هذه حكاية فتيات اخترن حياةً تخلو من الكلمات والأرقام والكتب، أو أيّ مجلدٍ يحوي من بين ما يحويه سياسة التعليم والتلقين. بعضهنّ تآمرن على الزمن فخرجن من المدارس عن طيب خاطر، وأخرياتٌ تآمر الزمن عليهنّ فخرجن منها بالإكراه ولم يعُدن. مجموعةٌ من الأسباب القهريّة والنفسية دفعت هؤلاء الفتيات إلى ترك مدارسهنّ.
تُطلعنا وكالة وفا للمعلومات على مجموعةٍ من الأسباب، أبرزها تتعلَّق بصعوبات يواجهنها الطالبات أنفسهنّ كصعوبة التعلُّم وتدني التحصيل العلمي، وانعدام الرغبة في التعلم أو الانخراط المبكِّر في سوق العمل. وهناك أسبابٌ أسريّة على رأسها تردّي الأوضاع الاقتصادية؛ التي تجبرهنّ على العمل لدعم أسرهن. بالإضافة إلى إهمال الأسرة للفتاة وقلّة الاهتمام بالتعليم داخلها. ولا يمكن استثناء الأسباب المتعلِّقة بالمدرسة نفسها؛ كالإحساس بالاغتراب وعدم الانتماء، والتعرض للعنف أو بُعد المدرسة عن مكان السكن. هناك أيضاً الأسباب المتعلِّقة باعتقالات الاحتلال الإسرائيلي للطلاب (وإن كانت تمسّ الأطفال الذكور بشكلٍ أكبر من الإناث).
نشر الجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني مسحاً أوّلياً عام 2020، عن نسبة التسرّب من المدارس، إذ أظهر المسح أنَّ نسبة تسرّب الذكور بلغت %1.0 مقابل %0.6 بين الإناث. وإذا ما قارننا معدَّل التسرب حسب الصف، نجد أن أعلى معدل للتسرب بين الإناث في الصف الثاني عشر تكنولوجي، حيث بلغ المعدل حوالي %21.
هجر التعليم بسبب الوصمة الاجتماعية
في قريةِ سالم (قضاء نابلس)، وتحديداً في مدرسة الإناث، ظلَّ مقعد رنيم فارغاً في الصف الخامس بعد غيابها لأسبوعين عن المدرسة بسبب "المسّ الشيطاني والجنون". هذه الوصمة التي وصمتها قريتها بها غيَّرت حياتها إلى الأبد. تفتتح فاطمة، والدة رنيم، حديثها لرصيف22 بالقول: "هذه ليست ابنتي. تغيَّرت كثيراً، بدأ هذا التغيّر بشكلٍ تدريجيٍّ ومنذ شهرٍ تقريباً، حين مات والد فتاة في صفها، شهدت رنيم آثار الصدمة على زميلتها وشعرت بالخوف الشديد. ومنذ ذلك الوقت وهي تكره المدرسة ولا ترغب في العودة إليها. أصبحت عنيفةً بشكلٍ ملحوظ، تضرب إخوتها وتشتمهم. هددتنا مرَّةٍ بإحراق البيت إذا خرجنا منه، وفي الوقت نفسه لم تكن ترضى بالمجيء معنا. لا تخرج من البيت أبداً". وتضيف فاطمة: "والدها يعمل في الداخل الفلسطيني، في اللَّيلة التي يخرج فيها إلى عمله لا تنام. وفي الصباح تصرخ كثيراً لأسبابٍ سخيفة، أو دون سبب، حتى أنَّ الجيران ظنّونا نضربها. زارتنا مرشدة المدرسة في البيت، بتوصيةٍ من الإدارة، للاطمئنان على صحتها النفسية والجسدية، وللتأكد من أنها لا تعنَّف. حين سألتها لماذا تتصرَّف بهذه الطريقة قالت لي: لا أريد الذهاب إلى المدرسة، سأعمل في الخياطة مثل عمّاتي".
لن أنسى هذا اليوم ما حييت. ضربني بشدّة وحبسني في غرفتي، ولم أعد إلى المدرسة أبداً
لا تعتقد فاطمة أنَّ ما حدث مع ابنتها هو نتيجة حالة الصدمة والخوف في ذلك اليوم، أما الجيران فيعتقدون أنَّها أُصيبت بالمسّ أو الجنون؛ لأنَّ الأصوات التي يسمعونها توحي بذلك، بحسب تعبيرهم. من جهتها، لم تعد فاطمة قادرة على مواجهة الناس أو النظر إليهم، بسبب ابنتها. ولا تعرف في الوقت نفسه الأسباب الحقيقيّة لما حدث. تشعر الأمّ بالندم لأنَّها لم تسقِها من "كأس الرجفة" كما اعتادوا تسميته في سالم. وهي عبارة عن إناء معدنيّ يُسكب فيه الماء الباردة، وهو مخصَّص لإزالة الرعب أو الفزع، ومن شروطه أن يشرب الخائف الكأس كله. ونادراً ما تخلو بيوت القرية منه. تقول فاطمة: "قالت لي أمي: لو أنّكِ سقيتها كأس الرجفة لعادت إلى رشدها، ما حدث معها هو عقدةٌ بسبب الخوف وكأس الرجفة كان سيحلّها. ولكن لا فائدة ترجى منه الآن، كان يجب أن تُسقى حين وقعت الحادثة. ثمّ قالت جرّبي أن تأخذيها إلى شيخ". لم تأخذها العائلة إلى شيخ بسبب الأحوال المادية السيئة، وخوفاً من نظرة المجتمع (نظراً لتلاصق البيوت وقربها الشديد من بعضها البعض، لدرجة أنّ الناظر من سطحِ بيتٍ ما يرى ما في داخل البيوت المجاورة). كما رفضوا إحضار شيخ للقراءة عليها للأسباب ذاتها. فاطمة تعتقد أنَّ ابنتها لن تعود إلى المدرسة أبداً حتى لو شُفيت. فالوصمة ستلاحقها إلى آخر يومٍ في حياتها، وأكثر ما تخشاه أن تصير، حتى مهنة الخياطة، التي ترغب رنيم في امتهانها، شيئاً قصيّاً لا يمكن تحقيقه.
البيئة الاجتماعية التي تعيش فيها رنيم تشكّل سببٌ من الأسباب التي حالت بينها وبين العلاج. إذ تستحوذ فكرة "كأس الرجفة" وعرضها على الشيوخ على المشهد، لم يفكٍّر أحدٌ قطّ في عرضها على طبيب نفسيٍّ ولا يؤمنون أصلاً بفاعلية العلاج الطبيّ؛ إذ يعتقدون أن العلاج سيكون مجموعةً من الأدوية المسببة للهذيان وفقدان الحركة. ذلك فضلاً عن وجودها في مجتمعٍ أبويٍّ سلطويّ يشترك بشكلٍ جماعيٍّ في تقرير مصيرها.
"ضربني أبي وحبسني ولم أعد إلى المدرسة"
ما تعرَّضت له رنيم وغيرها من الفتيات يُعتبر نوعاً من أنواع العنف الذي يُمكن معالجته بعد اللجوء إلى الطب النفسيّ. علماً بأنَّ هناك حالات عنف أكثر مباشَرة تتعرَّض لها الإناث في مدارسهنّ، كالعنف اللفظي أو الجسدي. أظهرت النتائج الأولية لمسح العنف الأسري 2019 الصادر عن الجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني، أن %25 من الأطفال في الضفة الغربية وقطاع غزة ما بين الفئة العمرية من 12 – 17 تعرضوا لأحد أنواع العنف في المدارس، بواقع %26 للذكور، و %15 للإناث. فهناك %17 من الأطفال تعرضوا للعنف الجسدي من قبل أحد المعلمين أو المعلمات، بواقع %26 للذكور، و %7 للإناث. كما أنَّ %15 من الأطفال تعرَّضوا للعنف النفسي، بينهم %12 من الإناث.
أمّا آية (17 عاماً) فهي فتاةٌ تحصيلها العلميّ كان يتراوح بين جيد جداً إلى ممتاز، اضطرت إلى ترك دراستها قبل سنتين لأنَّ والدها اكتشف علاقتها بأحد الشبان الذين يشاطرونها طريق المدرسة نفسه. ولن يشاطروها أبداً طريق المعاناة والحرمان من التعليم؛ لأنَّهم ذكور. تقول آية: "لم نفعل شيئاً سوى تبادل النظرات والتحية، لو كنت أعرف أنَّ أبي سيمرّ من الطريق ذاتها لغيّرتها. لن أنسى هذا اليوم ما حييت. ضربني بشدّة وحبسني في غرفتي، ولم أعد إلى المدرسة أبداً. كانت أمي ترافقني إلى جميع الأماكن التي أذهب إليها. ومضت فترة طويلة قبل أن يسمح لي بالخروج بمفردي".
كما تعقِّب: "التحدث مع أحد الشبان ليس خطيئة كبرى تستحق أن أخسر دراستي بسببها. ما أنتظره هو الزواج، لأخرج من تحت إمرته". آية دفعت ثمنَ نظراتها ما تبقى من سنواتها الدراسية. إذ لا تزال بعض الفئات في المجتمع الفلسطينيّ ترفض الاختلاط بالجنس الآخر، وتعتبره خروجاً عن القيم والعادات والتقاليد التي نشأت عليها.
الأسرة: القامعة أو المحرّرة لرغبتهنّ
تقول المرشدة الاجتماعية حكمية صبرة لرصيف22: "في الماضي كانت نسبة تسرب الفتيات من المدارس أكبر، لأسبابٍ عائلية كالعنف أو الزواج المبكر، أو التفرغ لرعاية باقي أفراد العائلة. أما اليوم فالإحصائيات تثبت أنّ نسبة عزوفهنّ عن التعلم أو خروجهنّ من المدارس قليلة وفي انحسار. حين كنتُ مرشدة في إحدى مدارس المرحلة الثانوية حاولت مراراً إقناع فتاة بالعدول عن فكرة الخروج من المدرسة للزواج من ابن عمها. لكنها رفضت وقالت إنها ستكبر على يديه، لا على مقاعد الدراسة. لكنّ السنة الماضية مع انتشار وباء كورونا وإغلاق المدارس، أصبح من السهل الاعتياد على البقاء في المنزل، وصارت الأيام التي يعود فيها الطلبة إلى المدارس جحيماً بالنسبة إليهم".
بحسب صبرة، لم يعد تسرب الفتيات من المدارس اليوم مرتبطاً بالزواج، بل بظروفٍ اجتماعيةٍ وصحيةٍ ونفسية قبل أي شيءٍ آخر، إلى جانب الاعتياد على البقاء في البيت بسبب كورونا. فالمشاكل النفسية هي التي تقود الدفة في عصرنا الحالي، بسبب هيمنة الإنترنت وأنواع الإدمان المختلفة التي تتولَّد من سهولة الدخول إلى هذه المواقع، وامتلاك حسابات عليها. "المشاكل النفسية هي الأبرز، فطبيعة العصر الذي نعيش فيه ومتطلبات الحياة أوجبت علينا اعتبار الكثير من المتطلبات الثانوية متطلبات أساسية، كذلك الأمر مع وسائل التواصل الاجتماعي وانتشار الألعاب الإلكترونية ووجود الكثير من المُلهيات والأدوات التي من السهل جداً على البالغين أن يدمنوا عليها. فهل سنتوقع نجاة الصغار وهم الأكثر عرضة للإدمان والتعلق؟"
بعض العائلات ترفض معالجة هذه المشاكل، والتي غالباً ما تكون داخل العائلة كالتعنيف مثلاً. يعتقدون بأنها مشاكل خاصة ولا يحق لوزارة التربية والتعليم أو للإرشاد أن يساهما في معالجتها
من جهةٍ أخرى لا تُستثنى الفئة التي تعاني من مشاكل أسرية أو تتعرَّض للعنف، كما تؤكد صبرة "الفتيات اللواتي يعانين من مشاكل يمكن معالجتها ينبغي معالجتهنّ وإعادتهنّ إلى مقاعد الدراسة، إلا أن بعض العائلات ترفض معالجة هذه المشاكل، والتي غالباً ما تكون داخل العائلة كالتعنيف مثلاً. يعتقدون بأنها مشاكل خاصة ولا يحق لوزارة التربية والتعليم أو للإرشاد أن يساهما في معالجتها. أما الفتيات اللواتي اخترن البقاء في منازلهنّ، بعملٍ أو دونه، فمن الصعب جداً أن يعدن. من الضروري التنويه بأن الأسرة تلعب دوراً كبيراً في قمع رغبات الفرد أو تحريرها، إذا كان أحد الأبوين متوفى، أو عدد الأطفال كثير والمسؤوليات متراكمة، ولا يوجد أدنى اهتمام في عملية التعليم من قبل العائلة، يكون التفكير في الخروج من المدرسة لن يشكل عائقاً أمام هؤلاء الفتيات. فلا توجد مساءلة أو محاسبة لهنّ".
وبحسب وكالة وفا للمعلومات، أثبتت العديد من الأبحاث "أن آثار الاعتداء على الأطفال لا يمكن محوها من ذاكرتهم بسهولة، وقد ترافقهم مدى الحياة. وهذا يؤثر على آدائهم الاجتماعي والسلوكي والانفعالي. فهم في غالب الأحيان مشتتون من ناحية انفعالية، قلقون، غاضبون، يجرحون بسهولة، قليلو الثقة بأنفسهم، مواقفهم النفسية والانفعالية غير مستقرة".
الاقتصاد المتردّي طريقٌ إلى عمالة الأطفال
الاعتقاد السائد في المجتمع الفلسطينيّ أنه من الصعب أن تعثر الفتاة على وظيفة حتى حين تمتلك شهادة جامعية أو مع حصولها على الامتياز. فكيف لو كانت مسيرتها التعليمية متوقفة على المرحلة الأساسية أو الإعدادية؟ في قصّةٍ أخرى في قرية مردة (قضاء سلفيت)، تعمل منار (16 عاماً) في مجال تسويق الملابس والأدوات المنزلية وبيعها. خرجت من المدرسة قبل عامٍ بعد وفاة والدتها، وهي الابنة البكر بين ثلاثة أطفال يعيلهم رجلٌ يعمل بائعاً في بقالةٍ صغيرة. تقول منار: "لا أحبّ الدراسة ولم أفتقدها. لستُ أُميّة وأستطيع القراءة والكتابة بشكلٍ ممتاز. كنتُ سأترك التعليم على أيّ حال حتى لو لم تمت أم، كانت مسألة وقتٍ فقط. لديَّ مشروعي الخاصّ الذي يساعدني أبي على إدارته. حين خرجت من المدرسة انقطعت علاقتي ببعض الفتيات من جيلي، كنّ ينظرن إليّ باستعلاء. اليوم وبعد مرور سنة لا أشعر بالنَّدم، الشيء الوحيد الذي تعلَّمته في المدرسة بشكلٍ جيّد هو الحساب. العمل ليس عيباً، الأوضاع الاقتصادية لعائلتنا لم تعد كما السابق بسبب الوباء، وهذا شيء تعاني منه أغلب الأسر حالياً. لا يمكن لأبي أن يعمل في عملين، فهو رجل كبير ولديه مرض في القلب". تحاول منار بدخلها البسيط أن تساهم ولو قليلاً في تحسين أوضاع عائلتها الاقتصادية. متَّخذة من تجارة الملابس ملاذاً لها، دون أن تفكِّر في العودة إلى المدرسة أو استكمال تعليمها.
الأوضاع الاقتصادية السيئة تؤثر بشكلٍ مباشرٍ على بقاء الطلبة في المدارس أو خروجهم منها. وفي السياق ذاته أصدرت الهيئة المستقلة لحقوق الإنسان تقريراً سنوياً، وردت فيه بعض التحفظات المتعلقة بالحق في التعليم، إذ تُلزم الوزارة الطلبة بدفع رسم التسجيل مع بداية كل فصل كتبرعات، بالإضافة إلى رسوم بعض الكتب، فضلاً عن قصور المناهج التعليمية وركاكتها، ما يُعتبر انتهاكاً لحقّ الإنسان في الحصول على تعليم مجانيٍّ ومثمر.
رغم الأسباب النفسية والمجتمعية، يظلّ التعليم حقاً من حقوق الفتيات، من واجب الدولة أولاً ثم الأسرة ثانياً والكادر التعليميّ ثالثاً أن يسدّ هذه الفجوة بالتوعية، وبحل المشاكل التي قد تحول بينهنّ وبين البقاء على مقاعد الدراسة. إذا كانت وزارة التربية والتعليم تُطالب برسومٍ مقابل التسجيل واستلام الكتب، فمن الأجدر بها أن تستغلَّ هذه الأموال لتطوير المناهج الدراسية، وأن تُعفي الطلبة الذين لا يملكون مالاً كافياً من دفع هذه المبالغ، أو أن تُساهم بمعية الحكومة في توفير فرص عملٍ برواتب معقولة تضمن بقاء الطلبة في مدارسهم وعيشهم حياة كريمة.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...