"غادرتُ بمحض إرادتي مقاعد الدراسة وأنا في الخامسة عشرة من العمر لأن والدي المُعدَم لم يعد قادراً على تدريس أبنائه السبعة مع تحمل أعباء المنزل، وهو مزارع صغير لا دخل ثابت له"، يقول سامي (اسم مستعار) لرصيف22.
بقي اثنان فقط من أشقاء سامي في المدرسة، بينما قرر هو بعمر الـ16 عاماً النزول إلى العاصمة تونس برفقة شقيقه ذي الـ18 عاماً للعمل من أجل مساعدة أسرتهما.
عند الساعة التاسعة من صباح كل يوم، يختار سامي وشقيقه السوق المركزية في تونس العاصمة، حيث تكون حركة البيع والشراء كثيفة، فيشرع هو في بيع الأكياس البلاستيكية بينما يختص شقيقه ببيع الجوارب.
"لا أنتظر شيئاً"
يقول سامي: "تُعاني محافظتي القصرين (الوسط الغربي) من التهميش والفقر وترتفع فيها نسبة البطالة، بينما لن يقبل أحد أن يشغلني بشكل رسمي لأنني طفل ولا أمتلك شهادات علمية، لذلك اخترتُ العاصمة، وهنا ندبّر راسي (أجد حلاً)".
يُنهي سامي وشقيقه عملهما عند الساعة الرابعة بعد الظهر، ويجني بمعدل عشرين ديناراً (6 دولارات) في اليوم، بينما يعيش الاثنان في "وِكالة" مقابل خمسة دنانير لليلة الواحدة.
"والوِكالة" هي مجموعة من البنايات القديمة ذات كثافة سكانية كبيرة، يلجأ لها الوافدون من الأرياف والمحافظات الداخلية كطريقة من طرق السكن الجماعي والشعبي الزهيدة.
في نهاية كل أسبوع، يترك سامي لنفسه مصاريف الإيجار والأكل، ثم يُرسل ما تبقى لأسرته وهو ما دأب على فعله كذلك شقيقه. "لا أنتظرُ شيئاً من أي مسؤول، أنا من اخترتُ طريقي وسأكمله بمفردي وعليّ تحمل مسؤوليتي، كما تريْن، خرج الجميع يحتجون لأن كيلهم طفح من كل المسؤولين وحتى رئيس الجمهورية قيس سعيّد لم يقل شيئاً ولم يتحرّك"، يُعلّق منهياً كلامه.
"مُجبرٌ لا مُخيّر"
"توفي والدي عام 2016 وكان عائلنا الوحيد. تولت بعده أمي إدارة شؤوننا من خلال العمل في القطاع الزراعي في جمع الخضار الموسمية وفي جني الزيتون شتاءاً مع شقيقي الأكبر، ولذلك قررتُ مساعدتها فغادرتُ مقاعد الدراسة منذ سنة"، يقول منير (اسم مستعار) لرصيف22.
"غادرتُ بمحض إرادتي مقاعد الدراسة لأن والدي مُعدَم"، "قررتُ ترك المدرسة بعد وفاة أمي"... قصص سامي ومنير ووليد التي يروونها هنا تُشبه قصص أطفال كثر تركوا المدرسة لأجل العمل. تجربتهم تقول الكثير عما آلت إليه أحوال الدراسة والطفولة في تونس ما بعد الثورة
لمنير (15 عاماً) ابن محافظة القيروان (الوسط الغربي) أربعة أشقاء توفيت إحداهن، أجبرتهم ظروفهم الاقتصادية القاسية على التضحية بدراستهم، فلا دخل ثابت لهم ولا يتمتعون بتغطية اجتماعية ولا يملكون عقارات وأراض يتكئون عليها.
"كنتُ مُجبراً لا مُخيّراً، فلم أتحمل معاناة أمي بمفردها، وها أنا أعمل منذ سنة في كراج للسيارات من الثامنة صباحاً حتى الخامسة مساءاً، تقاضيتُ في البداية 25 ديناراً (8 دولارات) أجرة أسبوع واليوم رفعها رب عملي إلى 30 ديناراً (10 دولارات)"، يوضح منير.
لا تكفي منير أجرته للمصروف اليومي لكنه يجد نفسه مُجبراً على تقبل الواقع، حيث يرفض الغالبية توظيفه لأنه لم يكمل تعليمه وليست لديه شهادات تكوينية في أي اختصاص.
لمنير صوتٌ جميل وكل أحلامه كانت العيش في واقع ملائم يواصل فيه دراسته وينجح ليكون فناناً كما أراد، لكن "الله غالب وهذا ما كتبه الله لي"، يقول.
لم تجد مطالب أسرة منير بتوفير فرص عمل ثابتة لهم تفاعلاً من السلطات المحلية والجهوية، ما دفعهم إلى الاعتماد على أنفسهم، كما يؤكد.
"الله غالب"
"قبل ثلاث سنوات، كنتُ أبلغ 14 عاماً من العمر، قررتُ ترك المدرسة بعد وفاة أمي عام 2015، وهي كانت المسؤولة الوحيدة عني وعن شقيقيّ الاثنين، منذ وفاة والدنا وأنا لم أتجاوز الثلاثة أشهر من العمر"، يوضح وليد (اسم مستعار) لرصيف22.
كانت والدته تعمل أيضاً في مجال الزراعة في محافظة سيدي بوزيد (الوسط الغربي) في جمع الخضار الموسمية وجني اللوز صيفاً والزيتون شتاءاً حتى تؤمّن لهم قوتهم اليومي.
"أنا أحب الدراسة لكن الله غالب، منعتني الظروف القاسية منها، فكأي طفل أحلم باستكمال تعليمي والحصول على شهادة جامعية تضمن لي مستقبلاً وعملاً لائقاً في المجتمع".
يعمل وليد (17 عاماً) منذ ثلاثة أعوام في مجال البناء في محافظة قبلي (الجنوب الغربي)، وهو المجال الذي يعمل فيه أيضاً شقيقه (20 عاماً) في سيدي بوزيد بعد انقطاعه عن الدراسة، وهما يُعيلان شقيقتهما (21 عاماً) التي تركت هي الأخرى الدراسة ولازمت البيت.
يتجه وليد إلى عمله عند الساعة الخامسة صباحاً ويعود منه في الرابعة عصراً، مقابل عشرين ديناراً (6 دولارات) كأجر اليومي، وهو راض بقدره لأنه لا يملك بدائل خاصة بعدما صُدّت جميع الأبواب في وجهه، كما يقول.
حقوقٌ وانتهاكات
يُعرّف الفصل الثالث من "مجلة حماية الطفل" التونسية الطفل بـ"كل إنسان عمره أقل من ثمانية عشر عاماً ما لم يبلغ سن الرشد بمقتضى أحكام خاصة".
وتضمن له المجلة وفق فصلها الثاني "الحق في التمتع بمختلف التدابير الوقائية ذات الصبغة الاجتماعية والتعليمية والصحية، وبغيرها من الأحكام والإجراءات الرامية إلى حمايته من كافة أشكال العنف أو الضرر أو الإساءة البدنية أو المعنوية أو الجنسية أو الإهمال أو التقصير التي تؤول إلى إساءة المعاملة أو الاستغلال".
مع ذلك، لم تمنع أحكام هذا الفصل من تعرّض أطفال تونس إلى انتهاكات ومشاكل عديدة، حيث كشف "مرصد الإعلام والتكوين والتوثيق والدراسات" حول حماية حقوق الطفل، التابع لوزارة المرأة، في 30 كانون الأول/ ديسمبر الماضي، عن 100 ألف حالة انقطاع عن الدراسة تشهدها تونس سنوياً، خاصة في المناطق الريفية وفي صفوف العائلات الفقيرة.
كما تحدّث المرصد عن وجود 600 طفل في تونس محل اتجار، وعن تسجيل 400 محاولة انتحار بين أطفال خلال عام 2019.
وأعلن المندوب العام لحماية الطفولة مهيار حمادي، يوم 18 حزيران/ يونيو الماضي، عن تسجيل 1730 إشعاراً لتعرض أطفال للإهمال والتشرد عام 2019، و1234 إشعاراً لاستغلال أطفال جنسياً، و578 إشعاراً لتعريض أطفال للتسول أو الاستغلال الاقتصادي و254 إشعاراً لاستغلال أطفال في الجريمة المنظمة.
كما أعلن "المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية" (منظمة حقوقية مستقلة تأسست عام 2011)، في تقريره عن "الهجرة غير النظامية" لعام 2020، عن وصول 1431 طفلاً تونسياً قاصراً دون مرافقة إلى إيطاليا.
للتسرب المدرسي أسباب عدة
تقف أسباب مختلفة وراء نفور أطفال تونس من الدراسة، ما يعرضهم للاستغلال الاقتصادي والجنسي ويدفع بهم نحو الانحراف والإجرام ومحاولات الانتحار والهجرة غير النظامية.
أول هذه الأسباب تظهر في تعامل المؤسسة التربوية السلبي مع توقعات الطفل وعدم مواكبتها لواقعه وعدم تجديد محتوياتها وبرامجها التربوية منذ عقود، وفق ما يراه رئيس "الجمعية التونسية للدفاع عن حقوق الطفل" معز الشريف (تأسست عام 2011 بهدف مساعدة الأطفال المهددين).
ويشير الشريف، في حديثه لرصيف22، إلى فقدان المعلمين الآليات البيداغوجية اللازمة لاستقطاب الأطفال، إضافة إلى بعض قرارات الدولة الخاطئة كالارتقاء الآلي للتلاميذ، الأمر الذي يُفقدهم المهارات الضرورية لمواصلة تعليمهم.
يتحدث الشريف كذلك عن تفشي ظاهرتي الجهل والفقر بين العائلات التونسية، خاصة في الأوساط الريفية النائية، حيث ترتفع نسبة عمالة الأطفال في القطاع الزراعي لمساعدة الأسر التي تُهمّش الدراسة مقابل تأمين استحقاقاتها المادية الآنية.
من جانبه، يرى أستاذ علم الاجتماع زهير بن جنات أن مرور المدرسة بصعوبات كبيرة هو من أهم عوامل تدهور ظروف الطفولة في تونس.
ومن بين هذه الإشكاليات، كما يقول بن جنات لرصيف22، ضعف موارد المدرسة البشرية والمالية واهتراء بنيتها التحتية، ما أدى إلى تراجع سمعتها وأهميتها في المجتمع، لا سيما في ظل ارتفاع نسبة البطالة في صفوف أصحاب الشهادات العليا.
"الطفل التونسي يدفع اليوم ثمن الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية المتدهورة للمجتمع، ما دفع بنسبة هامة من الأطفال إلى النشل والقتل، وهؤلاء هم أطفال الثورة الذين أهملتهم الدولة"... جولة على واقع تونس في ظل تراجع دور المدرسة في حياة كثر وفي وجدان أهاليهم
ويوضح قائلاً: "صار هناك نوع من الرأي العام العائلي الذي لا يعطي قيمة للمدرسة، خاصة في الأوساط الشعبية، ما ساهم في ضعف نسبة استثمار الأسرة في الدراسة".
كما يتحدث بن جنات عن تردي أوضاع المربين الاقتصادية، ما دفع بفئة منهم إلى تقديم الدروس الخصوصية وهو ما أفقد القطاع العمومي نجاعته و"ما يفسر أسباب الفشل المدرسي الذي يؤدي إلى التسرب المدرسي بداعي أن المستقبل مضمون خارج أسوار المدرسة"، وفق قوله.
من جانبه، يُرجع كاتب عام جمعية "أطفال تونس" نور الكيلاني (تأسست عام 2012 ومن أهدافها النهوض بأوضاع أطفال المناطق الشعبية والنائية) الأزمة التي يمر بها أطفال تونس إلى ارتفاع حالات الطلاق والأمراض النفسية والضغوط اليومية على الأبوين، والتي زادت حدتها طيلة السنوات العشر الأخيرة.
ويؤكد الكيلاني لرصيف22 أن "الطفل التونسي يدفع اليوم ثمن الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية المتدهورة للمجتمع التونسي، ما دفع بنسبة هامة من الأطفال إلى ارتكاب جرائم النشل والقتل، وهؤلاء هم أطفال الثورة الذين أهملتهم الدولة، ولو كانت العائلات الفقيرة مرفهة اقتصادياً لما لجأت إلى الاتجار بأبنائها وبيعهم".
وفي الجانب التربوي، يلفت الكيلاني إلى واقع الأحياء الشعبية التي تشكو غياباً تاماً للنوادي الثقافية، من مسرح وسينما وموسيقى التي تربت عليها الأجيال القديمة.
الدولة مسؤولة والأحزاب مُتّهمة
يُحمّل الشريف الدولة التي تمر بأزمات متتالية منذ الثورة المسؤولية عن تدهور حال الطفولة في البلاد، وذلك بسبب "إقصائها قطاع الطفولة وعدم اعتباره ضمن أولوياتها".
والدولة ومؤسساتها التي تُعنى بالطفولة مسؤولة كذلك، في نظر الكيلاني، لأنها "لم تضع منذ عام 2011 رؤية واضحة لبناء اجتماعي قوامه الطفولة، ولم تعمل الدولة على جعل أطفال الثورة من بناة المجتمع الديمقراطي الذي تنتقل إليه تونس، واهتمت بجل القطاعات بينما أقصت الطفولة".
"لم تعمل الدولة على جعل أطفال الثورة من بُناة المجتمع الديمقراطي الذي تنتقل إليه تونس، واهتمت بجل القطاعات بينما أقصت الطفولة".
من جهة ثانية، يُشدّد الشريف على مسؤولية مختلف الأحزاب التي لم تقدم في برامجها الانتخابية رؤية واضحة لسياسة الدولة تجاه الأطفال، حيث "بعد الثورة، لم يكن هناك إجماع على النموذج المجتمعي الذي ستتجه نحوه تونس، ولم تتمكن الاستقطابات السياسية والإيديولوجيات من إعادة هيكلة ومراجعة المنظومة التربوية المعطلة منذ سنوات".
وبحسب بن جنات، الأحزاب الحاكمة "مسؤولة بشكل مباشر لأنها لا تؤمن حقيقة بالتربية وهي مختلفة حتى في تصوراتها للتربية"، فيما تظهر مسؤولية رجال ونساء التعليم والأسر التي انسحبت من المجال التربوي وأوكلت كافة المسؤولية للمدرسة.
وتعقيباً على الرأي الذي يتهم المجتمع المدني بالتقصير، يعتبر الشريف أن "المجتمع المدني هو قوة ضغط واقتراح ولا يستطيع أن يكون محل الدولة التي عليها ضمان حقوق أطفالها، وهي حقوق لا تؤخذ بالاستعطاف من الجمعيات الخيرية بل هي واجب الدولة".
في المقابل، يُحمّل الكيلاني المجتمع المدني جزءاً من المسؤولية، من خلال بعض الجمعيات التي تعتاش من القطاع، داعياً إياه إلى النزول إلى الميدان "لأن الأطفال بحاجة إلى أن نكون بقربهم".
ولإنقاذ طفولة تونس، يؤكد رئيس "الجمعية التونسية للدفاع عن حقوق الطفل" على ضرورة أن تكون للدولة رؤية مستقبلية للإعداد لما بعد الأزمة، كالتي حدثت لأطفال الثورة الذين همشتهم فـ"أصبحوا اليوم غير مكونين ودون أي آفاق ما سيجعلهم يمثلون مشكلة اقتصادية ومجتمعية وأمنية للدولة".
أما كاتب عام جمعية "أطفال تونس" فيدعو إلى ضرورة التنبيه على مختلف الجمعيات والمنظمات بتحمل مسؤولياتها ومباشرة العمل الميداني حالاً وبوضع استراتيجية وحيدة تستهدف الأطفال واليافعين داخل الأحياء الشعبية والمناطق النائية التي تعاني من الإجرام والانحراف في صفوف أطفالها وشبابها.
من جهته، يقترح أستاذ علم الاجتماع تجديد وتحسين بنية المدرسة التحتية حتى تلبي احتياجات الطفل الجديد والمختلف، وإلى تحسين ميزانية وزارة التربية، والشروع بشكل مباشر في مراجعة الزمن المدرسي، وتحسين النقل المدرسي والخدمات العمومية المرتبطة بالمدرسة وعقد شراكة مع المجتمع المدني وتشريكه في العملية التربوية.
يُشار إلى أن "مرصد الإعلام والتكوين والتوثيق والدراسات" حول حماية حقوق الطفل قدّم جملة من التوصيات تهدف إلى النهوض بقطاع الطفولة في تونس، من بينها "تطوير نشر ثقافة حقوق الطفل ومساواة النوع الاجتماعي في صفوف الأسر والأطفال".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...