارِبي الأفنديّة، أُحدّقُ في المرآة مُودّعاً صورةً من نفسي لم تعد موجودةً، وأذكّر نفسي وكلّ من عرفني بأنّني لستُ أعبُر، ولا أتحوّل، ولا أبتعد كثيراً. بل أُقلّبُ أوراقي وأنسجتي، كمن يعيد ترتيب بيته، كي أتمكّن من البقاء بينهم.

وإذ بكلماتك تتردّد فجأةً في أذني، كما لو أنني أسمعها للمرّة الأولى. تعود إليّ وصيّتُك: "خلّي إيدك عالهويّة وشدّ عليها قد ما فيك"، وصرختُك تتوسّلُ إليهم لأن "يحلّوا عن اسمك وحروفه"، فأتمسّكُ بهما كما يتمسّك المرءُ بجذورٍ توشك أن تتوارى تحت التراب. وإن كنتَ تتهكّم في كلماتك على هوس هذا المجتمع بالهويّات الطائفيّة وسؤال "ابن مين إنت؟"، فإني اليوم أسمع فيها صدى مختلفاً، صدى يتعلّق بانتمائي إلى ذاكرتي وأرضي، ولغتي، وجسدي؛ كما أعرفها الآن، وكما عرفتها من قبل.

وتزورني جملتُكَ الآفِقة في أغنية "لشو التغيير" حيث تؤكّد: "المستقبل مثل الماضي والحاضر هوّي إنت". ربما أردتَ بها أن تسخرَ سخريةً لاذعةً من جمودٍ سياسيٍّ لا يتزحزح، لكنّني أرجو أن تسمحَ لي بتبنّيها على طريقتي، كمرآةٍ تعكسُ انفتاحي على التغيير، دون أن تمحوَ أثرَ مَن كُنت.

"معلومات مش أكيدة"

عزيزي زياد،

كما وَجدَتني ليلى على مفرق شارع "بلس"، افترقنا في الحمرا، قرب مقهى يونس. وبعد يومين من خلافنا الأخير، لم أجد ما أتمسّك به سوى باقة ورد. تَشبّثتُ بها، وقدت السيارة نحو منزلها، أحملُ رغبتي في الاعتذار وشرح موقفي. لكن، قبل أن أصل، سبقتني الحقيقة على لسانِ صديقة: كانت قد غادرت المدينةَ إلى حضنٍ مألوفٍ. وحينها فقط أدركتُ أنّ قلبي تأخّر؛ لم أصل إليها لأمنحها فرصةَ الاختيار: أن تحفظ الباقة، أو أن ترميَها. أغنيتك "معلومات مش أكيدة" أنقذتني يومها، وواصلت إنقاذي في الأشهر التالية عندما بكيتُ عند صديقتي من أيام الجامعة، ياسمين، ابنة إحدى أوائل النساء اللواتي قدّمن التعازي لوالدتك في كنيسة بكفيا.

يا زياد، قد لا تكونُ كتبتَ عن امرأتين تكتشفان الحُبّ كلغة جديدة، وقد لا تكونُ كتبتَ عن جسدٍ تتجاور فيه الأزرار والعرى دون أن تلتقي. لكن وجدتَ لي، برغم كلّ ذلك، مكاناً بين سطورك

أحد عشر سنةً مرّت على فراقي وليلى. أراها اليوم في صور زفافها على إنستغرام. تزوّجت رجلاً يبدو لطيفاً. يبدوان سعيدَين، كما يليق بهما.

كنتُ أبحث عن نفسي في صوتك. في بيت "ما بفهم الشعور، مش بإيدي"، منحتَ كلماتنا صدىً أوسع: عن حبٍّ لا اسم له، ولا تعريف، ولا يقين، ولا ضمير، ولا اختيار؛ ومع هذا كلّه، تركتَ له متّسعاً فيك. كأنّك تقول: حبّنا موجود، حتى لو لم يفهموه. وعندما غنّيتَ عن الوداعات التي لا تكتمل، لمستَ شيئاً فينا: "نحن" الذين لا ننتهي حين ننتهي، بل نعيد رسم الحدود مع كل لقاء وفراق. قد لا تكونُ كتبتَ عن امرأتين تكتشفان الحُبّ كلغة جديدة، وقد لا تكونُ كتبتَ عن جسدٍ تتجاور فيه الأزرار والعرى دون أن تلتقي. لكن وجدتَ لي، برغم كلّ ذلك، مكاناً بين سطورك.

طوال هذه السنين، ظننتُ أنّني أستمعُ إليك. اتّضحَ أَنّك أنتَ مَن كان يُصغي إلينا جميعاً.

لهذا السبب، بكاكَ الملايين في العالم كلّه، كما يُبكى الأخ أو الصديق: من اللحّام الذي حدّثك عن الثورة إلى أكبر السياسيين الذين انتقدتهم في أغانيك.

لهذا السبب، رافقك التصفيق في تشييعك كأنّه صلاة.

لأنّهم، ببساطة، وجدوا أنفسهم في أعمالك؛ لأنّك قطعت نفسَك إلى آلاف القطع، لترسم بها لوحةً تجمعنا جميعاً.

ومن هذا المنطلق، أعلم أنّ رحيلك ليس أكيداً، لأنّكَ ما زلت حيّاً في قلوبِنا وذكرياتنا وأسطواناتنا.

شكراً على كلّ ما تركتَهُ لنا من ذاتِكَ، وكلّ ما ضَمَمتَهُ منّا إليك.

"خلينا نشوفك قريباً"،

كاسَك…

*ساهم في تحرير هذا النص هدى آني.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

ما زلنا في عين العاصفة، والمعركة في أوجها

كيف تقاس العدالة في المجتمعات؟ أبقدرة الأفراد على التعبير عن أنفسهم/ نّ، وعيش حياتهم/ نّ بحريّةٍ مطلقة، والتماس السلامة والأمن من طيف الأذى والعقاب المجحف؟

للأسف، أوضاع حقوق الإنسان اليوم لا تزال متردّيةً في منطقتنا، إذ تُكرّس على مزاج من يعتلي سدّة الحكم. إلّا أنّ الأمر متروك لنا لإحداث فارق، ومراكمة وعينا لحقوقنا.

Website by WhiteBeard
Popup Image