بصورة محدودة، تمنح بعض التفاسير القرآنية تقديراً مثالياً للمرأة، وقد يختفي وسط شيوع ثقافة ذكورية بين أغلب مفسري القرآن الكريم. ولا ترتبط مرونة التفسيرات المنصفة للمرأة بعصر من العصور بقدر ما ترتبط بالانتماء الثقافي والفكري للمفسر ذاته، أي أنه يمتلك فكراً راقياً حيال المرأة، ينعكس على تفسيره، وهو ما نلاحظه عند علي بن حزم الأندلسي، والشيخ محمد عبده، والشيخ الطاهر بن عاشور، والشيخ محمود شلتوت.
هذه التفسيرات المرنة تغيب وسط نتاج غالبية المفسرين الذين يقعون تحت هيمنة ثقافة ذكورية، مثل الفخر الرازي في بعض آرائه، أو الانتماء لدوائر الجماعات المتشددة التي لا ترى في المرأة إلا مكاناً لتصريف الشهوة، واحتجازها في بيت الزوجية مثل سيد قطب في تفسير "الظلال".
أما التفاسير الجريئة فقد رأت في المرأة ذاتاً تستحق التقدير، وأن آيات القرآن الكريم منحتها تقديراً عظيماً تجاهله البعض ولم يلتفت إليه، لدرجة أن النص جعلها واحدةً من الآيات والعلامات الدالة على وجود الله، التي تباهى بها الخالق، وجعلها اكتمالاً للرجل كما أنه هو اكتمال لها، وأعطاها الحق في ولاية القضاء والفصل في المسائل القضائية، تماماً كما الرجل، لا تقل عنه إطلاقاً.
النفس الواحدة والمساواة
فكرة النفس الواحدة التي تحدث عنها القرآن ألهمت بعض المفسرين للتأكيد على المساواة بين الرجل والمرأة، ودور كل منهما في كمال الآخر؛ في تفسير الآية "يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا" (النساء:1) عدَّ شيخ الأزهر السابق محمد سيد طنطاوي (1928-2009) أن "من أبرز مظاهر تكريم القرآن للمرأة، ووجوه المساواة بينها وبين الرجل تقرير أنَّ المرأة والرجل من أصل واحد"، وفقاً لكتابه مع آخرين "المرأة في الإسلام".
لا ترتبط مرونة التفسيرات المنصفة للمرأة بعصر من العصور بقدر ما ترتبط بالانتماء الثقافي والفكري للمفسر ذاته، أي أنه يمتلك فكراً راقياً حيال المرأة، ينعكس على تفسيره
المرأة اكتمال لنقص الرجل؛ هكذا رأى المفسر الشيعي محمد حسين الطباطبائي (1904-1981) في كتابه "الميزان في تفسير القرآن"، فذكر: "كل واحد منهما (الرجل والمرأة) ناقص في نفسه مفتقر إلى الآخر، ويحصل من المجموع واحد تام، له أن يلد وينسل، ولهذا النقص والافتقار يتحرك الواحد منهما إلى الآخر، حتى إذا اتصل به سكن إليه، لأن كل ناقص مشتاق إلى كماله، وكل مفتقر مائل إلى ما يزيل فقره، وهذا هو الشبق المودع في كل من هذين القرينين".
أما في قوله "وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا" (الروم:21) وقوله "وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ" (لقمان:34)، دلالة على الإعجاب بخلق الأنثى، جعلها آية من آياته، وبالرغم من ذلك جعل الفخر الرازي من آية سورة الروم "دليل على أن النساء خلقن كخلق الدواب والنبات وغير ذلك من المنافع"، وفقاً لتفسيره "مفاتيح الغيب".
هذا التفسير تجاهل سياق الآيات التي جعلت الأنثى "سراً من أسراره، ولم يذكر أحد أن السياق القرآني جعلها من بين آياته على توحيد ذاته المقدسة وبين آياته السماوية منها والأرضية، إذ عجِب بالسماء وبأعمدتها غير المرئية وبالقطع المتجاورة وباختلافها، وذلك يتضمن العجب بالأنثى وما تسر في حملها الذي لا يعلمه إلا الله سبحانه وتعالى"، وفقاً لما جاء في دراسة بعنوان "الذكر والأنثى بين السياق القرآني والنص التفسيري: الرازي مثالاً: دراسة تحليلية نقدية" للباحثتين ابتسام عبدالكريم المدني، وحميدة إسماعيل كريم.
عبارات لا تليق بالمرأة
معترضاً على حديث الفقهاء في تعريف الصداق (المهر)، رأى كل من الشيخ محمود شلتوت (1893-1963) والشيخ محمد عبده (1849- 1905) أن العلاقة بين الرجل والمرأة علاقة سامية، ومن عدم اللياقة أن يوصف المهر بأنه مال مقابل استحلال فرج المرأة والاستمتاع بها، وهي طريقة الفقهاء في تعريف المهر.
وفي تفسير قوله: "وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً" (النساء:4) نبَّه عبده بأنه "ينبغي أن يلاحظ في هذا العطاء معنى أعلى من المعنى الذي لاحظه الذين يسمون أنفسهم الفقهاء، من أن الصداق والمهر بمعنى العوض عن البضع والثمن له، كلا إن الصلة بين الزوجين أعلى وأشرف من الصلة بين الرجل وفرسه أو جاريته"، وفقاً لما جاء في تفسيره للقرآن المنشور ضمن "الأعمال الكاملة للشيخ محمد عبده".
هذا التنبيه الذي أشار إليه محمد عبده رفض به تعريفات الفقهاء للمهر، وعدَّه ابتذالاً في تصوير العلاقة بين الرجل والمرأة، واعترض عليه الشيخ محمود شلتوت فذكر أن المهر ليس "ثمناً ولا عوضاً عن شيء يملكه الرجل في المرأة، كما يظن كثير من الناس، وإنما هو آية من آيات المحبة والتقدير"، وفقاً لما ورد في كتابه "تفسير القرآن لكريم".
واعتراض الشيخين عبده وشلتوت يشبه حديثاً اعتراض وزير العدل المغربي عبداللطيف وهبي على بعض الألفاظ التي تسربت من لغة الفقهاء إلى مدونة الأسرة القانونية، إذ طالب بتغييرها ضارباً المثل بكلمة "المتعة" كونها لا تليق بالمرأة.
تعدد الزوجات
خلافاً للمفسرين الذين رأوا أن مركزية قوله "فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُم مِّنَ النِّسَاءِ مَثْنَىٰ وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ" (النساء:3) هو إباحة التعدد مع الالتزام بالعدل، رأى محمد عبده أن مركز الآية هو الحض على تجنب أكل مال اليتيمة.
وبحسب "عبده" فإن نص الآية "قال إن أحسستم من أنفسكم الخوفَ من أكل مال الزوجة اليتيمة فعليكم أن لا تتزوجوا بها، فإن الله تعالى جعل لكم مندوحة عن اليتامى بما أباحه لكم من التزوج بغيرهن إلى أربع نسوة"، وفقاً لتفسيره المشار إليه سابقاً.
كل واحد منهما (الرجل والمرأة) ناقص في نفسه مفتقر إلى الآخر، هكذا رأى المفسر الشيعي محمد حسين الطباطبائي في كتابه "الميزان في تفسير القرآن".
والمدهش في تفسيره أنه لم يتلتف إلى إباحة التعدد بوصفه الركيزة الأساسية في الآية، إنما رأى أن جوهرها هو توجيه الشرع بالابتعاد عن أكل مال اليتيمة، ورأى أن الآية وما بعدها يفيد بأن "إباحة تعدد الزوجات في الإسلام أمر مضيق فيه أشد التضييق" وفقاً لما جاء في تفسيره للقرآن.
وركز مشروع الشيخ محمد عبده الإصلاحي على الوقوف ضد تعدد الزوجات، وفي تفسيره حذَّر منه فذكر: "ولو شئت تفصيل الرزايا والمصائب المتولدة من تعدد الزوجات لأتيت بما تقشعر منه جلود المؤمنين فمنها السرقة والزنا والكذب والخيانة والجبن والتزوير، بل منها القتل".
برؤية واقعية واجتماعية إصلاحية، طلب الشيخ عبده في تفسيره من فقهاء الحنفية (كان يؤخذ بفقههم في أمور الزواج والأسرة آنذاك) أن يضعوا شروطاً للزواج، وأن يضيقوا إباحة التعدد لأسباب ضرورية وصفها بـ"الرزايا والمصائب".
ميراث الأبناء
تمهيداً لإنهاء ظلم المرأة، رأى الشيخ محمد عبده أن التركيب اللغوي في قوله: "يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنثَيَيْنِ" (النساء:11) جاء "للإشعار بإبطال ما كانت عليه الجاهلية من منع توريث النساء كما تقدم، فكأنه جعل إرث الأنثى مقرراً معروفاً وأخبر بأن للذكر مثله مرتين، أو جعله هو الأصل في التشريع وجعل إرث الذكر محمولًا عليه". وفي رؤيته يتضح الفارق بين تفسير انفعالي غاضب يؤكد على بقاء نصيب الذكر ضعف الأنثى وتفسير يرى أن الصياغة اللغوية تفيد تحديد إرث المرأة بوصفه الأصل والمعيار، وحمل إرث الذكر عليه ليمنع المماطلة والتلاعب به، ولإقرار واقع بديل يعترف بحق المرأة في الميراث، ويقرر المعايرة بنصيب الأنثى ترسيخاً له.
مؤكداً لهذا المعنى، رأى الطاهر بن عاشور أن فكرة المعيار بنصيب الأنثى مقصودة في النص، ووفقاً لتفسيره "التحرير والتنوير" فإن التعبير القرآني في الآية غرضه أن "حظّ الأنثى صار في اعتبار الشرع أهَمّ من حظّ الذكر، إذ كانت مهضومة الجانب عند أهل الجاهلية فصار الإسلام ينادي بحظّها في أول ما يقرع الأسماع" .
الرؤية الأجرأ للآية عندما اعتبرها البعض تحديداً للحد الأدنى لنصيب الأنثى، يحرم النزول عنه ولا تحرم الزيادة فيه، أي أن نصيب الأخت لا يقل عن نصف نصيب أخيها، لكنه لو زاد وتعادل معه فلا ضرر، وإلى هذا المعنى ذكر المفكر السوري محمد شحرور (1938-2019) في كتابه "الكتاب والقرآن: قراءة معاصرة" أن القرآن "أعطى للأنثى نصف حصة الذكر حداً أدنى، وهذا الحد الأدنى في حالة عدم مشاركة المرأة في المسؤولية المالية للأسرة، وفي حال المشاركة تنخفض الهوة بين الذكر والأنثى حسب نسبة المشاركة وما تفرضه الظروف التاريخية".
وهكذا، فإنه على الرغم من اتجاه بعض التفسيرات لاعتبار الآية نصاً واضحاً في تحديد ميراث الأبناء ولا يقبل الاجتهاد، فإن البعض جعل من ترسيخ حق المرأة هدفاً جوهرياً للآية، وجعلها البعض حداً أدنى لا يجب النزول عنه.
ولاية المناصب العامة
بالرغم من أن جهود ابن حزم الأندلسي (ت. 456ه) كانت منشغلة بالفقه والكتابات التاريخية والأدبية، فإنه منح المرأة بعض حقوقها من خلال إقراره بحقها في تولى منصب القضاء، وأن صوتها ليس عورة، وذلك من خلال رؤيته التفسيرية.
التفاسير الجريئة قد رأت في المرأة ذاتاً تستحق التقدير، وأن آيات القرآن الكريم منحتها تقديراً عظيماً تجاهله البعض ولم يلتفت إليه، لدرجة أن النص جعلها واحدة من الآيات والعلامات الدالة على وجود الله، التي تباهى بها الخالق
ويبدو أن إنصاف ابن حزم للمرأة في بعض المسائل كان نابعاً من تأثره المباشر بتربيته، فقد اعترف ابن حزم بفضل النساء في تعليمه وتنشئته، وهذا الاعتراف في ذاته اعتزاز بالمرأة، إذ يُحب الرجل عادة أن يعتز بتنشئة أبيه أو الرجال من عائلته، ووفقاً لكتابه "طوق الحمامة في الأُلفَةِ والأُلَّاف" ذكر: "لقد شاهدتُ النساء وعلمتُ من أسرارهن ما لا يكاد يعلمه غيري، لأني رُبيت في حجورهن، ونشأت بين أيديهن، ولم أعرف غيرَهن، ولا جالستُ الرجال إلا وأنا في حدِّ الشباب وحين تفيَّل وجهي، وهن علَّمنني القرآن، وروَّينني كثيراً من الأشعار، ودرَّبنني في الخط".
هذا الاعتراف بدور النساء في حياته، وأنهن علمنه القرآن ورواية الشعر، يكشف عن قدرة ابن حزم لفهم حقيقة المرأة ويبرر اتجاهه لإنصاف المرأة لما لهن من فضل عليه.
رصد ابن حزم في رسالته "نقط العروس في تواريخ الخلفاء" المناصب العامة التي شغلتها المرأة، فذكر أنها تولت إدارة السوق ومنصب القضاء، وهي مناصب رفيعة للغاية، فإدارة السوق اعتراف مجتمعي وسياسي بقدراتها الاقتصادية، وولاية القضاء إقرار بحكمتها وقدرتها على تحقيق العدالة بين الخصوم والمتنازعين.
عدَّ ابن حزم قوله "وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ"(النساء:58) توجيهاً عاماً للمرأة والرجل،و ليس مقصوراً على الرجل، ولذا "يجوز للمرأة تولي القضاء في الحقوق كلها، سواءً أكانت حقوقاً لله أم خالصة للعباد أم مشتركة، وهذا قول ابن حزم وابن جرير الطبري. ووجه هذا القول قوله تعالى: 'إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُوا بِالعَدْلِ'. قال ابن حزم: وهذا متوجه بعمومه إلى الرجل والمرأة والحر والعبد، والدين كله واحد إلا حيث جاء النص بالفرق بين المرأة والرجل وبين الحر والعبد فيستثنى حينئذ من عموم إجمال الدين"، وفقاً لما ذكره محمد حسن أبو يحيي في كتابه "حقوق المرأة في الإسلام والقانون الدولي".
وأمام رواج مقولة "صوت المرأة عورة" لم يجد ابن حزم غضاضةً في أدائها لبعض الشعائر التي تعتمد على الصوت وتنغيمه، فقد "سمح ابن حزم للمرأة أن ترفع الآذان" بحسب محمد المنصوري في كتابه "الحقوق السياسية للمرأة في الشريعة الإسلامية والقانون الدولي".
وخلافاً للمدونات التفسيرية التي احتالت على حق المرأة، فإن بعض المفسرين نجحوا في طرح اجتهادات بديلة تتسم بالمرونة والإنصاف.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.