نحلم كنساء أحياناً بأن نكبر سريعاً، ونصبح عاملات وزوجات وأمهات (هكذا أثرّ علينا الموروث الاجتماعي). أذكر عندما كنت طفلة كيف انتعلت حذاء أمي أكثر من مرة، كنت أحلم باليوم الذي تتمدد فيه قدماي لأصبح "صبية" وأنتعل حذاء يدل على أنوثتي. وبعد أن أصبحت فتاة ملأى بالأنوثة، رأيت أقدام فتيات تنتعل أحذية توحي بأنوثة مفرطة لكنّ القدم صغيرة لا تتسع لملء المكان، التخلّف وضع لها "ضباناً" في الخلف، والجهل حشا الحذاء بالمناديل الورقية ليظن الجميع أنه مناسب، هذا يبدو واضحاً عندما ترى فتاة ترتدي فستاناً أبيض وهو كبير عليها، كبير بالمقياسين الحقيقي والمعنوي.
يزج الأطفال في أوطاننا بالمكان غير المناسب غالبًا، تأكل الحروب من طفولتهم، وتقضم الصراعات من أحلامهم. المجتمعات اليوم تسلّم بهذه الحقيقة لأنها فوق قدرتها على إيقافها. أما زواج الطفلات/ القاصرات فهو الوهم الذي يراد لنا أن نقتنع أنه الأمر الطبيعي، والحجج كثيرة، الدين أبرزها. الزواج المبكر يحطم وجود الطفلات/ القاصرات حتى وإن رأيناهن على قيد شيء يشبه الحياة، وهو واحد من أهم الأسباب التي تعلن موت الطفولة سريرياً. أقسى من الحرب وأوسع من الدمار. هي الحالة التي بدأت مع الجاهلية وما زالت تستبيح منازلنا. على مرأى من العالم أجمع نرى طفلةً لا تعرف النوم إلا في احضان أُمها، فتنام فجأة في أحضان غريب يسمى زوجها، يغتصبها باسم "الدين والتقاليد".
بحسب تقرير لـ "اليونيسيف" في العام 2016، تم تزويج 6٪ من النساء اللبنانيات اللواتي تراوح أعمارهن بين 20 و24 قبل بلوغهن سن 18. ويبدو واضحاً أن زواج القاصرات في ارتفاع بين أوساط اللاجئين السوريين الذين يفوق عددهم المليون في البلاد، حيث أوضحت دراسة في العام 2017 أن 24٪ من الفتيات اللاجئات اللواتي تراوح أعمارهن بين 15 و17 سنة متزوجات. منظمة "هيومن رايتس ووتش دعت " البرلمان اللبناني مراراً إلى الإسراع في تمرير قانون يضع حداً لزواج الطفلات. ولا من مجيب!
يعتبر كثيرون أن مسؤولية زواج القاصرات مجزأة وحمّالة أوجه، لهذا يخفف الحمل عن ظهور من تقع المسؤولية عليهم. في النصوص الدينية الإسلامية والمسيحية لم يوضع قانون شرعي يوضح عمر الفتاة المقبلة على الزواج، وهذا ما فتح الباب أمام الاجتهادات الشخصية التي تزج بالفتاة غالباً في عوالم مجهولة تظلم فيها وتضرب بحجة الأعراف والعادات والتقاليد، إذ هناك دائماً ًمن يعرف مصلحتها أكثر منها! الديانات نادت بولاية الأب على أولاده، وهذه الولاية هي صيغة تنظيميّة طبيعية، أقرّها التشريع لحماية القاصرات، وهي مسؤوليّة دقيقة لا يُسمح فيها للولي أن يستغلّها لمصالحه الشخصيّة أو الهوائية، لكن هذا ما لا يحقق غالباً.
البنية العقلية للأهالي ودوافعهم وثقافتهم رُتب ودرجات. ليسوا جميعاً على قدر من الوعي والبصيرة، عدا أن الكثير منهم لم تبارح الجاهلية عقله، ويعتبر أن الفتاة حملًا ثقيلًا ما إن يتكور ثدياها ويبدآن بالظهور حتى يُفتح الباب لأي زائر يريد أن يُفرغ سلطته وعقده في طفلة لا تفقه من علم الرجال شيئاً.
الفتاة القاصر صغيرة على إدراك الأمور. ويتم في حال قرر الأهل تزويجها حشو رأسها بالترهات والأوهام، فتلعب الأم على الوتر الأنثوي وتبدأ بإيهامها أن الزواج جميل والألعاب في البيت الزوجي أكثر إثارة. تشرح لها جمال الفستان الأبيض وجمالية المحبس الذهبي الملّمع، وتخبرها كيف أن بنات عمها وخالتها سيمتن من القهر والغيرة! والأب يشرع بالعزف على وترها العاطفي، ويبدأ بسرد الحكاية التي تقول إنه راحل ولن يدوم لها طويلاً ثم لا مال لديه لتعيش في منزله عيشة كريمة. فيخيفها من فكرة البقاء بدون سند أو معيل... هكذا ينجح في "تجميل" الفكرة لابنته، ويزرع في رأسها أفكاراً تترنح بين الخوف واللا استقرار والعجز عن مواجهة الحياة وحيدة، فتستسيغ الزواج وكأنها مقبلة على مغامرة وتسلّم للقادم المبهم، وهذا أخطر ما يحدث في قلوب الفتيات وعقولهن.
الزواج المبكر يحطم وجود الطفلات/ القاصرات حتى وإن رأيناهن على قيد شيء يشبه الحياة، وهو واحد من أهم الأسباب التي تعلن موت الطفولة سريرياً.
زواج الطفلات/ القاصرات فهو الوهم الذي يراد لنا أن نقتنع أنه الأمر الطبيعي، والحجج كثيرة، الدين أبرزها.
يعتبر كثيرون أن مسؤولية زواج القاصرات مجزأة وحمّالة أوجه، لهذا يخفف الحمل عن ظهور من تقع المسؤولية عليهم. في النصوص الدينية الإسلامية والمسيحية لم يوضع قانون شرعي يوضح عمر الفتاة المقبلة على الزواج، وهذا ما فتح الباب أمام الاجتهادات الشخصية.
على هذا العالم الذي يلهث وراء التطور كل يوم أن يصرخ بوجه الاغتصاب "القانوني" والبيع المهين للنساء، يكفيهن إجحاف بعض الأنظمة بحقهن، والتسلّط الذكوري الذي يتنامى مع تراجع القوانين الحامية.
علامات الاستفهام الكبيرة تدور حول الشباب الذي يتلطى خلف الدين للزواج من الصغيرات! ماذا ستشعر إن لمست يديها؟ هل تأتي لها بالشوكولا لكي تحبك؟ هل ما زلت مقتنعاً فعلاً أنك ستربيها على يديك؟ وأن فمها النظيف لم يلمسه غير فم أمها، ولن يشوهه غيرك؟ كيف تطاوع هؤلاء "الرجال" قلوبهم على تلطيخ حياة طفلة وممارسة كل أنواع الحيل عليها؟ هل يأتي الحب غصباَ؟ وهل تستسيغ أكل الفاكهة قبل أن تنضج؟ "الكثير من الزيجات المبكرة تنجح" هكذا يقول بعض من يؤمن أن النصيب حينما يدق الباب يجب أن لا نغلق في وجهه. لكن هذه النظرية مبتورة ومشوهة. فمن يريد لطفلته أن تغتصب باسم "السترة" هو مجرم يفتح لها أبواب الموت.
على هذا العالم الذي يلهث وراء التطور كل يوم أن يصرخ بوجه الاغتصاب "القانوني" والبيع المهين للنساء، يكفيهن إجحاف بعض الأنظمة بحقهن، والتسلّط الذكوري الذي يتنامى مع تراجع القوانين الحامية. قصص كثيرة نسمعها كل يوم عن فتيات هربن من بيوت "أزواجهن"، أو قتلن بحجة العرض والشرف. الفتاة وحدها مخولة باتخاذ قرار زواجها من عدمه، وإن رأيتموها صغيرة على اتخاذ هذا القرار، انتظروها لتكبر.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...