"كتبت وصولات أمانة لواحد جارنا مقابل فلوس استلفها جوزي عشان يسافر، ودلوقتي بيهددني أسدد أو أتحبس"، تخشى منى (٣٤ عاماً)، تسكن في محافظة البحيرة المصرية، من المصير الذي ينتظرها إذا واصل زوجها المماطلة في السداد، وقدّم صاحب الإيصالات شكواه للسلطات، ومثلها آلاف أخريات، تختلف ظروف استدانتهن، ولكنهن يبقين تحت سيف المجتمع والقانون.
قبل خمس سنوات، فقد زوج منى عمله، وبقي في المنزل لأكثر من عام، اضطرت هي خلالها لبيع بعض القطع الذهبية التي تملكها، واقترضت من أسرتها لتغطية نفقات المعيشة، ورغم ضيق أسرتها من سلفاتها المتكررة، وعدم تحمل زوجها للمسؤولية، فقد رفضوا تطليقها، لأن من المهم أن تظل مع "ضل راجل".
من المهم أن تظل مع "ضل راجل".
بعد خلافات متكررة، قرر الزوج السفر إلى الخارج بحجة عدم توافر فرص عمل في مدينته الصغيرة بمحافظة البحيرة، وبحجة أن العمل بالخارج سيمنحه الفرصة لتأمين حياته، ومستقبل طفليه، ووافقت الزوجة ظناً منها أن سفره سيضمن لأسرتها حياة كريمة.
اقترض الرجل من جار له أربعة آلاف دولار لتوفير تكاليف السفر، وأقنع زوجته بالتوقيع بدلاً منه على إيصالات أمانة، مدعياً أن الرجل طلب ذلك لضمان حقه أثناء وجوده في الخارج، ولكن بعد تهربه من السداد، علمت أن زوجها اقترح على الجار أن توقع هي الإيصالات لضمان حقه لا العكس.
تقول منى لرصيف22: "بعد ما عرفت إنه خلاني أوقع بداله بمزاجه هو وليس شرطاً للمدين، كنت غضبانة جداً، وخفت، حسيت إني في ورطة كبيرة، ولما سألته عمل كدة ليه، قال لي إن الراجل هيتحرج يشتكي ست ويبهدلها في أقسام الشرطة لو اتأخرت عليه في السداد"، ولكن الرجل لم يتحرج، وتواجه منى خطر التعرض للحبس.
يبرر زوج منى تأخره في سداد دينه بأنه لم يحسب الأمور بشكل صحيح، وأن الراتب الذي يتقاضاه في واحدة من دول الخليج بالكاد يكفي إيجار مسكنه وطعامه ومصروفات أسرته في مصر، كما أن أموره المادية ساءت بعد انتشار فيروس كورونا، وتخفيض ساعات عمله وراتبه.
"عايزة حد يسلفني عشان أسدد اللي استلفته من حد تاني، ده بقت حياتي، طول الوقت بادور في ساقية تسديد الديون اللي مبتخلصش، خايفة أموت مديونة"
يواجه المصير نفسه آلاف من السيدات اللاتي يعرفن بالغارمات، وهن سيدات يقترضن لتحسين ظروف أسرهن أو تجهيز الأبناء للزواج، أو يضمنّ أشخاصاً آخرين في مشتريات لا يتمكنون من سداد قيمتها، أو يوقعن إيصالات أمانة نيابة عنهم.
ولا توجد أرقام معلنة لأعداد الغارمات في مصر، ولكن سهير عوض، مديرة برنامج الغارمين بمؤسسة مصر الخير، وهي واحدة من المؤسسات الخيرية العاملة على ملف الغارمات، أعلنت أنه على مدى 11 سنة تم إخراج 80 ألف غارم وغارمة من السجون، وسداد كافة ديونهم/ن.
تدوير الديون
"عايزة حد يسلفني عشان أسدد اللي استلفته من حد تاني، ده بقت حياتي، طول الوقت بادور في ساقية تسديد الديون اللي مبتخلصش، خايفة أموت مديونة"، تقول أسماء (50 عاماً)، الموظفة بواحدة من الهيئات الحكومية بمحافظة الغربية.
اضطرت للاستدانة عندما كانت ابنتها تستعد للزواج، وتتحمل هي العبء وحدها، بعد أن قطع والدها صلته بابنته مع تطليقها: "كانت هتتجوز في بلد العريس وفي بيت عيلة، كان لازم تتجهز جهاز يرفع راسها قدام أهله وميعايروهاش بيه، والقرى مش زي المدينة بيجيبوا حاجات كتير أوي أكتر بكتير من اللي كنت محوشاها لجهازها".
فشلت زيجة ابنتها، وعادت مع ورقة طلاق وطفل في رحمها، وعانت أسماء لتحصل على الجهاز الذي استدانت لشرائه، ولكن بيع ما يمكن بيعه منه لم يغط ديونها، ومصروفات المحامي، والطفل الصغير، والابنة العائدة، واحتياجات العائلة تستهلك معظم راتبها، ولا يبقى شيء تقريباً لسد الديون التي كان مخططاً سدادها من الراتب.
تعاني النساء في مصر من أزمات مالية مستمرة، يلجأ بعضهن إلى عدة طرق، أبرزها تدوير الديون بين الزملاء والأصدقاء والعائلة، والدخول في نظام تكافلي يعرف باسم "الجمعيات"
حين تدخل أسماء مكتباً، قد تسمع همس البعض "هتطلب منك تسلفيها.. خلي بالك ده سالفة من نص الناس هنا"، تشعر بالحزن وبالحرج بالطبع، ولكنها مضطرة للمحاولة، فواحدة ممن أقرضنها تحتاج مالها لأمر عاجل، لذا يجب أن تحاول الاقتراض من أخرى لترد للأولى مالها.
دوران عجلة ديون أسماء مستمر منذ أكثر من ست سنوات، حاولت خلالها العمل سراً بتنظيف المنازل، ولكن العائد لا يكفي، والزبائن أيضاً لا يفضلون أن تنظف منازلهم سيدة خمسينية، أما ابنتها الحاصلة على شهادة جامعية ففشلت كل محاولاتها في الحصول على وظيفة.
يقتنع البعض بعجز أسماء عن السداد فينتظرون دون أمل ولكنهم قلة، أما الأغلب فيطالبونها بالتصرف ورد أموالهم، تعلمت السيدة المضطرة كيف تقتنص من يقرضها، فزملاؤها القدامى يرفضون أو يعتذرون في أفضل الأحوال، أما الزملاء والزميلات الجدد فيمكن الاستدانة منهم/ن، حتى تسد ديناً آخر معلقاً منذ سنوات، ويلح صاحبه على الحصول عليه.
الاستدانة، هي واحدة من الطرائق التي تلجأ إليها الأسر للتعامل مع المتطلبات الطارئة أو التي تفوق إمكاناتهم المادية، خاصة مع انخفاض الدخل، إذ تبلغ نسبة الفقر في مصر 30 %، وفقاً لنتائج بحث الدخل والإنفاق والاستهلاك لعام 2019-2020.
وتدرك الحكومة المصرية خطورة أزمة الغارمين، إذ يتعرض أشخاص للسجن مقابل ديون ضئيلة أو بعد تدهور أحوالهم وعجزهم عن السداد، وهو ما دفع الرئيس عبدالفتاح السيسي لتدشين مبادرة "سجون بلا غارمين"، حيث وجه صندوق "تحيا مصر" لتوفير 30 مليون جنيه لسداد ديون الغارمين والغارمات.
"الجمعيات": تكافل اجتماعي
لا تحصل نورا وزوجها على دخل كاف يمكنهما من الادخار، تمر الأيام كما تقول "اليوم بيومه"، ولكنهما كانا حريصين على عدم الاستدانة من معارفهما أو أقربائهما.
لا تضع نورا (37 عاماً) وأفراد أسرتها المقيمة بالعاصمة المصرية الترفيه أو الملابس الجديدة أو المجاملات العائلية على قائمتهم، هم يكتفون بتوفير الحد الأدنى من كل شيء، فرواتبهم الضئيلة لا تكفي بدل الإيجار، وفواتير الخدمات، ووجبات معدودة من اللحم أو الدجاج، وباقي الشهر وجبات بسيطة التكلفة.
القاعدة التي وضعتها نورا وزوجها بعدم الاستدانة كادت تنكسر بعد إصابة زوجها بمشكلة صحية تستدعي إجراءه عملية جراحية بعد أن فشلت العلاجات الدوائية، ولكن حتى محاولات الاستدانة من أفراد أسرتيهما باءت بالفشل، فهم رقيقو الحال مثلهما، وليس لديهم ما يقدمونه لهما.
"دخلوا الجمعية عشان يساعدوني، ويومين وقبضوني الفلوس".
جاء الحل من المستشفى الذي تعمل فيه نورا، التي تقول لرصيف22: "زميلة بتشتغل معانا عرفت المشكلة اللي أنا فيها، فبعتت لي وسألتني لو أحب أدخل جمعية وهاقبضها الأول، ناس كتير دخلوا الجمعية عشان يساعدوني، ويومين وقبضوني الفلوس، وسددتها بعد كدة كل شهر جزء من المرتب".
وتتابع: "الموقف ده حصل من 4 سنين، ومن ساعتها أي حد يحصل له مشكلة ويحتاج فلوس أدخل عشانه الجمعية، وترتيب الأدوار دايماً على حسب ظروف الناس، لو حد تعبان يقبضها الأول، وبعدين اللي بيجهزوا للجواز، وفلوس المدارس واللي عايز يشتري أجهزة ولا شقة بعدهم، أنا بادخل بحاجة بسيطة عشان مرتبي قليل، لكن لازم أقف مع الناس زي ما وقفوا معايا".
ولاحظت نورا أن الطلب على الجمعيات والأدوار الأولى ازداد عقب انتشار فيروس كورونا، إذ فقد بعض زملائها أعمالهم الإضافية واضطروا للاستدانة أو دخول الجمعيات لتوفير احتياجاتهم.
وكان انتشار فيروس كورونا من الأزمات الأخيرة التي أعادت الاستدانة كحل جماعي للأزمات المادية، فبعد تأثر دخل 74% من الأسر بسبب الجائحة، لجأ نصف المتضررين للاستدانة، بحسب دراسة للتعبئة والإحصاء عن تأثير فيروس كورونا على الأسر المصرية.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...