شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

لنبدأ من هنا!
يتجنّبن الرجال ويتشحن بالسواد… نساء

يتجنّبن الرجال ويتشحن بالسواد… نساء "مستقلات" في قرى وصعيد مصر

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

حياة

الأحد 13 أكتوبر 201912:23 م

بعيدا عن القاهرة والإسكندرية، في أرياف الأقاليم المصرية، والصعيد، تعيش بعض النساء بشكل مستقلّ، وحدهن، بلا زوج أو أسرة تدعمها ماديا، ولا يسلمن من مضايقات عائلة، أو من الجيرة، يتشحن بالسواد، أو زي غير مبهرج، ويُظهرن الصرامة والحزم في التعامل مع الرجال، بسبب البيئة القاسية التي تجعلهن عرضة للتحرش، والاغتصاب أحيانا.

تسكن كريمة المرأة الريفية الأربعينية، ومعها أبناؤها، في كشك خشبي في قرية في محافظة المنيا، مساحته 4 أمتار، السقف تتخلَّله أشعة الشمس صباحاً، ويتساقط منه المطر شتاءً، وينامون على صناديق الأجهزة الكهربائية.

تمشى كريمة وأبناؤها كيلومتراً إلى بيت عمدة القرية التي تقيم فيها؛ لتقضي حوائجها، وتحصل على مياه الشرب، تشعر بالارتباك عندما تحتاج ابنتها لقضاء حاجتها بشكل عاجل، وتتلفت لتبحث لها عن أقرب دورة مياه.

تقول كريمة لرصيف22 أن رأس مالها ولد وبنت توأم، في الصف الثالث الابتدائي، ابتسامتهما واستذكارهما هي ذروة سعادتها.

تعرَّضت كريمة لمحاولات اغتصاب، حاول سجين سابق أن يكسر عليها قفل الباب الجرار، فجرحته في يده بالسكين، فظلَّ يصرخ، ويسبّ، ويلقي بالقوالب الخشبية على الباب حتى تهشَّم.

ما دفعها لامتلاك ساطور، وتغيير منزلها من "الكشك" إلى خيمة، وعندما تنام تربط ابنتها في قدمها بالقفل، خوفاً من أن يسحبها اللصوص من أسفل البطانية، وتمسك في يدها دبوس تشك بها كلّ من تمتد يده لها، فكانوا يسبّونها ويضجرون، ظلت هكذا داخل الخيمة سنتين.

"تنام وهي تربط ابنتها في قدمها بالقفل، خوفاً من أن يسحبها اللصوص من أسفل البطانية".

ظلت مهددة حتى استخراج ترخيص "الكشك"، حيث كان يهدمه "المجلس المحلي" بين الحين والآخر، وتعيد بناءه.

كانت كريمة في السابق، بحسب حديثها لرصيف22، فتاة قاهرية مدللة، حاصلة على الإعدادية، تزوجت أمين شرطة بعد قصة حب قصيرة، رغماً عن أهلها، لأنهم كان لديهم تنبؤ بأنه سيعيد زوجته السابقة، قالوا لها: "دول صعايدة، وأم الولد لازم ترجع".

تقول كريمة عن نفسها بعد أن طلَّقها، وتخلَّت أسرتها عنها: "متوجعتش، وعرفت هعمل أيه، ما انا كنت اتعلمت الخربشة بقا"، عادت إلى شقتها، وكانت تعمل في حضانة صباحاً، وتبيع فاكهة بعد الظهر، وفي المساء تعمل ساعتين في مكتب محامي، حتى رفع المالك الإيجار فعاشت فترة في "الكشك"، ثم فكرت في أن تنصب خيمة.

تتقاضى حوالي 200 جنيه شهرياً من عملها في مكتب محاماة، تدفع لأبنائها نصف ثمن الكتب الدراسية، وتتكفل وزارة التربية والتعليم بالباقي، كما تفعل مع جميع أبناء المطلقات في مصر.

تقول كريمة: "مادام العيل عرف يقرأ ويكتب، هيعرف يذاكر باقي المواد ويحل"، يشعر أبناؤها بالمسؤولية معها، ولكنهم يعانون التنمّر في المدرسة، حيث يعيّرهم زملاؤهم بإقامتهم داخل "الكشك".

أسرة كريمة هي واحدة من 3.3 مليون أسرة في مصر تعيلها سيدة، طبقاً لإحصائية الجهاز المركزي لتعبئة العامة والإحصاء، في تعداد 2017، وكانت نسبة الأميات منهن 59.1% من إجمالي الإناث معيلات الأسر، ثم يتبعها الحاصلات على مؤهل متوسط 17.6%، ثم الحاصلات على مؤهل جامعي بنسبة 8.5%، وتعد معظم الإناث رؤساء الأسر في تعداد 2017 من الأرامل، حيث بلغت النسبة 70.3% من إجمالي الإناث رؤساء الأسر على مستوى الجمهورية، يليها المتزوجات بنسبة 16.6% ثم المطلقات 7.1%.

أيقنت نجاة بعد أن تخلى عنها زوجها، بعد زواج استمر 12 عاما، تاركا منزله وأولاده، أنها دخلت منعطفا جديدا في حياتها، التزمت الزي الأسود، والصرامة في التعامل، حتى تأمن تحرش الرجال، أو كما تقول "لا يطمع فيها أحد"
 تنام وهي تربط ابنتها في قدمها بالقفل، خوفاً من أن يسحبها اللصوص من أسفل البطانية، وتمسك في يدها دبوس، تشك بها كل من تمتد يده لها، فكانوا يسبونها ويضجرون

"زي أسود وصرامة وحزم"

هرب زوج نجاة من أسرته في سنة 2002، تاركاً لها ثلاثة أبناء، ولدين وبنت ومنزل في أسيوط ليس به مليماً واحداً، بعد زواج استمر 12عاما، منذ ذلك الوقت وهي لا تُحسب ضمن المطلقات ولا المتزوجات.

أيقنت نجاة، وهي في الخامسة والثلاثين، أنها ستدخل منعطفاً جديداً في حياتها، فالتزمت اللباس الأسود، والصرامة في التعامل، حتى  تأمن تحرش الرجال، أو كما تقول "لا يطمع فيها أحد".

ترك ابنها الأكبر، "شريكي في الكفاح" كما تلقبه، مدرسته حيث كان في الصف الأول الإعدادي، ليعمل في محل إطارات سيارات، ويعاون أمه على تدبير نفقات المنزل، أما هي فعملت في المنازل "منظفة"، إلى أن أصابت قدميها دوالي داخلية أفقدتها القدرة على العمل.

ابنها الثاني في أولى ثانوي أزهر، وابنتها عمرها 20 سنة، تقول نجاة لرصيف22: "لم تمرّ عليها فترة جميلة منذ أن تخلَّى عنهم زوجها سوى زفاف ابنتها".

تحصل نجاة الآن على معاش الأرامل والمطلقات وقدره 450 جنيه، تدفع بهم فواتير مياه وكهرباء وغاز، وتحلم نجاة بتدشين مشروع لابنها، وتزويجه، سعادة ابنتها الزوجية، وتمتع أبنائها بحالة جيدة هي أهم مصدر سعادة لها، وتواجه مشاكلها باللين والمرونة دائماً.

معاناة نفسية ومحاكمة اجتماعية

تزوجت الفتاة القروية هدى من قرية المعصرة بأسيوط في سنة 2000، من عامل في مدرسة، مُطلّق، وكانت هي في الخامسة عشر من عمرها، وظلت 4 سنوات تربي ابن زوجها، دون إنجاب.

بعد ذلك أنجبت أربعة أطفال، أكبرهم في الصف الأول الثانوي وأصغرهم في الصف الثاني الابتدائي، ثم توفي زوجها في سنة 2016.

تتسلل إليها الثعابين والفئران من سقف منزلها المكوّن من الطين والجريد، فتلبي رغبة أمها في إشعال الإضاءة حتى الصباح، وتدفع أغلب معاش زوجها الذي يبلغ 1000 جنيه، في سداد فواتير الكهرباء والمياه.

"عندما تخرج، يتشاجر معها أخو زوجها الصغير وحماتها، ويقولان لها: "الناس بتقول دائرة تلف محدش حاكمها".

تعيش هي وأسرتها على أكل المقليات، مثل الباذنجان أو البطاطس، وتنتظر كيلو لحمة من التبرعات، و5 جنيهات في المنزل تحميها من ضعف الحاجة، و"تحمد الله عليها"، يسعدها "لمّة أبنائها حولها"، لم تكن الأعباء الثقيلة جديدة عليها، فكانت هي بمثابة الأب والأم في وجود زوجها.

لم تستطع هدى العمل، حيث ينظر للمرأة العاملة في القرية نظرة سيئة، بالإضافة إلى أن الالتهابات أكلت مفاصلها، فعندما تخرج، يتشاجر معها أخو زوجها الصغير وحماتها، يقولان لها: " الناس بتقول دائرة تلف محدش حاكمها"، لم تستطيع هدى تغيير الأسود، مجرد شراء ابنتها "شبشب" بلمعة خفيفة، أو ارتدائها ملابس ملونة، يجعل حماتها تضجر وتعتبرها امرأة معيبة.

حال هدى، هو حال معظم النساء الأرامل في قرى وأقاليم مصر، حيث تتسيد العادات والتقاليد الذكورية بقسوة، ونظرا لغياب مؤسسات الدعم والمجتمع المدني، وغياب الوعي،  على عكس القاهرة والأسكندرية ومدن أخرى، يدين المجتمع هناك خاصة في الشرائح الاجتماعية التي يندر فيها التعليم، ويغلب عليها الفاقة، عمل المرأة، ويعتبره نقيصة للأسرة.

"تجنُّب الناس درع واق"

لم يختلف وضع كريمة في المنيا كثيراً عن وضع مثيلتها في أسيوط، فقد جعلت أمواج، المرأة الأربعينية، من تجنّب الناس درعاً واقياً لها، ومنسجمعة مع ملامحها وهيئتها التي تعينها على عدم الاحتكاك بالآخرين، خاصة الرجال، عبوسة الوجه، وضخامة الجسم، والاتشاح بالسواد.

تشعر كريمة أن الحظ ليس على موعد معها، حيث تتوجَّس من غدر الزمان على أبنائها، فهي لم تر لحظة جميلة منذ وفاة زوجها قط.

توفي زوجها منذ خمس سنوات بعد عمل مؤقت لمدة 11 سنة بجامعة أسيوط، وترك لها ثلاثة أبناء، بنت وولدين، أكبرهم 13 سنه وأصغرهم 7 سنوات، وتحصل على معاش ضماني 1000 جنيه (ما يقارب ستين دولار)، تقتص منهم 450 جنيه للإيجار والباقي لفواتير المياه والكهرباء.

لم يكن أمامها سوى أن تعمل جليسة لمسنة ثلاثة أيام في الأسبوع مقابل 200 جنيه، ولا يساندهم أحد، أخوتها بالكاد يكفون أنفسهم.

تعد فترات الدراسة من أصعب الفترات التي تمر عليها كل عام، منذ أن توفى زوجها حيث أعباء الدراسة وتزايد متطلبات أبنائها مع زيادة أعمارهم.

تعلم أن هناك كثيرين يتحدثون من خلفها، بشائعات تتعلق برفضها الزواج، ولكنها لا تردّ على أحد، فلا تستطيع أن تترك أبناءها، فهي تؤدي دور الاب والأم والأقارب.

"عايزة الستر"

تغيرت حياة ثناء (46 عاماً)، من قرية عرب العطيات بأسيوط، تماماً بعد وفاة زوجها في سنة 2014، حيث كان يعمل مزارعاً بالأجرة، كانت قد ارتضت بلقب الزوجة الثانية لأنها كانت أرملة ذات 22 سنة، أثمرت الزيجة عن ثلاثة أبناء أصغرهم 7 سنوات.

لم تمانع ثناء من العمل مزارعة بالأجرة، من السادسة صباحاً وحتى الرابعة مساءً، قائلة ببشاشة: "إذا وجدت من لديها طين تريد بناء فرن أبنيه لها، ونهار ما توصل لـ 50 جنيه تفرحني، وأبني سور واقع فوق زرع وعشة طيور، واشترى طيور، ولما يكبروا، أبيع نتاجهم، واشترى ثاني، ولو ست اشترت بقرة ومتعرفش تحلبها أحلبها لها، واطلع لها اللبن وزبدة وجبنة والرايب، وتأكل عيالها وعيالي، وعادي الأمور طالعة".

لم يعلمها أحد تدبير أمورها بهذه الكيفية، ولكنها على استعداد للقيام بأي عمل شريف تجيده، على الرغم أن أقارب زوجها ميسورون ولها عندهم أرث، لكنها ترفض إذلال نفسها لأحد.

ومن أصعب الاوقات التي مرت عليها هو وقت تجهيز ابنتها لضيق ذات اليد، لكنها كانت "مدبرة" للأمور المالية، ووفّر أبناء زوجها الأجهزة الكهربائية، وباعت ماعزتين بــ200 جنيه، ودفعتهم مقدم، وحتى الآن تواصل سداد الأقساط.

وعن أسعد الأوقات بالنسبة لها كانت دخول المياه إلى منزلها، حيث كانت تخرج لها "التوربينة" مياهاً مختلطة بالصرف الصحي، وتحلم بمواصلة بناء منزلها ويسعدها وجود 10 جنيهات في المنزل، فبدونها تشعر بالعري.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard