شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

انضمّ/ ي إلى ناسك!
قاصرات صعيد مصر يخضعن للزواج القسري وسط غياب القانون وتواطؤ الأهالي

قاصرات صعيد مصر يخضعن للزواج القسري وسط غياب القانون وتواطؤ الأهالي

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

حياة

الأربعاء 28 أغسطس 201904:26 م

على أطراف قرية مركز "مغاغة" التابع لمحافظة المنيا جنوب مصر، توقفت فتاة تدعى شادية كامل (15 عاماً)، وهي تحمل طفلاً رضيعاً، ظننتُ بادئ الأمر أنه شقيقها، لكن عندما رأيتها ترضعه على الطريق، وتضع فوقه قطعةً كبيرةً من القماش لتخبّئ ثديها عن أعين المارة، أيقنت أن الطفل ابنها.

تقول شادية لرصيف 22: "الزواج عندنا سترة، أنا وأخواتي البنات وبنات عمي وجيراني تزوجنا قبل إتمام سن الخامسة عشر، وتعتبر البنت عانساً إذا وصلت لسن السابعة عشر بدون زواج، الفارق بيني وبين زوجي خمس سنوات، فالشباب هنا يتزوجون في سن مبكر أيضاً".

وعن الانتقادات التي تطال ظاهرة زواج القاصرات، تقول شادية: "مش فاهمه يعني إيه قاصر، طالما البنت بتعرف تطبخ وتخبز وبصحتها متبقاش قاصر، القانون هو اللي قاصر عشان عايز يمنع شرع ربنا".

وتضيف الفتاة: "تزوّجتُ بدون وثيقة زواج، المأذون أشهر الزواج وقال نبقى نكتب العقد بعد أربع سنوات، والزواج مش عقد بين طرفين، ده رضا وقبول، وسهل جداً التحايل على القانون، الناس هنا عارفه بعضها كويس، وكلمة الرجالة عندنا أحسن من أي عقد".

 "لم أعش طفولتي"

تعبّر شادية عن رأيٍ شائعٍ في تلك المناطق التي تعاني من سيطرة عادات وتقاليد غابرة، ولا ترى في زواج القاصرات جريمةً بحقِّ المرأة، إلا أن هناك حالات أخرى ترفض بشراسة زواج القاصرات وغالباً ما يكون ذلك بسبب تجارب شخصية.

تقطن فاتن معوض (16 عاماً)، في إحدى قرى مركز الفشن محافظة بني سويف، وقد بدت على ملامحها الشاحبة أحزان وهموم لا يمكن تجاوزها، ومع ذلك تحمل على ذراعيها طفلتين، والمصادفة أنها ولدت طفلتها الأولى "شهد" في نفس الشهر الذي ولدت فيه والدتها طفلتها الأخيرة.

عن تجربتها تقول فاتن لرصيف 22: "نضوج جسدي واكتمال أنوثتي مبكراً جعل الخُطَّاب يطرقون بابي وأنا في سن الثانية عشر، ولكن ظروف مرض والدي حال دون زواجي في هذا العمر، لأتزوّج بعدها بعام ونصف قبل أن أتم الـ14 عاماً، زوجي يكبرني بأربعة عشر عاماً، وبالتالي هناك صعوبات كبيرة في التعامل بيننا بحكم السن".

تكشف فاتن أنها كادت تفارق الحياة وهي تضع طفلتها شهد: "عانيتُ من مشاكل طبية في فترة الحمل وعملية الولادة"، وتضيف: "لم أعش طفولتي وأنا الآن على مشارف الطلاق...الجميع يعرف أن الفتاة في الصعيد مجني عليها وتدفع ضريبة العادات والأعراف، وتتحمل مسؤولياتٍ اجتماعيةٍ وأعباءَ نفسيةٍ وجسدية تفوق عمرها".

ومن تجربة فاتن ننتقل إلى قصة إبراهيم الوكيل، وهو مدرّس أربعيني يعيش في منطقةٍ فقيرةٍ معدومة الخدمات بمحافظة المنيا، كان قد زوَّج ابنته الوحيدة في سن الثانية عشر من عمرها.

وعن إقدامه على هذه الخطوة، يقول الوكيل الذي تطغى على وجهه علامات الشيب المبكر: "كنت دائماً أقول أن البنت مسيرها لبيت زوجها والزواج سترة، خفت عليها من الحياة وكنت فاكر نفسي بحميها، بس في الحقيقة وقعت في خطأ دفعتْ ثمنه بنتي المسكينة، التي باتت تحمل لقب مطلقة قبل أن تتم عامها الخامس عشر"، ويضيف لرصيف22: "صدّقني إحنا صعايدة بنخاف على بناتنا من الوقوع في الخطيئة، لذلك زوّجتها مبكراً حتى نتفادى المشاكل التي تجلبها علينا تربية البنات، خاصة في عصر الإنترنت لكني نادم على الخطوة دي، وللأسف مفيش حاجة هترجع زي ما كانت...بنتي اتدمرت نفسياً".

لا تزال مجتمعاتنا العربية وبعض البلدان الإفريقية النامية تغرق في مستنقع دفن الفتيات في مقبرة الزواج المبكر، وتعريضهنّ لإنتهاكاتٍ نفسيةٍ وصحيةٍ واجتماعيةٍ لا حصر لها، ففي مصر وصلت حالات زواج القاصرات في آخر إحصائيةٍ للمركز القومي للتعبئة والإحصاء، لـ 127 ألف حالة زواج عام 2018، في الوقت الذي كانت فيه النسبة في العام السابق 218 ألف حالة.

وكشف تقرير صادر عن هيئة الأمم المتحدة مطلع هذا العام، أن أكثر من 14 مليون فتاة قاصر يتم تزويجها سنوياً في مختلف أنحاء العالم، وتحتلّ الهند المرتبة الأولى عالمياً، حيث تصل نسبة زواج القاصرات فيها إلى 58%، من حالات الزواج عموماً، فيما تتصدّر النيجر المرتبة الأولى أفريقياً، أما في مصر فمن بين كل 7 زيجات تقع فتاة قاصر ضحية العادات والتقاليد والفقر والجهل، وتقضي ما تبقى من طفولتها على فراش الزوجية.

لا تزال مجتمعاتنا العربية وبعض البلدان الإفريقية النامية تغرق في مستنقع دفن الفتيات في مقبرة الزواج المبكر، وتعريضهنّ لإنتهاكاتٍ نفسيةٍ وصحيةٍ واجتماعيةٍ لا حصر لها

في صعيد مصر، تنتصر العادات على القانون والجهل على العلم، والمرأة تدفع الثمن الأكبر، فالفتاة غير قادرةٍ على تحديد مصيرها واختيار شريك حياتها، لكونها رهن إشارة والدها والذي يقرر تزويجها في سن مبكر، تحت شعارات رنانة مثل "العفة" و"السُترة"

وحسب التعداد السكاني لجمهورية مصر العربية الذي صدر في العام 2017، فإن عدد المواطنين المتزوجين تحت سن البلوغ (18 عاماً) هم 18.3مليون نسمة، وتمثل حالات زواج القاصرات 14% من حالات الزواج بشكلٍ عام، ويحتلّ صعيد مصر المرتبة الأولى بين محافظات مصر، حيث تصل نسبة زواج القاصرات في بعض محافظات الوجه القبلي إلى 40% من الزيجات.

وفي ظل تمادي البعض، خاصة في مناطق الصعيد والريف البعيد عن العمران والمدنية، في إجبار الفتيات على الزواج قبل بلوغ هذا السن، وضرب القانون بعرض الحائط، حاولت الحكومة المصرية مواجهة ظاهرة زواج القاصرات عن طريق مشروع قانون ينصُّ على أنه "يعاقب بالحبس مدّة لا تقل عن سنة كل من زوّج أو شارك في زواج طفل أو طفلة لم يبلغا الثامنة عشر من عمره وقت الزواج، ويعاقب بذات العقوبة كل شخص حرّر عقد زواج وهو يعلم أن أحد طرفيه لم يبلغ السن المحددة في القانون، ولا تسقط الجريمة بالتقادم".

كما نصّت المادة الثانية على أن يلتزم المأذون بإخطار النيابة العامة الواقع في دائرتها مقرّ عمله عن واقعة الزواج الذي أحد طرفيه طفل، والتي يقوم بالتصديق عليها مرفِقاً بالإخطار صورة عقد الزواج العرفي وبيانات أطرافه وشهوده.

فيما تناولت المادة الثالثة عقوبة على كل مأذون لم يخطر النيابة العامة بواقعة التصادق على الزواج العرفي لطفل بالحبس لمدة لا تقل عن سنة والعزل.

زيجات قاصرات تتم عن طريق مأذون

يفرّق بعض رجال الدين بين ظاهرة الزواج المبكر وزواج القاصرات، ففي الوقت الذي يحثُّ فيه الشرع على ضرورة الزواج المبكّر عملاً بحديث النبي محمد: "يَا مَعْشَرَ الشَّبَابِ، مَنِ اسْتَطَاعَ مِنْكُمُ الْبَاءَةَ فَلْيَتَزَوَّجْ"، فقد نهى علماء الدين عن زواج القاصرات لما يحمله من أعباءٍ نفسيةٍ وجسديةٍ على الفتيات، كما حرص الأزهر الشريف على نشر رسائل توعية في خُطب الجمعة تتمحور حول ضرورة عدم الخلط بين مفهومي الزواج المبكر وتزويج القصر من الشباب والبنات.

وبالرغم من كل ذلك إلا أن العديد من زيجات القاصرات تتم عن طريق المأذون.

ياسر فتحي (اسم مستعار) هو مأذون شرعي لإحدى مدن محافظة بني سويف، لا يمانع من تزويج القاصرات، ويقول لرصيف22: "صحيح أنه هناك نص شرعي وقانوني يمنع المأذون من عقد قران الفتيات القصر، لكن امتناعي كمأذونٍ شرعي عن القيام بعقد القران يُجبر الأهالي على اللجوء إلى بعض المحامين لإتمام الزواج"، ويضيف:" الزواج في القرى والأرياف يكون بالإشهار، والعقود هي آخر ما يتحدث فيه أهل العروسين، لذلك أقوم بإشهار بعض حالات زواج القاصرات، لأن أكثر من نصف الزيجات هنّ بنات قُصَّر، وأنا عايز آكل عيش، ولو أنا قلت لأ كتير غيري هيقولوا آه".

أضرار ومخاطر

يرى علماء الاجتماع أن زواج القاصرات في بعض قرى مصر، يتم بدءاً من سنّ التاسعة وحتى الخامسة عشر بالنسبة للفتيات، مع ما يتركه ذلك من أضرار، وهو ما تؤكّده الدكتورة هالة منصور، أستاذة علم الاجتماع في إحدى الجامعات المصرية، فتقول لرصيف 22: "إن زواج القاصرات يترتب عليه مجموعة من الأضرار، من بينها تعريض حياة الأم القاصر والجنين للخطر، عدم القدرة على تنظيم حياة أسرية سليمة وزيادة النسل نتيجة طول فترة الإنجاب، هذا بالإضافة إلى الأضرار النفسية الملقاة على كاهل الطرفين وارتفاع نسب الطلاق".

وبدوره يرى دكتور نبيل السمالوطي، أستاذ علم الاجتماع في جامعة الأزهر، أن زواج البنت في سن مبكر لا يمكن تبريره بحسب ظروف المجتمع ورغبة الوالدين في الستر وتحديات الفقر ومصاعب الحياة، معتبراً أن "زواج القاصرات هو انحرافٌ متكاملٌ عن قيم المجتمع وتشريعات الدستور ونص القانون وأخلاقيات الزواج نفسها التي يجب أن تراعي الظروف الصحية للبنت، ولا تلقي بها للتهلكة"، على حدّ قوله.

وفي حديثه لرصيف22، يشير السمالوطي إلى أن زواج الفتيات بدون عقدٍ موثقٍ هو أشبه بالزواج العرفي، مضيفاً: "يتم التعامل مع الفتاة على أساس أنها سلعة تجارية، بحيث يضمن فيها كل طرف حقه الشرعي والقانوني بإيصالات أمانة دون احترام لآدمية الزوجين"، موضحاً أن المشكلة الأخطر في هذا الزواج هو أنه يصعب توثيق نسب الأطفال لوالدهم في حالات الطلاق المبكر، حيث لا توجد وثائق يعترف بها القانون من شأنها أن تحمي الأطفال وتمنح الزواج المبكر شرعيته.

من جهته يحذر الدكتور وائل فتحي، طبيب النساء والتوليد في مستشفى الفشن، جنوب محافظة بني سويف، من تزايد ظاهرة زواج القاصرات، مشيراً إلى أن دَوْر وزارة الصحة يأتي بعد وقوع الزواج، لكونها تضطلع بمسؤولية رعاية الأم القاصر وجنينها.

يكشف فتحي لرصيف22، أنه من بين المشاكل الصحية التي تتعرّض لها الفتاة القاصر في مرحلة الإنجاب هو تعرّضها لنزيفٍ حادّ، يعرّض 40% من الحالات لخطر الموت في غرفة الولادة، بالإضافة الى معاناة الأم من أنيميا حادة خلال فترة الرضاعة.

هذا ويوضح أن وزارة الصحة لا تمنح القاصر خطاب إثبات مولود، حيث لا يمكن لمكاتب توثيق شهادات الميلاد، إثبات مولود في سجلّاتها إذا لم يبلغ الأم والأب سن الثامنة عشر، لكن الوزارة بدورها تمنح الوالدين خطاب رعاية، لحصول المولود على التطعيمات اللازمة.

يبدو أن صعيد مصر كان وما زال البقعة المنسية في الاهتمام بالبنية التحتية والرعاية الصحية والتعليم والتوعية، وتنتصر العادات على القانون والجهل على العلم، والمرأة تدفع الثمن الأكبر، فالفتاة غير قادرةٍ على تحديد مصيرها واختيار شريك حياتها، لكونها رهن إشارة والدها والذي يقرر تزويجها في سن مبكر، تحت شعارات رنانة مثل "العفة" و"السُترة".


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard
Popup Image