كانت تسير بخطى متثاقلة باتجاه تلك البوابة المدرسية، التي تحاول جاهدة فتح مصراعيها للفتيات في قرية لا تؤمن إلا بأن "مستقبل البنت زواجها".
استوقفتُها، لكنها ترددَت في الحديث، رغم أنها فاجأتني برغبتها في أن تصبح صحافية. تجرأَت في الحديث عما يمكن وصفه بـ "معاناة كل فتيات المدرسة" التي ترتادها في قرية أم النصر أو ما تُعرف بـ "القرية البدوية"، أقصى شمال قطاع غزة.
"حاتجوز قبل الامتحانات"
على باب مدرسة "حمزة بن عبد المطلب" الحكومية الوحيدة للفتيات في قرية أم النصر "القرية البدوية" أو ما يطلق عليها مدرسة "أم النصر للفتيات"، تحدثت الطالبة عايدة أبو رشود (17 عاماً) بعد تردد، لرصيف22: "أنا أحب المدرسة والتعليم، لكن أحياناً بفكر شو الفايدة إذا مش حاكمل للجامعة". مضيفةً: "صعب أهلي يخلوني أدرس في الجامعة، بالعافية وافقوا على الثانوية، يعني أنا صرت في آخر سنة، يعني إذا حضرت، ولا غبت كله واحد".
"بس أنا عن نفسي إذا منعني خطيبي بعد الزواج من استكمال دراستي حنكد عليه عيشته، أنا روحي في التعليم"
سعاد أحمد، هي الأخرى شارفت على انتهاء المرحلة الثانوية، لكن لفت انتباهي خاتم الخطبة في يدها، فأشارت إليه قائلة: "أنا حاتجوز قبل الامتحانات، وكتير خايفة إنه خطيبي ما يخليني أكمل، وأخلص الامتحانات أو أدرس بالجامعة".
اشترطت سعاد عليه أن تكمل الثانوية العامة على الأقل، ولكن على حد وصفها: "لو قال لا، مين حيراجعه في وعده لي".
ضحكت، وهي تضيف: "بس أنا عن نفسي إذا منعني حنكد عليه عيشته، أنا روحي في التعليم".
المدرسة الوحيدة
وتعد مدرسة "حمزة بن عبد المطلب" الوحيدة التي تضم المراحل الدراسية الثلاث (الابتدائي والاعدادي والثانوي) في قرية أم النصر، وهو ما يشكل عبئاً مضاعفاً على الكادر التعليمي.
تقول المعلمة ابتسام النيرب لرصيف22: "نحن هنا أشبه ما نكون في معركة، نقاتل من أجل الاستمرار، فالإمكانيات ضعيفة من حيث مساحة المدرسة أو عدد المعلمات". مضيفةً: "هناك تكدس للطالبات داخل الفصول، لدرجة أننا حولنا المكتبة لصف، وتفتقد المعلمات وجود غرفة خاصة بهن".
وتشير ابتسام إلى أنه في السنوات السابقة، كان عدد سكان القرية قليلاً، وهنالك رفض لفكرة تعليم الإناث، بعكس اليوم، إذ يزداد عدد السكان بصورة كبيرة، وأصبح هناك وعي لدى الفتيات، وبعض الأسر بضرورة تعليم الفتيات، على الأقل حتى المرحلة الثانوية، هكذا باتت المدرسة تشهد إقبالاً كبيراً من الفتيات على التعليم، وهو ما لا تستطيع المدرسة استيعابه، مع بقاء مساحتها الحالية كما هي دون محاولات لتوسعتها.
وتؤكد المعلمة أن المدرسة تحاول التواصل مع كل الجهات المختصة، مثل بلدية القرية، على الأقل من أجل توسعة المباني أو الموافقة على تنفيذ إقامة مبنى جديد يستوعب زيادة الأعداد.
صعوبة الوصول
تبلغ مساحة قرية أم النصر 800 دونم (الدونم الواحد يعادل ألف متر مربع)، أنشئت عام 1997 في منطقة قريبة من المستوطنات الإسرائيلية، وتحدها من الغرب مستوطنة دوغيت (سابقاً)، ومن الشرق مستوطنة نيسانيت (سابقاً)، ومن الشمال مستوطنة إيلي سيناي، ومن الجنوب سلسلة من برك الصرف الصحي أو ما تعرف بـ "تجمع برك الصرف الصحي".
وبنيت القرية في النصف الثاني من التسعينيات، بعد تأسيس السلطة الوطنية الفلسطينية، لسببين، الأول إنهاء سيطرة البدو على الأراضي الحكومية في شمال القطاع، والثاني وضع حد لتمدد البؤر الاستيطانية الثلاث، التي أزيلت في العام 2005 عقب الانسحاب الإسرائيلي الأحادي الجانب من قطاع غزة، الأمر الذي حول حياة البدو من بداوتهم التي احتضنوها دهراً إلى الاضطرار للعيش في بيوت اسمنتية متلاصقة، ثم تم بناء المرافق الصحية، والتعليمية، والخدماتية، وبدأ عدد قليل من الفتيات يرتدين المدرسة الوحيدة، التي تقع في أقصى شمال القرية.
تقول المعلمة سماح الدجني لرصيف22: "كثير من المعلمات لسن من سكان القرية، وبالتالي يجدن صعوبة كبيرة في الوصول إليها بسبب عدم تعبيد الطرق، والمواصلات غير المؤمنة". مضيفةً: "ناهيك بأجواء الشتاء والمطر، فمن الممكن أن تسير الطالبات تحت المطر حتى الوصول للمدرسة، حيث تخلو الطريق من حركة السيارات والمارة والمحال التجارية والمرافق الخدماتية".
تلاحقهن الكلاب الضالة في الطريق الزراعية، المؤدية للمدرسة.
تصف سماح بمزيج من الضحك والأسى شعور الطالبات والمعلمات عندما تلاحقهن الكلاب الضالة في الطريق الزراعية، المؤدية للمدرسة، حيث تركض الفتيات حتى الوصول "مقطوعات الأنفس".
وتعتبر المعلمة هبة الفالوجي بُعد المدرسة عن بيوت الطالبات، وصعوبة الوصول إليها سبباً رئيساً في خوف بعض الأهالي على الطالبات، وبالتالي منعهن من الذهاب إليها، وخصوصاً أن المدرسة لا يفصلها الكثير عن الحدود الشمالية للقطاع، حيث تنتشر قوات الاحتلال، وهو ما يشكل خطراً على من يصلون إلى تلك المنطقة.
"مستحيل أن تذهب الطالبات فرادى، يسرن الى المدرسة مجموعات ليشعرن بالأمان"، تقول الفالوجي.
أمية وفقر
تحاول القرية القفز عن الواقع المعيشي الصعب، ومجاراة التمدن، ويظهر ذلك جلياً في الاهتمام بالبناء وإمداد البيوت بالطاقة الشمسية، حتى التواصل والتفاعل المجتمعي، إذ أسس شباب القرية صفحة خاصة بهم عبر فيسبوك لنشر أخبار القرية، وتوطيد التواصل مع المجتمع، وعلى الرغم من ذلك ما زالت الأفكار الراسخة في ذهن العائلات كما هي، خصوصاً في ما يتعلق بحقوق الفتيات، وعلى رأسها التعليم والعمل".
"من حقنا نختار حياتنا، الحياة مش يا زواج يا تعليم، الحياة مش يا زواج يا عمل، احنا قادرات نعمل كل شيء، بس علموا أهالينا وفهموهم"
وتعدّ المعلمة إيمان أبو رفيع واحدة من شابات القرية اللواتي أكملن تعليمهن حتى أصبحن ذوات مكانة مجتمعية، تتمنى الكثير من الفتيات الوصول إليها. تقول: "قديماً كان من سابع المستحيلات أن يسمح الأهل للفتاة بإكمال تعليمها، فأقصى مرحلة يمكن الوصول إليها الإعدادية، أما اليوم فهناك تطور نوعي، ففي الغالب باتوا يسمحون للفتاة بإنهاء المرحلة الثانوية، ولكن لا تزال هناك صعوبة في استيعاب فكرة الجامعة عند معظم أهالي". مضيفةً: "الأمهات بالذات هن أكثر من يدعمن فكرة تعليم فتياتهن، حتى لا يقعن فرائس للجهل الذي مررن هن به سابقاً".
"سأعلم ابنتي ولو على حساب الأكل والشرب".
تذكر إيمان قصة والدة إحدى الطالبات، وهي تقول لها: "سأعلم ابنتي ولو على حساب الأكل والشرب، ما بدي اياها أمية مش قادرة حتى تقرأ منشور على علبة دواء".
ورغم ذلك ترى إيمان أن أمية الأهالي سبب رئيسي في ضعف تحصيل الفتيات، فهن لا يجدن من يراجع لهن الدروس، وبالتالي يعدو كل الاعتماد على المعلمات، "وهو أمر مرهق جداً" بحسب قولها لرصيف22.
وتشدد إيمان على أن الوضع المادي في كثير من الأحيان يتحكم بمصير الفتاة، خصوصاً إذا كان لها إخوة، إذ لا يزال الأهالي يفضلون تعليم الصبي على تعليم البنت.
"علموا أهالينا وفهموهم"
كالزهرات صغيرات، وبريئات، هن طالبات المدرسة اللواتي يسعدهن أي شيء، وأبسط فعالية مدرسية ترسم البسمة على وجوههن، وتعطيهن دفعة للاستمرار رغم كل المعوقات.
ببساطتها، تقول الطالبة عائشة أبو دحيل لرصيف22: "نفسي أكمل تعليمي وأصير ممرضة، لأنه احنا في القرية أحياناً يكون في قصف قريب منا، وبتأخر الإسعاف، أنا بدي أساعد أهل قريتي".
وتؤكد الطالبة نهاية الجلاوي أن "بنات القرية كجميع الفتيات في المجتمع الفلسطيني، لا ينقصهن شيء، بل على العكس لديهن مخزون من الإبداع والتميز، هن فقط بحاجة للدعم، وللشعور بإمكان إكمال تعليمهن كي يصبحن أفضل، ويعشن حياة أحسن من تلك التي تعيشها أمهاتهن اليوم".
"نحن لا نريد الزواج نريد التعليم"، قالت أسماء الرميلات بصوت طالبات المدرسة جميعاً، وتابعت لرصيف22: "من حقنا نتعلم، ومن حقنا نختار حياتنا، احنا ممكن نتزوج ونكمل تعليمنا، الحياة مش يا زواج يا تعليم، الحياة مش يا زواج يا عمل، احنا قادرات نعمل كل شيء، بس علموا أهالينا وفهموهم إنه احنا بنقدر، وبدنا نتعلم رغم كل الظروف الصعبة".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...