"ما شاء الله هيئتها عروس، مو ناقصها غير الشب يلي بيستاهلها"، و"يارب بتشوفيها عروس!"، و"بدي زوّجَك صبية عالـ14"، و"يا ريت لو كانت تحت الـ18 كنت أخدتها لابني!".
هي سلسلة استفسارات، أحياناً، ودعوات، أحياناً أخرى، تستنجد بالله للحصول على فستانٍ أبيض، وعروس لم تكمل الثامنة عشرة من عمرها، ما زالت بعض المجتمعات السورية ترددها في آذان الذكور، والإناث، منذ الولادة.
ماذا لو لم تكن الحرب، ونحن في مثل هذا اليوم وهذا العام؟ ما هي نسبة التزويج المبكر، لولا الفقر، والنزوح، واللجوء؟ وهل هذه مبررات كافية ليرمي الأهل بأطفالهم إلى هذا المصير؟
والسؤال الجديد ربما، الذي يطرحه فنانون/ات، وعاملون/ات في الشأن العام، هو: ما هو دور الفن في تغيير نظرة المجتمع حيال قضايا راهنة وملحة، كل يوم يقع كثيرون ضحايا لها، كالتزويج المبكر؟
"+18 بعدنا صغار"
ما زالت قصص التزويج المبكر حاضرة بين جدران الكثير من المنازل السورية، وقد ارتفعت نسبته بعد الحرب إلى 46% حسب إحصائية لصندوق الأمم المتحدة للسكان نهاية 2019، بينما كانت قبل الحرب 13%.
ما هو دور الفن في تغيير نظرة المجتمع حيال قضايا راهنة وملحة، كل يوم يقع كثيرون ضحايا لها، كالتزويج المبكر؟
لأجل هذه النسب التي باتت مرتفعة مثل كل شيء في سوريا، كالفقر، والتهرب من التعليم، والجوع، والتي يتخذها الأهل سبباً رئيسياً لتزويج بناتهن، وأبنائهم، قبل البلوغ، تعمل منظمات المجتمع المدني جاهدة لإيصال رسائل تؤثر في صلب المجتمعات، وتستخدم أدوات مختلفة للتوعية المجتمعية.
وضمن تجربة فريدة، اختارت مؤسسة "مَوج" التنموية، الفن أداةً لنشر التوعية، من خلال تدريب عشرات اليافعين/ات، على أدوات المسرح التفاعلي، ومسرح الدمى، ليوصلوا رسائل وسط مجتمعاتهم، عن أهمية عدم إجبارهم على خوض تجربة الزواج في وقت مبكر من عمرهم.
"أطلقنا على المشروع اسم ‘+18 بعدنا صغار’، لأننا أردنا لفت الأنظار إلى القضية التي نحاول التوعية في شأنها، وهي موجودة بشكل ملحوظ في منطقة عملنا في مدن القلمون في ريف دمشق، وقراه، كما في عموم سوريا. هذا الرقم يوضع إلى جانب المحتوى الإباحي الذي لا يناسب الأعمار كلها، وكذا موضوع الزواج المبكر، فهو لا يلائم الأعمار الصغيرة"، تقول المديرة العامة لـ"موج"، الناشطة أميرة مالك، في لقاء مع رصيف22.أما اختيار الفن أداةً للتوعية، فهو وفق حديث مالك، بسبب عامل الجذب الموجود فيه، والمرونة والتفاعلية أثناء تقديم الفكرة، بالإضافة إلى العمر الصغير للشريحة المستهدفة، ما يجعل من الضرورة ابتكار أدوات جديدة تلفت نظرها إلى القضية، وترسخ الرسالة في ذهنها.
"نهدف إلى تغيير تراكمي، ليس في المفاهيم فحسب، وإنما في القوانين وتطبيقها أيضاً"، تشرح مالك، وتضيف بأن العمل على دعم المرأة، وتمكينها، للمشاركة في الحياة العامة، يمر بشكل أساسي بعدم تزويجها في سن مبكرة، فكل سنة تعليم إضافية تزيد من معدلات التنمية بمقدار 3% وفق حديثها، ما يبين أهمية مناهضة الزواج المبكر، كجزء من تنمية المجتمع ككل.
الدمية "ليلى" تروي لنا الحكاية
الأدوات التي اختارتها مؤسسة "موج" لنشر الوعي حول قضية الزواج المبكر، تضمنت أن يقوم اليافعون/ات بتصميم مجموعة من الدمى، لتروي بطريقتها حكاية فتاة لا تزال في عمر الدراسة، وتشعر بأنها مشتتة بين رغبتها في متابعة تعليمها، وبين ضغوط مجتمعها عليها كي تتزوج باكراً، وتؤسس عائلة، ما يبدو المصير الطبيعي للفتيات والنساء في منطقتها. ومن خلال ليلى، ووالدتها، وجدتها، ومعلمها، تحاور اليافعون مع عائلاتهم خلال عرض مسرحي بعنوان "ذات الرداء الأحمر"، وهدفهم من خلاله أن يقولوا: "لا زلنا صغاراً، كهذه الدمى، لا تزوّجونا".
"التركيز على نقاط معينة، من دون أن نقول مباشرة إن التزويج المبكر خطأ، فتح آفاقاً أمام اليافعين/ات، لتكون أمامهم خيارات أخرى غير الزواج في هذا العمر"، تقول رهف علوم، وهي الفنانة التي أشرفت على صناعة الدمى، مضيفةً في حديثها لرصيف22 أن "واجب الفن أن يقدم رسائل مجتمعية، وأن ينمي المهارات، ويوسع المخيلة".
وتشير علوم إلى أن مشروع التوعية باستخدام الفن والدمى، عزز ثقة اليافعات بأنفسهن وخياراتهن، وقدرتهن على إبداء الرأي في المواضيع التي تخص حياتهن، وأيضاً تقبل الرأي الآخر، ومناقشته.
"الفن هو وسيلة لإيصال الشعور، أو الفكرة، بطريقة غير مباشرة للمتلقّين"، يقول الفنان يامن يوسف الذي شارك أيضاً في تدريبات مسرح الدمى لرصيف22، مضيفاً أن العمل عن طريق الفن، ساهم في تغيير نفسيات المشاركين/ات، وتفاعلهم مع بعضهم البعض، واندماجهم في موضوع يمسهم شخصياً، وأيضاً أدوارهم في المجتمع.كما تنصح الأخصائية النفسية الدكتورة غنى نجاتي، بضرورة استخدام الفن أداةً لإيصال الأفكار، لأن محتوى الفن يُنقل إلى الدماغ البشري بطريقة التعليم غير المباشر، فترسخ رسائله بطريقة غير لفظية، وبشكل يثبت تداعياته في النفس البشرية بطريقة أعمق وأسرع، و"بذلك يتقبل المجتمع هذه الأفكار التي قد لا تكون سائدة فيه، ويتعود على المحتوى الفني الذي يشاع عرضه، خصوصاً عندما يكون العرض مكثفاً، ومبرمجاً، بطريقة مدروسة ومنهجية"، تضيف في حديثها لرصيف22.
أفقٌ جديد
اقتحام المجتمعات لإيصال فكرة، أو تغيير عادة، هي حالة تحتاج إلى وقت، وجهد، وبحث، ويُعد الفن إحدى الأدوات المهمة للتغيير، لكن إقبال الأفراد وإقناعهم بالانضمام للأنشطة الفنية يُعد أمراً صعباً نوعاً ما، في بعض المجتمعات في سوريا.سهر سعدة (23 عاماً)، هي من أخذت دور "أم ليلى" في عرض الدمى المسرحي، وأشارت في حديثها لرصيف22 إلى أن المشاركة في المشروع عززت وجهة نظرها حول تزويج القاصرات، وتأثيره السلبي على حياة الأنثى والشاب معاً، "لكن الأثر الأهم هو على محيطنا الأوسع، فتناول القضية عن طريق الفن والدمى يبسط مخاطر الزواج المبكر، ويقرّبها من الجميع، وهو أمر يحتاج وقتاً وتكراراً"، تضيف.
"أطلقنا على المشروع ‘+18 بعدنا صغار’، لأننا أردنا لفت الأنظار إلى القضية التي نحاول التوعية في شأنها، وهي موجودة بشكل ملحوظ في سوريا. هذا الرقم يوضع إلى جانب المحتوى الإباحي الذي لا يناسب الأعمار كلها، وكذا موضوع الزواج المبكر، فهو لا يلائم الأعمار الصغيرة"
أما حسين الشيخ علي (15 عاماً)، وهو أحد المشاركين في المشروع، فيحكي لرصيف22 أنه كان يعدّ التزويج المبكر لبعض البنات أمراً عادياً، خصوصاً في ظل الحالة الاقتصادية الصعبة لكثير من الأسر السورية، لكن بعد جلسات المسرح التفاعلي، تفتح أفقه، ونبهته التدريبات بأسلوب غير تقليدي إلى مخاطر التزويج المبكر، الاقتصادية، والجسدية، والاجتماعية أيضاً، وبدأ في الحديث والتوعية عن الموضوع بين أقرانه، وأهله.
"في البداية كنت معارضاً لحضور ابنتي حلا تدريبات مسرحية يمكن أن تعرّفها أكثر عن موضوع التزويج المبكر، خاصةً وأن حلا كانت دائماً تسألني عن حالة زواج مبكر في عائلتنا، وكنا دوماً نتهرب من الإجابة"، يقول محمد (40 عاماً) لرصيف22، مضيفاً أن وجهة نظره تغيرت كلياً بعد مشاركة ابنته في المشروع: "كنت أظن أن البنات فحسب، هن ضحايا التزويج المبكر، ولم أنتبه يوماً إلى أن الشبان ضحايا أيضاً لهذه الممارسة".
بطريقة مشابهة، تتحدث أم ريمان العطا، وهي والدة إحدى المشاركات في العرض المسرحي، عن ردود فعل جديدة رصدتها لدى محيطها، حول قضية التزويج المبكر: "صرت أسمع النساء حولي يتحدثن عن حقوق الفتاة في التعليم، وأهمية عمل المرأة، واستقلالها المادي"، تقول لرصيف22، وتضيف أنه على الرغم من استمرار تفضيل بعض مجتمعات القلمون تزويج الفتاة مبكراً، إلا أن تغيير فكر، أو مجرد الحديث عن أمر، يُعد بشكل أو بآخر "تابو" اجتماعياً، هو إنجاز بحد ذاته.
السلطة الأقوى!
شيخٌ وشاهدان اثنان مع كتاب الله المقدس، أو إكليل، وذكر للمجد والكرامة ليبارك الزواج، هم الخطوة الأولى التي يلجأ إليها المجتمع لمباركة الزواج قبل الذهاب إلى المحاكم الرسمية، بغض النظر إن كان مبكراً، أو ضمن السن القانونية، في اعتراف ضمني من المجتمع بأن القوة الأولى للدين، الدين ذاته الذي يزوج الفتاة والشاب تحت السن القانوني، في حضور ولي أمرهم وشهود، كوسيلة يلجأ إليها الأهل عند تزويج أولادهم وبناتهم قبل سن الرشد.يشير الشيخ محمد أديب ياسرجي إلى أن الدين الإسلامي لم يحدد سنّاً معينة للزواج، إذ يُعد الزواج قبله مبكراً، وترك تقدير هذه المسألة إلى أهل الاختصاص والمعرفة، بناء على المعطيات العلمية، والمصلحة الاجتماعية، الفردية والعامّة، وينوه في حديثه لرصيف22 إلى أن الفقهاء اختلفوا في صحة تزويج الفتيات والفتيان القاصرين.
"صرت أسمع النساء حولي يتحدثن عن حقوق الفتاة في التعليم، وأهمية عمل المرأة، واستقلالها المادي. على الرغم من استمرار تفضيل تزويج الفتاة مبكراً، إلا أن تغيير فكر، أو مجرد الحديث عن أمر، يُعد بشكل أو بآخر "تابو" اجتماعياً، هو إنجاز بحد ذاته"
بينما يشير الأب مارون توما إلى أن موضوع التزويج المبكر بالنسبة إلى الكنيسة غير وارد بالمطلق، لأن الزواج الكنسي قائم على الرضا الحر، لكن إذا وردت حالة زواج تحت سن الـ18، يتم التريث في أخذ القرار، وفي هذه الحالات لا تزوج الكنيسة إلا بموافقة ولي الأمر، والمحكمة الكنيسية.
وينوه توما إلى ضرورة تعاون رجال الدين مع القانون، وهي الفكرة التي تتفق معها المحامية رولا باش إمام، التي أشارت في لقاء مع رصيف22 إلى أن عقوبات التزويج المبكر، وفق القانون السوري، متفاوتة، وتتراوح بين الحبس من شهر إلى ستة أشهر، وبغرامة من خمسين ألف إلى مئة ألف ليرة سورية، في حال عدم موافقة الولي، وبين خمسة وعشرين ألفاً إلى خمسين ألف ليرة سورية في حال موافقته، وغالباً ما يلجأ الزوجان لتثيبت الزواج في المحكمة عند وقوع حمل، أو إتمام الدخول، وعندها تقوم المحكمة مباشرةً بتثبيت الزواج حفاظاً على الروابط الأسرية. ترى باش إمام أن هذه العقوبات غير كافية على الإطلاق، لإنهاء حالات التزويج المبكر في المجتمع السوري.
تختلف قصص المتزوجين مبكراً، قسراً أو اختياراً، لكن يبقى حرف الامتناع "لو"، الكلمة الأولى عند بداية أحاديثهم: "لو لم أتزوج مبكراً لكنت فعلت ذلك!".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...