أعيش منذ 14 تموز/ يوليو الماضي، في مجموعتَي "واتس آب"؛ واحدة للعائلة وواحدة لصديقاتي. أتنقل طوال الأيام بينهما للاطمئنان والطمأنة.
صديقات الطفولة والحارة، لعبنا معاً وذهبنا إلى المدرسة الابتدائية ثم الإعدادية فالثانوية معاً، ودرسنا في الجامعة وسكننا معاً في السكن الجامعي، وطبخنا "برغل وملوخية"، ولبسنا ثياب بعضنا، ورسمنا خطّ الكحلة لبعضنا البعض بأقلام الرسم الهندسي، وضحكنا طويلاً من هذه الحيلة دون أن نخبر المعجبات بإتقان ذيل الكحلة بسرّنا الصغير.
حضرنا مشاريع واحتفالات تخرّج بعضنا، ورقصنا في أعراس بعضنا بعضاً، والتقطنا عشرات الصور.
وحين فرّقتنا دروب الحياة وعائلاتنا الصغيرة الجديدة، وأخذتنا بعيداً إلى قارات مختلفة، نعيش بفوارق التوقيت بين بعضنا، ظلّت مجموعة الواتس آب مكان لقائنا اليومي.
لقاء يومي على الواتس آب
ننشغل أحياناً فنكتفي بإرسال صباح الخير، أو معايدات في أعياد ميلادنا أو أعياد ميلاد أولادنا، ونتحمّس أحياناً أخرى فنعدّ المتّة كلّاً حسب توقيتها ونشربها معاً بينما ندردش ونضحك ونتبادل الذكريات.
منذ ليلة 13 تموز/ يوليو الماضي، يوم اجتياح القوات الحكومية محافظة السويداء، حبيبتنا وأرض أهلنا وأصدقائنا وملعب ذكرياتنا، لم نعد نغادر المجموعة.
ضُبِطَت ساعاتنا وتوقيتاتنا جميعاً على توقيت المجازر في الجبل. نطمئن على سلامة الجميع، ونسأل: أين وصل الغزاة؟ هل دخلوا بيتك؟ بيت أهلك؟ جيرانك؟
مجموعة الواتساب التي كانت مساحة للضحكات والذكريات والوصفات البسيطة، تحوّلت فجأة إلى خط نجاة يومي. من صور الأطفال والورود إلى رسائل مشفرة عن المجازر والناجين، لتصبح هذه المساحة الافتراضية الحاضن الأخير للصداقة والأمل وسط الرعب
حذفنا المحادثات والصور واتفقنا على كلمات سرّية، نتبادلها لنعرف الأخبار دون أن نتسبب لإحدانا في الأذى، لأنهم يفتشون الموبايلات ويسرقونها. تحولت مساحتنا الافتراضية الدافئة، من صور أطفالنا ونباتاتنا وكاسات متّتنا، إلى صور الانتهاكات والبيوت المحروقة وأخبار الأقارب الضحايا، القتلى والمفقودين والمصابين والنازحين.
بعد يومين من الرعب المتواصل والترقب، انسحب الغزاة من شوارع المدينة، واستقروا في بيوت وشوارع 35 قريةً، لا يزالون يحتلونها حتى هذه اللحظة. نجونا من القتل ولم ننجُ من الخسارات المختلفة، ومن صدمات وجراح سيطول وقت شفائها، في أرواحنا وأرواح أطفالنا.
أطفالنا الذين نربّيهم بالحب والكثير من الحساسية، لا يعرفون العنف ولا حتى مفردات اللغة المرتبطة به. نجنّبهم بشاعات العالم بدروس الموسيقى والرسم والبرمجة والرياضة. تحولت حياتهم فجأةً إلى حرب، وتعلّموا أسماء الأسلحة وآلات القتل. صاروا يميّزون أصوات الطيران ورصاص القناصات، ويفيقون مرتعبين ويهرولون خافضي الرؤوس خوفاً من رصاصة غادرة تتسلل من نافذة.
تتساءل ليلى: ماما هذه هي الحرب، قولي الحقيقة! وتصرّ صديقتي: لا يا ماما هي مفرقعات!
كيف نبرر المجازر للصغار؟
تستسلم بعد جولتَين من الهرب والاختباء، فتقول الحقيقة: بلى يا حبيبتي، إنها الحرب. كيف ستبرر لصغيرتها ذات الأعوام السبعة التي جاءت من الخليج لتزور بيت جدّها في العطلة الصيفية، أنّ العائلة كلها تهرب من المفرقعات؟
خفت صوت الرصاص قليلاً، وانجلت المعركة الأولى عن مجزرة وانتهاكات وضحايا. لم يصدّق الناجون أنهم نجوا، وانشغلوا أياماً بدفن جثث الضحايا وطرد رائحة الموت من الهواء والساحات، وتوثيق المأساة بالصوت والصورة، والغضب من الخذلان ومن إخوة الوطن الذين سمحوا لمقتلتنا بأن تحدث، أو حرّضوا عليها أو فرحوا بها، أو حتى صمتوا ظانين أنّهم بذلك يقولون خيراً.
أصادف إعلاناً عن نشاط دعم نفسي للأطفال في السويداء... ثم أتذكر أنني لم أحضّر الغداء لأولادي ولم أصطحبهم إلى الحديقة، "مين إلو نفس"، أهمس بأسف.
بدأت أيام الحصار، وها هو ذا يدخل أسبوعه الرابع، يطحن ساعات أيامنا بالبحث عن المواد الأساسية والوقوف في طوابير الخبز، وتأمين السلات الغذائية، وانتظار الكهرباء وصهاريج الماء التي لا تأتي لأنّ آبار المياه في ريفنا الغربي محتلة، وتتعرض لتدمير ممنهج حرمنا من 70% من واردات المياه.
نقاش يطول ساعات في مجموعتنا عن طرائق تحضير اللبن الرائب من الحليب دون "روبة لبن"، ونتبادل النصائح ولقطات الشاشة لإجابات "تشات جي بي تي"، ونقترح أن تجرّب واحدة فقط بنصف كمية الحليب التي حصلت عليها بصعوبة.
ننام ساعات قليلة بعد أن نتفقد كل الجبهات، ونتأكد أن الجميع بخير لهذا اليوم، نفتح أعيننا لنطمئن على الحليب: هل تحوّل إلى لبن؟ لا تجيب الصديقة التي ضحت بنصف الحليب، ليس لديها اتصال بالإنترنت المقطوع منذ ساعات، وربما لم يعد لديها شحن في هاتفها.
ننتظر ونتفقدها كل ربع ساعة. تظهر أخيراً، وتقول لنا إنّ الحليب لم يتخثر، وإنها "فرطته" وحوّلته إلى قريشة: "طيبة مع بندورة"، تقول مواسيةً نفسها ومخففةً الخسارة، وكلنا نعرف أنه ليست لدى أيّ منهن بندورة.
نتبادل روابط التسجيل على قوائم للمتضررين. نسجّل أسماءنا وأسماء أقاربنا ونصنف خساراتهم حسب القائمة. نتناقل الأخبار من مجموعات واتس آب ثانية، ومن مواقع التواصل الاجتماعي. نحاول التأكد من صحتها. نسأل ونسأل ونبحث عن بصيص أمل.
السويداء التي كانت محج السوريين
نبكي عندما ترسل إحدانا رابط منشور لأشخاص كنّا نظنّهم أصدقاء وشركاء درب حتى أشهر قليلة ماضية، يسبنا فيه باقي السوريين والسوريات ويخوّنوننا، ونتساءل: كيف يصدّقون عنّا كل هذه الأكاذيب؟ ألم يرقص معظمهم في ساحة كرامتنا يوم سقط النظام وكانت السويداء محجّ كل السوريين التوّاقين إلى لقاء هذه الساحة وجهاً لوجه، بعد شهور من مطالعة صورها وفيديوهاتها في هواتفهم؟ ألم يلجأ أهلهم إلينا قبل سنوات هاربين من بطش النظام السابق، لنستقبلهم في أعيننا وقلوبنا قبل أن نفتح بيوتنا؟
أصادف إعلاناً عن نشاط ترفيهي ودعم نفسي للأطفال، على حساب إحدى المبادرات المدنية في السويداء. أنسخه إلى المجموعة وأشجع الصبايا على اصطحاب الصغار إلى النشاط ليروّحوا عن أنفسهم، وينسوا خوفهم ساعةً. أتذكر أنني لم أحضّر الغداء لأولادي ولم أصطحبهم إلى الحديقة، برغم أنهم في العطلة الصيفية وبحاجة إلى التسلية والترفيه. "مين إلو نفس"، أهمس بأسف.
الأمهات اللواتي ربّين أطفالهن على الموسيقى والرسم والبرمجة، وجدن أنفسهن مضطرات لتعليمهم أسماء الأسلحة وأصوات القصف... هذه ليس مفرقعات يا ماما، أليس كذلك؟ نعم هي الحرب، تجيب الأم طفلتها، إذ كيف ستفسّر لها هرب العائلة كلها من صوت المفرقعات!
والآن أنا سهرانة! لا أستطيع النوم، أخاف أن تغمض عيني وترسل إحدى صديقاتي رسالةً تطلب فيها مساعدةً. أريد أن أكون جاهزةً لكل حاجة وكل طلب، مع أنني أعرف أنّ شبكة الإنترنت قُطعت مجدداً.
أنا اليوم حطام ساهر لا يعرف طعم النوم. أنتظر رنّة رسالة الواتس آب، وإشارةً تقول لي متى كان أحبابي متصلين آخر مرة. أضربت عن الطعام مع مغتربين آخرين أتقاسم معهم العجز والقهر والتجويع، علّ صوت الذنب يخفت في قلوبنا إذا تشاركنا مع أهلنا شيئاً من معاناتهم، في انتظار أن يتحرك العالم ويضع حدّاً للحصار.
سلاح الحصار سلاح نذل، لا يكسر الصمود فحسب، بل يكسر الكرامات ويذلّ النفوس، ويزرع بذور الشقاق بين الأهل، ومن يستخدمه ليركع مجاميع المدنيين نذل ومجرم حرب، لا يمكن لنا أن نبني بيننا وبينه أي جسور بعد اليوم، والقطيعة هي ردّنا الوحيد على محاولات إذلالنا.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.