10 آلاف متر مكعب يومياً من المياه المحلاة، من مصر، لـ600 ألف غزّي في جنوب قطاع غزّة؛ مشروع إماراتي بضوء أخضر إسرائيلي، تم الإعلان عنه، منتصف شهر تموز/ يوليو الماضي، في ظلّ تصاعد حرب الإبادة الإسرائيلية المستمرّة منذ 7 تشرين الأول/ أكتوبر 2023، لمعالجة أزمة المياه الحادّة في القطاع، وسط تساؤلات من بينها: هل يحقق هدفه المعلَن؟ وهل له أهداف أخرى تتجاوز البعدين الإنساني والإغاثي، إلى أبعاد سياسية وديمغرافية؟
فالمشروع أُعلن عنه بعد أسابيع من إعلان تل أبيب تخطيطها لتركيز نحو مليونَي فلسطيني في ثلاث نقاط مركزية، في مدينة غزة ومخيمات وسط القطاع، ومنطقة المواصي الساحلية الممتدة من وسط القطاع إلى جنوبه، وهو ما أثار تساؤلات عدة حول أهدافه وطبيعته وموقف مختلف الأطراف منه.
في نهاية شهر تموز/ يوليو الماضي، أعلنت إسرائيل عن انطلاق مشروع مدّ أنبوب مياه من محطة تحلية مصرية إلى منطقة "المواصي" بمبادرة وتمويل إماراتيين، ومن المتوقع أن يزوّد ما يقارب 600 ألف نسمة بالمياه، دون الاعتماد على الأنابيب القادمة من إسرائيل، وتحت إشراف أمني مشدد.
وفي حين لم يصدر تعقيب رسمي من السلطات المصرية بشأن المشروع الإماراتي حتى السابع من آب/ أغسطس الجاري، استضافت وسائل إعلام مصرية مسؤولين إماراتيين تحدثوا عن "الدور الإنساني" للإمارات في غزة، ومن ضمنه خط تحلية المياه.
يقول المحلل السياسي الفلسطيني عبد المهدي مطاوع، لرصيف22، إنّ جميع المشاريع الإغاثية يجب أن تُدعم في ظل الأزمة الإنسانية المتفاقمة في غزة، مع ضرورة عدم تجاهل المخاوف حول أهدافها، معتبراً أن التنسيق الفلسطيني المصري كفيل بضمان عدم استغلال المشروع الإماراتي لأغراض إسرائيلية
ماذا نعرف عن المشروع؟
منتصف تموز/ يوليو الماضي، كشفت الإمارات عن "أحد أهم المشاريع الإغاثية في غزة في ظلّ أزمة المياه". وبحسب مؤتمر صحافي عُقد في دير البلح آنذاك، أعلنت "عملية الفارس الشهم 3" الإماراتية، عن البدء بتنفيذ خطّ مياه ناقل بطول يقترب من 7 كيلومترات.
ويربط الخطّ بين محطة تحلية أنشأتها الإمارات في كانون الأول/ ديسمبر 2023، في الجانب المصري على بُعد نحو 500 متر من الحدود الفلسطينية، لخدمة مليون و400 ألف مواطن في غزة، قبل أن تتوقف عن العمل في أيار/ مايو 2024، بسبب العمليات العسكرية الإسرائيلية في رفح.
ويستهدف المشروع الإماراتي -حسب المؤتمر- إعادة تشغيل المحطة من جديد بعد ربطها بخط المياه المزمع تدشينه، والذي سيمرّ من الحدود المصرية إلى منتصف خان يونس على الشريط الساحلي، حيث يوجد أكبر تجمّع للنازحين في رفح وخان يونس.
وتُقدَّر كمية المياه التي سينقلها الخط -وفق المؤتمر- بنحو 10 آلاف متر مكعب يومياً لـ600 ألف نسمة، حيث تستهدف أن يتخطى نصيب الفرد الواحد 20 لتراً يومياً، بحسب المعايير الدولية في وقت الطوارئ.
ولم يوضح المتحدثون في المؤتمر مراحل وتوقيت تشغيل خط المياه الجديد أو تكلفته التقريبية، بينما أكدوا أنّ التشغيل سيكون قريباً، على أن تتحمل كلفة تشغيله دولة الإمارات.
يشار إلى أنّ سلطة المياه الفلسطينية، كشفت في بيان في أيار/ مايو الماضي، عن تعرّض 85% من منشآت المياه والصرف الصحي في القطاع لأضرار جسيمة، كما انخفضت كميات استخراج المياه بنسبة 70-80%، خلافاً لانخفاض معدل استهلاك الفرد من المياه إلى ما بين 3 و5 لترات يومياً.
مخاوف فلسطينية
يقول المحلل السياسي الفلسطيني، الدكتور عبد المهدي مطاوع، إنّ المشروع الإماراتي يمثل استجابةً ضروريةً لأزمة المياه المتفاقمة في القطاع، خاصةً في ظل تراجع قدرة محطات التحلية المحلية.
وفي تصريحات لرصيف22، يوضح مطاوع أنّ المشروع يُعدّ حيوياً ومهماً ضمن جهود التخفيف من الأزمة الإنسانية، حيث لم تتبقَّ سوى محطة واحدة للمياه في غزة، لا تعمل بكفاءة كافية لتلبية احتياجات السكان المتزايدة، كما يؤدي تلوّث المياه إلى مشكلات يومية على المستوى الصحي، ولا سيّما بين الأطفال.
ويرجح المحلل الفلسطيني تنفيذ المشروع على مراحل، تبدأ بوصول الأنبوب إلى جنوب القطاع، ثم يمتد إلى المناطق الوسطى، ليُدمج في نهاية المطاف مع شبكة المياه الأساسية في غزة، ليصل إلى معظم مناطق غزة.
ويعتقد مطاوع أن الاعتماد على الأنبوب المصري أسرع وأكثر فاعليةً من خيار تحلية مياه البحر داخل غزة، موضحاً أنّ هذا الأنبوب يتمتع بميزة الأمان كونه أقلّ عرضةً للقصف الإسرائيلي، كما أنّ أعطاله ستكون أيسر في الإصلاح، مقارنةً بمحطات التحلية التي تتطلب وقتاً للتشييد والتركيب، ولا تغطي إنتاجيتها حاجة السكان.
ورداً على المخاوف من أنّ المشروع قد يكون مقدمةً لهندسة ديموغرافية جديدة في غزة تتماشى مع الخطط الإسرائيلية، يشدد مطاوع على أنّ جميع المشاريع الإغاثية يجب أن تُدعم في ظل الأزمة الراهنة، مع ضرورة عدم تجاهل تلك المخاوف.
ويقول إنّ التنسيق الفلسطيني المصري كفيل بضمان عدم استغلال المشروع لأغراض إسرائيلية، مضيفاً أن مصر أكثر حرصاً على هذا الملف، وستكون مراقبةً للمشروع بشكل واضح.
كما يؤكد أن الحديث عن تهجير قسري أو إعادة تشكيل القطاع ديموغرافياً لا يمكن اختزاله في مجرد أنبوب مياه، مشيراً إلى أنّ إسرائيل تملك القدرة على تزويد غزة بالمياه مباشرةً من شركة "ميكوروت" (شركة المياه الوطنية المسؤولة عن إدارة المياه في إسرائيل)، لو كانت تنوي تنفيذ خطط من هذا النوع.
تخفيف الضغوط عن تل أبيب
في المقابل، يرى المستشار المصري في الأمن القومي والعلاقات الدولية، اللواء المتقاعد محمد عبد الواحد، في موافقة الجيش الإسرائيلي على المبادرة الإماراتية، دلالات إنسانيةً وسياسيةً وإقليمية.
ويوضح اللواء عبد الواحد لرصيف22، أنّ "الجانب السياسي" للمشروع أكثر حضوراً مما يبدو؛ باعتباره محاولةً لتخفيف الضغوط الدولية عن تل أبيب، وتجنّب العقوبات المحتملة في ظل اتهامات الإبادة الجماعية، فضلاً عن تحسين صورتها خارجياً، برغم مسؤوليتها المباشرة كقوّة احتلال عن الوضع الإنساني الكارثي في غزة.
وفي حال فشل المشروع أو تأخّر تنفيذه، فإنّ إسرائيل لن تكون مسؤولةً مباشرةً عن أزمة المياه في غزة، وهو ما يمثل التفافاً إضافياً على مسؤولياتها بموجب القانون الدولي، حسب قوله.
ويعتقد الخبير الأمني أنّ للمشروع بُعداً إقليمياً آخر؛ يتمثل في تعزيز دور الإمارات كلاعب إقليمي، وسط تساؤلات متكررة حول تطبيعها المبكر مع إسرائيل منذ الاتفاق الإبراهيمي في 2020.
ويوضح أنه برغم أن المشروع يعكس خبرة الإمارات في المجال الإنساني، فإنّ ذاكرة الفلسطينيين تحمل توجسات، خصوصاً بعد إغراق الأنفاق المؤدية إلى غزة، وما ترتب عليه من آثار بيئية وإنسانية خطيرة.
وبينما يتفق قليلاً مع الطرح السابق، يرى الخبير العسكري المصري العميد متقاعد سمير راغب، أن فكرة نقل المياه من محطة تحلية مصرية إلى القطاع "خطوة إيجابية"، مع وجود مصدر موثوق لإنتاج المياه المحلاة في مصر ونقلها مجاناً؛ من أجل تخفيف معاناة الفلسطينيين، في ضوء اعتبار أنّ البعد الإنساني يعلو فوق أيّ اعتبارات أخرى.
ويوضح العميد راغب في حديثه إلى رصيف22، أنّ المشروع يُعدّ حلّاً مرحلياً، لكنه منظّم ومستدام إلى حين إعادة تأهيل البنية التحتية في غزة.
هندسة ديموغرافية غير معلَنة
من جهته، يحذّر اللواء عبد الواحد، من أنّ المشروع برغم طابعه الإنساني المعلن، قد يحمل على المدى البعيد في طياته أبعاداً ديموغرافيةً خطيرةً، منها أنّ المشروع قد توظفه إسرائيل سياسياً في مرحلة لاحقة، وأنّ "المواصي" قد تتحول إلى نقطة استقرار دائمة للفلسطينيين، ما يثير تساؤلات عميقة حول نوايا المشروع.
يضيف أنّ إسرائيل تسعى منذ سنوات إلى تفتيت السيطرة الفلسطينية الكاملة على القطاع، من خلال مشاريع تبدو إنسانيةً، كمدّ المياه أو إنشاء مناطق آمنة مؤقتة، ومع الوقت، تتحول هذه المناطق إلى واقع جغرافي جديد، بما يشكل هندسةً ديموغرافيةً غير معلنة.
يستبعد راغب أن تكون للمشروع الإماراتي أي علاقة بإعادة رسم الخريطة الديموغرافية للقطاع، موضحاً أنّ رفح هي أقرب نقطة حدودية، تفصلها عن أقصى نقطة في شمال القطاع 40 كيلومتراً تقريباً، وعليه من الممكن لأهالي غزّة أن يتدبّروا نقل المياه داخل القطاع بوسائلهم
في المقابل، يستبعد العميد سمير راغب أن تكون للمشروع الإماراتي أي علاقة بإعادة رسم الخريطة الديموغرافية للقطاع، موضحاً أنّ رفح هي أقرب نقطة حدودية، تفصلها عن أقصى نقطة في شمال القطاع 40 كيلومتراً تقريباً، وعليه من الممكن لأهالي غزّة أن يتدبّروا نقل المياه داخل القطاع بوسائلهم، كما سبق أن تخلّت إسرائيل عن خطة "المدينة الإنسانية" التي طرحتها مؤخراً، باعتبارها غير عملية وتحتاج إلى سنوات من التنفيذ، وفق قوله.
و"المدينة الإنسانية" خطة وضعها الجيش الإسرائيلي؛ لإجبار جميع الفلسطينيين في غزة على العيش في مخيمات على أنقاض مدينة رفح، على أن تستضيف في مرحلتها الأولى نقل نحو 600 ألف فلسطيني، وقد قوبلت هذه الخطة برفض وتنديد دوليين كبيرين، باعتبارها "جريمةً ضد الإنسانية".
مصر طرف لوجستي لا إداري
وعن الموقف المصري من المشروع الإماراتي، يعتقد اللواء عبد الواحد أنّ بلاده تلعب دوراً حيوياً ومحورياً في أي ملف يتعلق بالقضية الفلسطينية، مؤكداً أنه برغم عدم الإعلان رسمياً عن مشاركة مصر في مشروع خط المياه الممتد من أراضيها إلى قطاع غزة، إلا أنّ التنسيق مع الجانبين الإسرائيلي والإماراتي مؤكّد، ودور القاهرة لا يمكن تجاوزه.
ويوضح أنّ الدور المصري في المشروع قد يتركز على الجوانب اللوجستية، مثل تسهيل دخول المعدّات عبر الحدود وتوفير البنية التحتية التي تمكّن من تنفيذ المشروع، مشدداً على أنّ مصر ليست صاحبة المبادرة، لكنها شريك أساسي بحكم موقعها وعلاقاتها الإقليمية.
وحول ما يثار من مخاوف من أن تتحمل القاهرة تدريجياً مسؤولية غزة إنسانياً أو إدارياً، يشدد عبد الواحد، على أن المشروع لا يُحمّل القاهرة أعباء إنسانيةً أو إداريةً؛ لأنّ التمويل والدعم اللوجيستي والتنفيذي إماراتيان، بينما إسرائيل تسيطر أمنياً، لذا فإنّ مصر تؤدي دور دولة عبور "ترانزيت" لا أكثر، لتسهيل إيصال المياه وتخفيف المعاناة في المدى القريب.
لكنه يذهب إلى القول إنّ مصر مع استمرار الحصار وتواصل العمليات العسكرية، قد تتعرض مستقبلاً لضغوط تدفعها لتحمل مسؤوليات إضافية، بما يخفف العبء عن إسرائيل كقوة احتلال، ويعزز صورة تل أبيب أمام المجتمع الدولي بأنها تسمح بتدفق المساعدات.
وردّاً على سؤال حول مدى وجود صفقة ثلاثية في المشروع تشمل مصر والإمارات وإسرائيل، مقابل دعم أمريكي لمصر في ملفات مصرية شائكة على غرار سدّ النهضة الذي تبنيه إثيوبيا على النيل الأزرق وتتخوف مصر من تداعياته على حصتها المائية، يستبعد اللواء عبد الواحد الأمر، ويشير إلى غياب المؤشرات الحقيقية على أنّ المشروع يُعدّ جزءاً من صفقة سياسية كبرى، سواء ثلاثية أو غيرها، باعتباره محدود النطاق وبسيطاً مقارنةً بتعقّد ملف سد النهضة.
بالون اختبار
من منظور مغاير، يصف مساعد وزير الخارجية المصري الأسبق السفير متقاعد رخا أحمد حسن، ما يثار عن المشروع الإماراتي بـ"النكتة السخيفة"، باعتباره غير منطقي من الناحية الفنية أو الجغرافية، كما أنّ تكلفة الإنشاء والنقل عبر الحدود والأنابيب عالية وغير مبررة.
وفي حديث إلى رصيف22، يتساءل حسن، وهو عضو المجلس المصري للشؤون الخارجية وعضو الجمعية المصرية للأمم المتحدة: حتى مع صدور بيان رسمي من أبو ظبي أو تل أبيب، لو أنّ الإمارات هي من ستموّل المشروع، فلماذا لا تتم إقامته على شواطئ المدن الكبيرة داخل قطاع غزة، خاصةً أنّ الغزّيين لديهم تجارب عديدة في إنشاء محطات تحلية صغيرة كتلك التي دمرتها إسرائيل؟
يحذّر عبد الواحد، عبر رصيف22، من أنّ المشروع برغم طابعه الإنساني المعلن، قد يحمل على المدى البعيد في طياته أبعاداً ديموغرافيةً خطيرةً، منها أنّ إسرائيل قد توظفه سياسياً في مرحلة لاحقة، وأنّ "المواصي" قد تتحول إلى نقطة استقرار دائمة للفلسطينيين، ما يثير تساؤلات عميقة حول نوايا المشروع
كما يستبعد حسن أن يكون ما يثار حول المشروع جزءاً من "هندسة ديمغرافية" أو إعادة تشكيل إسرائيلية للقطاع، قائلاً: "لا أظنّ أنّ الأمر يصل إلى هذا الحدّ، لكنه يبدو فكرة مرتجلة، أو أنّ المسألة أقرب إلى "بالون اختبار" إعلامياً أو سياسياً.
ويعزز رأيه بالقول إنّ مصر من المقرر أن تعقد مؤتمراً دولياً لإعادة إعمار غزّة، وعليه إذا كانت النية صادقةً في إعادة الإعمار، فالأفضل تنفيذ مثل هذه المشاريع ضمن خطة مصر لإعادة الإعمار.
ويضيف الدبلوماسي المصري أنّ أيّ حديث عن تحلية المياه أو البنية التحتية في غزة يجب أن يأتي في سياق خطة متكاملة لإعادة الإعمار، وهذا يتطلب وقفاً دائماً لإطلاق النار، وعقد مؤتمر لإعادة الإعمار، وتنفيذ مشاريع إقليمية ودولية بتمويل مشترك في سياق منطقي.
ويشدد على أنّ مصر ستكون عاملاً أساسياً ورئيسياً في مشروع إعادة الإعمار، ضمن دول عربية وأوروبية ومؤسسات دولية، خاصةً أنّ الخطة العربية الإسلامية التي أُعدّت في مصر ووافقت عليها الأطراف كافة، هي المرجعية الأساسية لمشروع الإعمار، وتأتي بالتعاون مع الكفاءات الفلسطينية في غزة، ممن تتطلب الضرورة بقاءهم وعدم تهجيرهم.
ويشير حسن ختاماً، إلى أنّ عملية إعادة الإعمار التي تتبناها مصر تمرّ بمرحلتين: مرحلة التعافي المؤسسي والخدماتي، ثم مرحلة إعادة الإعمار الشامل للبنية التحتية.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.