الغزّي الذي مضغ وجهه 

الغزّي الذي مضغ وجهه 

رأي نحن والفئات المهمشة

الجمعة 8 أغسطس 20258 دقائق للقراءة

في رواية "رجال في الشمس"، مات أبطال غسّان كنفاني لأنهم لم يدقّوا جدار الخزّان، وأبقى لنا غسّان سجالاً عن الحق في الصراخ عند الجوع، والألم، والشعور بالخذلان. صراخ يجب أن يشقّ عباب التحديق الصامت في خزّاناتٍ أكبر من حجم خزّان مياه شاحنة أبي الخيزران.

أُشاهد الأخبار كلّ يوم، وأعرف قصص الناس المجوّعين والمجروحين في غزّة من قرب، لكنّ عقلي تحايل عليّ، واستبعد فكرة جوع أفراد عائلتي. لذلك، كان وقع المنشور الذي رأيته أمس مدوّياً؛ كتبته ابنة عمّي على فيسبوك، تطلب فيه حليباً لطفلتها الرضيعة، لأنّ جوع أمّها لم يُوفّر لها حليباً طبيعياً.

ماذا كنتُ أتوقّع؟ بالطبع، لا تُقدّم الحرب حصانات لأحد ضد الموت، أو الجوع، أو القهر.

أتأمّل في غزّة، الخزّان الذي اتّسع لمليونَي شخصية حقيقية، من ضمنها عائلتي، وألاحظ سرديّةً مختلفةً حول هذا الصراخ الذي طالبنا به غسّان، والذي سأسميه هنا: مناجاة، إذ خلق فعل التجويع على غزّة بُعداً ثقافياً للمناجاة، يختلف بناءً على الأدوات التي يمتلكها الناس ليقولوا للعالم إنّهم مُجوّعون. 

ليست بالضرورة أدوات أدبيّةً مباشرةً، قد تكون جملة "لم آكل منذ خمسة أيام"، لمُسنّ على شاشة "الجزيرة"، أو الجملة التي كتبتها ابنة عمّي: "ولدت ومش لاقية حليب لبنتي"، عبر صفحتها على فيسبوك؛ جمل تحمل بلاغةً تفرض نفسها كشكل عميق من أشكال المناجاة. أقول مناجاةً لأنّ الجوع لا يُعلَن، بل يُناجى. ومن وصف إلى آخر، أو من نصّ أدبيّ إلى مراسلة تلفزيونية، يُؤسّس الناس في غزّة الآن لأرشيف جماعي ناطق، يُخبر عالم الغد -الذي هو نفسه عالم اليوم- بأنّ قطاع غزّة جُوِّع على مرأى الجميع، كامتدادٍ لسياسات الاحتلال الإسرائيلي في استخدام الجوع وسيلة حرب، ولكن هذه المرّة، بصوت مسموع ومدوٍّ ومباشر، وموثّق بشكل ذاتيّ.

تحوّل التعبير عن الجوع في الثقافة الفلسطينيّة

من الصراخ كحقّ، إلى المناجاة كضرورة:

"أنا المصوّر فادي ثابت...

أعرض أرشيف 20 عاماً من ذاكرة غزّة المصوّرة، مقابل كيس طحين لأطفالي الجائعين.

للمهتمّين والمعنيّين… الرجاء التواصل معي".

تبتكر غزّة لغتها الخاصّة في التعبير عن مآسيها، لأنّ مأساتها دائماً متطرّفة في فرادتها، أو فرادة قسوتها. في منشور كتبه المصوّر الفلسطيني فادي ثابت، يعرض فيه أرشيف صوره لقطاع غزّة -والذي هو بمثابة ذاكرة مصوّرة للقطاع- مقابل نجاته ونجاة أولاده من الجوع، حوّل الجوع من حالة بيولوجيّة إلى نداء إنساني يحاول فيه لفت نظر العالم إلى حجم المأساة. وفي تطرّف لغة المناجاة هذه، يُخلق احتجاجٌ وموقفٌ ثقافيّ ضدّ سياسة التجويع المتعمّد التي يُمارسها الاحتلال على غزّة.

في "رجال في الشمس"، فتح غسّان كنفاني باباً فلسفياً للمناجاة المرتبطة بالجوع، حين جعل الموت يحدث بصمت داخل خزّان الشاحنة، فقط لأنّ أبطاله لم "يطرقوا جدار الخزّان". هذا المشهد تحوّل إلى استعارة فلسطينيّة كبرى: هل نملك الحقّ في الصراخ حين نشعر بالجوع، أو الألم، أو الخذلان

المناجاة بهذا الشكل تُصبح خطاباً ببُعدٍ جديد، خطاباً يُعبّر عن الشعور بالقهر، قبل الشعور بالجوع، أو القهر الناتج عن التجويع. كأنّ حالةً من عدم الهوان تسحقهم قبل أن يسحق الجوع أمعاءهم. إذ إنّ الفكرة تتعدّى الحاجة إلى المساعدة، إلى ما هو أعمق من ذلك بكثير؛ ليس جوعاً مجرّداً، وليس نقص طعام، بل صراخٌ في وجه العالم لإيقاف حالة من الإهانة يشعر بها الناس، وهي إهانة لا يجب أن يشعروا بها. 

تتمثّل هذه الإهانة بصور كثيرة، أشرسها هي نقاط توزيع المساعدات، التي تحصد أرواح المواطنين الذين حملوا روحهم وجوعهم وكرامتهم على كفّهم، في محاولة تراجيديّة للتخلّص من الجوع. وتنتهي المحاولة بثلاثة احتمالات فقط: إمّا الموت قنصاً، أو العودة بإصابات وخيبات لعدم الحصول على حصّة من الطعام، أو تزيح الخيبة يدها ويؤجَّل الموت توقيته، ويحصلون على كيس طحين ملوّث غلافه بالذلّ والقهر. صورةٌ تُجسّد حالة الاستنزاف التي يمارسها الاحتلال لإذلال الفلسطينيين، والتي يرفضها الغزّيون في ظلّ الإبادة، بصور مناجاتهم.

دلالة الخبز

هي الحالة ذاتها التي يصفها فرانز فانون، بصيرورة "الموت البطيء" في كتابه "معذّبو الأرض"، ولكنه يرى في فئة المستعمَرين هذه، أوّل من يثور، وأوّل من يكتشف العنف في مواجهة المستعمِر. لذلك، فإنّ صور المناجاة هذه، هي الأداة التي يمتلكها الناس اليوم في رفض الواقع المفروض عليهم ومقاومته.

"كانت الأرض رغيفاً

كانت الشمس غزالةً

كان إبراهيم شعباً في رغيف

وهو الآن نهائيٌّ... نهائيٌّ

تمام السادسة

دمه في خبزه

خبزه في دمه

الآن

تمام السادسة".

لم يُسمِّ درويش قصيدته "الخبز" عبثاً، فالخبز هنا حياةٌ كاملة، ولطالما مارس الأدب الفلسطينيّ المناجاة، ليس فقط بوصفها فنّاً للقول، بل بوصفها وسيلة حياة، وصوتاً يُرفع في وجه الاحتلال.

لم يُسمِّ محمود درويش قصيدته "الخبز" عبثاً، فالخبز هنا حياةٌ كاملة، وإبراهيم النهائيّ ما زال يموت على نقاط توزيع المساعدات الثلاثة في مخيم تل السلطان قرب ممر موراج في رفح، ومركز رابع عند ممر نتساريم، أو في الخيام دون أن يذهب إلى تلك المناطق.

لطالما مارس الأدب الفلسطينيّ المناجاة منذ بداياته، ليس فقط بوصفه فنّاً للقول، بل بوصفه وسيلة حياة، وصوتاً يُرفع في وجه الاحتلال. مناجاة خرجت من قلب السجون، ومن الخيام، ومن بين أنقاض البلاد المُهجّرة، وعلى أطلال البلاد في ليل المَهجر الطويل الممتدّ منذ النكبة حتى هذه اللحظة.

وفي "رجال في الشمس"، فتح غسّان كنفاني باباً فلسفياً للمناجاة المرتبطة بالجوع، حين جعل الموت يحدث بصمت داخل خزّان الشاحنة، فقط لأنّ أبطاله لم "يطرقوا جدار الخزّان". هذا المشهد تحوّل إلى استعارة فلسطينيّة كبرى: هل نملك الحقّ في الصراخ حين نشعر بالجوع، أو الألم، أو الخذلان؟

ومن فلسطين، إلى الشعوب المستعمَرة التي سبقت الفلسطينيين، لم تكن المناجاة ترفاً أدبياً، بل كانت سؤال وجود، وحجراً يُحدِث ضجيجاً في مياه راكدة. لن يكون الحجر حجراً لولا صلابة الشعور الحقيقيّ وهوله.

ففي مذكّرات الكاتبة الألمانية آن فرانك، تُشير إلى تحوّل الحديث عن الطعام إلى محور حياة المجتمع، كمناجاة يوميّة وبسيطة. فتقول: "خلال سنوات الهولوكوست... قطع الناس الأشجار وهدموا المنازل من أجل الوقود. اضطرّ البعض إلى أكل سُبُل التوليب، ومات أكثر من 20،000 هولندي جوعاً خلال ما عُرف بـ'شتاء الجوع'. كل الحوارات تمحورت حول الطعام".

مذكّرات فرانك هذه عن الجوع، هي بحدّ ذاتها مناجاة أدبيّة متأخّرة لتوثيق المناجاة البسيطة.

فنون المناجاة من غزّة

اليوم، في إبادة غزّة وتجويعها، تتجدّد المناجاة، بهيئة بسيطة ومباشرة؛ من ابنة عمّي التي لا تستطيع إرضاع طفلتها، إلى جملة لأنس الشريف في تقريره الإخباري، إلى صورة أخ زوج خالتي مضرّجاً بدمائه ومغطّى بكيس طحين فارغ لم يستطع ملأه، فمات هو وفكرة الطعام. هذه ليست استعارات، بل أدب الضرورة بالشكل الذي يُتقنه المجوّعون من أبناء شعبي. فقد خلق الجوع سرديّةً لا فصل فيها بين "العالي" و"المنخفض" أدبياً، بل يُعاد تعريف ما هو "أدب" في ظلّ هذه التجربة.

تتعدّى مناجاة الغزّيين غرض الرغبة في أن يكونوا مرئيين أو مسموعين، هي تأمّلٌ مؤلم في ما تبقّى من أنفسهم، ومن كينوناتهم، في الإبادة التي يشارك فيها العالم كلّه. لقد أنتجت غزّة على إثر هذه التأمّلات الذاتيّة أدب جوع، وفنّ جوع، وأرشيف جوع، وربما مكتبةً قوميّةً للجوع الفلسطينيّ في ظلّ أسوأ وأطول احتلال، وكذلك أسوأ حالة صمت لعالم لا يرى من هذه المناجاة سوى بطونٍ فارغة، ونصوص ممتلئة.


في المقابل، هناك نصوص كُتبت ببلاغة وقفتُ عندها ببلاهة من لا يعرف معنى الجوع الحقيقي الذي يتعدّى وجع المعدة. فمصادفةً، قرأتُ قصيدةً للشاب رائد شنيورة، لا يمكن أن تكون المناجاة فيها أبلغ وأقسى من ذلك:

"في اليوم الثالث عشر بعد انقطاع الخبز...

دخلتُ بيت جاري

كان ميتاً

لكن ريقه ما زال دافئاً

أخذتُ ملعقة

وشرعتُ بالحفر في بطنه

كمن يحفر عن كنز في الرمل

أردتُ أن آكل… فقط أن آكل

فوجدتُ وجهي

نعم

وجهي

داخل بطن جاري

مضغتُه

وبكيت".

أقرأ الكلمات التي تخرج من غزّة، وأفكّر: أهي فعلاً مناجاة؟ أم أنّها مقاطع أخيرة في لغة لم تعد تتّسع للحالة التي يعيشونها؟ شنيورة، في قصيدته، لم يأكل لحماً عندما وجد وجهه في بطن جاره، بل مضغ المعنى المتبقّي للإنسان الذي نعرفه.

تتعدّى مناجاة الغزّيين –أهلي وأهلنا- غرض الرغبة في أن يكونوا مرئيين أو مسموعين، هي تأمّلٌ مؤلم في ما تبقّى من أنفسهم، ومن كينوناتهم، في الإبادة التي يشارك فيها العالم كلّه.

أنتجت غزّة على إثر هذه التأمّلات الذاتيّة أدب جوع، وفنّ جوع، وأرشيف جوع، وربما مكتبةً قوميّةً للجوع الفلسطينيّ في ظلّ أسوأ وأطول احتلال، وكذلك أسوأ حالة صمت لعالم لا يرى من هذه المناجاة سوى بطونٍ فارغة، ونصوص ممتلئة.

وفي كلّ وجهٍ يراه الغزّيّ المجوّع داخل بطن الآخر، يسأل: من التهمنا قبل أن نأكل؟

وربما علينا جميعاً أن نجيب، قبل أن يُمحى الوجه التالي.



رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

فلنتشارك في إثراء مسيرة رصيف22

هل ترغب/ ين في:

  • الدخول إلى غرفة عمليّات محرّرينا ومحرراتنا، والاطلاع على ما يدور خلف الستارة؟
  • الاستمتاع بقراءاتٍ لا تشوبها الإعلانات؟
  • حضور ورشات وجلسات نقاش مقالات رصيف22؟
  • الانخراط في مجتمعٍ يشاركك ناسه قيمك ومبادئك؟

إذا أجبت بنعم، فماذا تنتظر/ ين؟

    Website by WhiteBeard
    Popup Image