مع بداية كل عام دراسي، تطفو على السطح مجدداً، العديد من المشكلات التي يعاني منها الطلاب المصريون، وتأخذ بعداً آخر بالنسبة إلى الطلاب فاقدي آبائهم، سواء أكان متوفياً، أو كان والداه منفصلين، أو مطلقين. وفي هذه الحالة، تغدو الأم مصدر الدعم والسند، ويتعكزون عليها لتلعب دوراً مزدوجاً في حياتهم، على الصعيدين المهني والعملي.
لكن الأمر ليس بهذه السهولة لأولئك الأمهات، اللواتي يُفترض بالعديد من الإجراءات والقرارات المطبقة في المدارس الحكومية المصرية، أن تخفف عنهن أعباءهن. إلا أن ما يحدث على أرض الواقع يبدو عكس ذلك تماماً.
مصروفات مدرسية ودروس خصوصية
صدر قرار رسمي، العام الفائت، عن وزارة التربية والتعليم المصرية، لإعفاء فئات عدة من المصروفات المدرسية التي تُدفع قبل بداية العام الدراسي، ومن ضمنها "الطلاب اليتامى، وأبناء النساء المعيلات، والمهجورات، والمطلقات". وتبلغ هذه المصروفات 300 جنيه (19 دولاراً) للصفوف الثلاثة الأولى، و200 جنيه (12 دولاراً) حتى الصف الثالث الإعدادي، و500 جنيه (31 دولاراً) للصفوف الثانوية.
سميرة كمال (52 عاماً)، ربة منزل توفي زوجها منذ 11 عاماً، ولديها خمسة أبناء، منهم من بدأ حياته الجامعية، ومنهم من لا يزال في المراحل المدرسية الأخيرة. وتعتمد العائلة على معاش الزوج المتوفى البالغ 2800 جنيه (حوالي 180 دولاراً)، وهو بالكاد يكفي تكاليف المعيشة.
يُفترض بالإجراءات المطبقة في المدارس الحكومية المصرية، تخفيف أعباء الأمهات المطلقات والأرامل، لكن الواقع عكس ذلك.
وتشير سميرة إلى معاناتها بما يتعلق بدفع المصروفات المدرسية لأولادها، على الرغم من أنهم مسجلون في مدارس حكومية. فوفق حديثها لرصيف22، العديد من المدارس تضرب عرض الحائط بالقرار المذكور في خصوص الإعفاء، وتطلب من الأرامل دفع المصروفات كاملة، أو نصفها على الأقل.
ويتمثل الجانب الآخر من معاناة السيدة، التي فضّلت الحديث باسم مستعار، برفض العديد من المعلمين دخول أبنائها ضمن مجموعات التقوية التي تقدمها وزارة التربية والتعليم، بمبالغ رمزية، لتكون بديلة عن الدروس الخصوصية الباهظة الثمن، ومطالبتهم إياها بإلحاق أولادها في دروسهم الخصوصية، وإلا تكون النتيجة عدم إعطائهم العلامات التي يستحقونها في نهاية العام. "طيب أجيب منين فلوس؟ الحصة الواحدة بتعدي الـ100 جنيه، وأنا أرملة، وهم في المدرسة عارفين"، تقول بحسرة.
وحضور الدروس الخصوصية الإلزامي، بات شائعاً في العديد من المدارس المصرية، وفي حال رفض الأهل الأمر، فقد يتعرض الطلاب لإنقاص متعمد لدرجاتهم، ويرزح الطلاب فاقدو الآباء تحت ضغوط أكبر في هذا الخصوص، نتيجة غياب الأب، والأم في كثير من الأحيان، عن حضور مجالس الآباء التي يمكن، في أثناء انعقادها، مناقشة هذه الأمور، والضغط لتغييرها.
وتتمنى سميرة أن يكون النظر إلى أطفال الأرامل والمطلقات بعين الرحمة، وأن يتم إعفاؤهم من هذه التكاليف كلها، خاصةً أن معظمهن يُعلْن أسرهن وحدهن، عن طريق معاش الزوج المتوفى، ولا يملكن مصدر دخل آخر.
"كل يوم أشعر وكأنني أُعاقب في المدرسة، لأنني أرملة"، تقول السيدة في ختام حديثها، مضيفةً أنها لا تطيق صبراً كي ينهي أولادها مراحلهم التعليمية كافة، "علشان الهم ينزاح من على قلبي وفكري".
دوامة البحث الاجتماعي
"عايشين في دوامة. إهانة بسبب ملاليم الجنيهات من المصروفات الدراسية"، هذا ما تقوله جميلة، وهي أم مصرية تبلغ من العمر 40 عاماً، ولديها طفلان في الصف الأول الإعدادي، والخامس الابتدائي، وتتحلى بالكثير من الصبر، وعزة النفس.
انفصلت جميلة عن زوجها عام 2017، نتيجة إهماله حياة الأسرة ورعايتها، كما تقول: "في أمور أولادي كلها، كنت أنا من يدير المركب، وهو يحصل على النتيجة في النهاية فحسب".
وفق حديث جميلة لرصيف22، أول العراقيل التي تواجه المطلقات ضمن المدارس هي الولاية التعليمية، التي تتطلب أوراقاً رسمية، وتوكيلات، لتحصل الأم عليها، مع ضرورة إثبات وجود نزاع قضائي بين الزوجين، لأن الولاية تكون للأب في الأساس، ويكون هو مسؤولاً عن حضور مجالس الآباء، والأمور التعليمية المتعلقة بالأبناء كافة، وتضيف: "لو الأم معرفتش تاخد الولاية، كدة مستقبل أولادها ضاع، لو هم مع أب مهمل".
"وكأنهم يقولون لنا إن الأم يجب أن تكون ساكنة في مكان سيئ، وفقيرة جداً، ولا تعمل، حتى يوافقوا على البحث الاجتماعي، في حين أن الكثيرات من الأمهات المطلقات، يعملن ويعشن في أماكن معقولة، لكن رواتبهن لا تكفي لحياة اجتماعية كريمة، وبيئة تعليمية مناسبة لأولادهن"
وفي خصوص الإعفاء من المصروفات الدراسية، تشير جميلة إلى أن ذلك مشروط بتنفيذ "بحث اجتماعي"، من قبل وزارة التضامن، للتأكد من المستوى المعيشي للأم، ومكان إقامتها، وإن كانت تعمل أو لا، وعلى أساسه يتم قبول الإعفاء، أو يُرفض، وتمثل هذه واحدة من المعضلات الكبيرة التي تواجهها الأمهات المطلقات في نظام التعليم المصري.
"وكأنهم يقولون لنا إن الأم يجب أن تكون ساكنة في مكان سيئ للغاية، وفقيرة جداً، ولا تعمل، حتى يوافقوا على البحث الاجتماعي، في حين أن الكثيرات من الأمهات المطلقات، يعملن ويعشن في أماكن معقولة، لكن رواتبهن وحدها لا تكفي لحياة اجتماعية كريمة، وبيئة تعليمية مناسبة لأولادهن"، تقول، مضيفةً أنها لم تسعَ من الأساس للحصول على الإعفاء، وتعتمد على مساعدة أهلها في المصروفات المدرسية، لأن والد طفليها لا يصرف عليهما شيئاً.
إهمال الحالة النفسية
تشير جميلة إلى مشكلة أخرى تؤثر على الأطفال، بطريقة سلبية، لم يلتفت إليها التعليم المصري، مؤكدةً أن غالبية الأمهات المطلقات لا يذكرن ذلك أمام أصحاب أولادهن في المدرسة، لأن النظرة المجتمعية إلى المرأة المطلقة في مصر وصلت إلى المدارس، والأطفال ينظرون إلى أبناء المطلقة، أو الأرملة، على أنهم أطفال بلا أب، ويعانون من التنمر في بعض الأحيان: "بصراحة مش بقول إني مطلقة، علشان نفسية أولادي".
في هذا السياق، تشير نسمة كمال (39 عاماً)، وهي أرملة منذ ست سنوات، ولديها ولدان في المرحلتين الإعدادية والثانوية، إلى أهمية تطبيق الدعم النفسي لأولاد المطلقات، والأرامل، في المدارس الحكومية: "لا بد من وجود هذا الدعم عن طريق الأخصائيين الاجتماعيين، والنفسيين، فهؤلاء الأولاد يضلّون طريقهم وسط الخلافات بين الأب والأم، أو عقب فقدان الأب، سند العائلة".
الحالة النفسية والمشاعر التي يمر فيها الأطفال فاقدو الآباء، لا تلقى أي دعم أو مراعاة في معظم المدارس.
ووفق حديث نسمة لرصيف22، فإن الحالة النفسية والمشاعر التي يمر فيها الأطفال فاقدو الآباء، لا تلقى أي دعم، أو مراعاة، في معظم المدارس الحكومية، ما يدفعها كل عام، للبحث عن مدرسة جديدة، على أمل أن تكون أفضل، وأن تعامل أولادها معاملة إنسانية تراعي ما يمرون فيه، لكنها لم تجد ما يرضيها حتى الآن.
حبر على ورق
من جانبها، قالت عبير أحمد، مؤسسة اتحاد أمهات مصر للنهوض بالتعليم، إنه لا بد من وضع ملف الأمهات، ولايا الأمور من المطلقات والأرامل، وملف الولاية التعليمية، أمام مجلس النواب، والجهات المسؤولة في الدولة.
وأضافت عبير، في حديثها لرصيف22: "تعاني المطلقات والأرامل مع مدارس أبنائهن، في المصروفات، وأي أوراق رسمية تطلبها، خاصةً في ما يتعلق بالولاية التعليمية"، مستطردةً: "وكأن على المرأة أن تدفع ثمن طلاقها، أو وفاة زوجها، من خلال أولادها، وتعليمهم".
وشددت على ضرورة تسهيل الإجراءات الخاصة بأبناء المطلقات والأرامل في المدارس، مراعاةً لظروفهم، وظروف أمهاتهم اللواتي يتحملن مسؤولية أبنائهن، وتربيتهن، وحدهن، في معظم الأحيان.
بدورها، تقول منى أبو غالي، وهي مؤسسة حملة "تحيا مصر بالتعليم"، التي تضم آلاف أولياء الأمور في مصر، بأن أغلب القرارات التعليمية المتعلقة بأبناء المطلقات والأرامل، هي مجرد "حبر على ورق"، وتسبب معاناة مضاعفة للأمهات، والأمر يزداد سوءاً، عاماً بعد آخر.
وتشرح السيدة لرصيف22 عن هذه المعاناة قائلةً: "مثلاً، كي تحصل الأم على إعفاء، لا بد أن تثبت أنها فقيرة، وهذا يتطلب منها إنهاء أوراق كثيرة في المؤسسات الحكومية، ما يجعلها تُرهق نفسياً وجسدياً، وتُهان أيضاً أمام أولادها، حتى تحصل على حقها الشرعي في ذلك".
وتضيف أبو غالي أنها تتمنى أن تلقي وزارة التربية والتعليم بالاً، لمناشدات الأمهات لحل هذه المعضلات في السنوات الدراسية المقبلة، خاصةً مع ارتفاع الأسعار، والأزمة الاقتصادية التي يعيشها المصريون مؤخراً.
"ليس من المعقول أن يقف هؤلاء الطلاب على أبواب وزارة التضامن، ليجدوا من يسدد عنهم تكاليف مصروفاتهم. من الأجدر أن تتولى وزارة التربية والتعليم هذا الأمر، وبذلك لا بد من تنظيم العمل، وجعل الأمور أسهل لهؤلاء الأمهات"
"حقهم النفسي والمعنوي والمادي"
في حديث لرصيف22، تقول أستاذة علم النفس التربوي في المركز القومي للامتحانات التابع لوزارة التربية والتعليم الدكتورة مايسة فاضل ، إنه "لا بد من تفعيل دور الأخصائيين الاجتماعيين والنفسيين، داخل المدارس المصرية على أرض الواقع، وإيلاء اهتمام مضاعف لأولاد المطلقات والأرامل، والتكفل بهم مادياً ومعنوياً، خاصةً وأن الزوج في حالة الطلاق، كثيراً ما يرفض دفع مصاريف أبنائه. هو حقهم النفسي والمعنوي والمادي، وليس فضلاً من الوزارة".
وترى فاضل، وهي رئيسة قطاع التعليم العام سابقاً، أن الوزارة قادرة على تحمل تكاليف مصروفات هؤلاء الطلاب، وهو أمر كان مطبقاً سابقاً على المرحلة الابتدائية كاملة، وتالياً لا يجب أن تكون هناك صعوبة في إعادة تفعيله بالشكل الصحيح.
"ليس من المعقول أن يقف هؤلاء الطلاب على أبواب وزارة التضامن، ليجدوا من يسدد عنهم تكاليف مصروفاتهم. من الأجدر أن تتولى وزارة التربية والتعليم هذا الأمر، وبذلك لا بد من تنظيم العمل، وجعل الأمور أسهل لهؤلاء الأمهات"، تقول في نهاية حديثها.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...