أثار قرار وزير التعليم المصري طارق شوقي بالسماح لحاملي المؤهلات العليا بالعمل في مهنة التدريس "تطوعاً" لغطاً كبيراً في أوساط المهتمين بملف التعليم، فضلاً عن ردود أفعال متباينة بين أولياء الأمور.
بين مؤيد للقرار على اعتبار أنه حل لأزمة مستعصية تواجه الطلاب، وبين رافض له ويراه مدخل فساد جديد لمنظومة هي بالأساس تعاني الكثير من عوامل الفساد، وقف الطلاب حائرون في انتظار ما ستُسفر عنه تلك التجربة الجديدة، والتي سيكونون فيها بمثابة فئران التجربة.
يفتح رصيف22 ملف العمل التطوعي في المدارس ويُحاور أطرافه في محاولة لفهم أبعاد ذلك القرار وآثاره على مستقبل الطلاب المصريين.
أصل المشكلة
باتت شكوى المدارس وأولياء الأمور من وجود عجز في المدرسين من الشكاوى الملحة التي يصعب تجاهلها، والتي نجم عنها كوارث عدة، بدءاً من التعثر التعليمي للطلاب وصولاً إلى وقوع إصابات بينهم نتيجة لغياب المدرسين عن الفصول.
بدأت الأزمة عام 1985 مع قرار الحكومة إيقاف ما يُعرف باسم "أمر التكليف"، والذي كان يتم بمقتضاه تعيين الخريجين الجامعيين في مؤسسات الدولة المناسبة لمؤهلاتهم.
بإيقاف التعيينات (التكليف)، أصبح دولاب العمل الحكومي قائماً على نظام التعاقدات، وهو ما أثر قطعاً على قطاع التعليم، خصوصاً مع التزايد المضطرد في عدد المدارس والطلاب، لتصبح أزمة العجز في المدرسين واضحة.
ظهرت هذه الأزمة بشكل محدود في البداية، نظراً لتنظيم وزارة التربية والتعليم مسابقة سنوية للتعاقد مع معلمين وسد العجز، لكن في مطلع الألفينات أصبحت المسافة الزمنية بين كل مسابقة وأخرى أكثر تباعداً، حتى وصلنا إلى ثلاث مسابقات فقط منذ 2011 حتى 2019.
الأولى في أيلول/ سبتمبر عام 2014 (75 ألف معلم)، والثانية كانت في عام 2015 (60 ألف معلم)، والأخيرة كانت عام 2016 (30 ألف معلم). هكذا، تراكم العجز عاماً بعد آخر، حتى وصل العجز في المعلمين إلى 320 ألف معلم، وفقاً لتصريحات وزير التعليم نفسه.
"التطوع مخرج للأزمة"
مع بداية العام الدراسي الحالي، بدأت تلوح في الأفق مبادرات فردية للتعامل مع الأزمة وحلها، ومن تلك المبادرات الشعبية كانت حملة "كلهم ولادنا" لصاحبتها ولية الأمر نهلة عبد النعيم التي صرحت حينها لجريدة "الوطن" المصرية أن هدفها سد العجز في هيئة التدريس عن طريق التطوع، استناداً إلى أن أغلب الأهالي خريجي جامعات، وقادرين على العمل في التدريس، مؤكدة أن المبادرة تتم في إطار قانوني، من خلال التنسيق مع عدد من المدارس في منطقة مصر الجديدة.
المفارقة هنا هو أن ما طرحته عبد النعيم في أيلول/ سبتمبر الماضي وزعمت أنه لاقى تشجيعاً من مديري بعض المدارس، هو تقريباً نفس ما صرّح به الوزير الأسبوع الماضي، متبنياً فلسفة التطوع كحل لأزمة الوزارة المالية وعدم قدرتها على تعيين مدرسين جدد.
في ظل الأزمة الاقتصادية التي تحاصر وزارة التعليم المصرية، أصبح التطوع في نظر الوزير هو الحل السحري لإشكالية عجز المعلمين الخانقة التي تعاني منها المدارس الحكومية... طرحٌ أثار الجدل والمخاوف
وكان شوقي قد كشف في أيار/ مايو الماضي أنه طلب من وزارة المالية أن تخصص لوزارته 138 مليار جنيه بمشروع الموازنة الجديدة، إلا أن المالية رفضت، وقررت تخصيص مبلغ 99 مليار جنيه فقط، دون استشارته، مضيفاً "إحنا مش بنفاصل، وأنا محتاج على الأقل 110 مليار من غير زيادة مرتبات المعلمين".
وفي منتصف شباط/ فبراير الحالي، عاد الوزير ليقر في مداخلة تلفزيونية أنه قرر حجب نتائج الطلاب الذين لم يسددوا المصاريف، مشيراً أن هذه المصاريف الزهيدة كما يقول هي مصدر التمويل الأساسي للوزارة.
وعليه، وفي ظل الأزمة الاقتصادية التي تحاصر وزارة التعليم، أصبح التطوع في نظر الوزير هو الحل السحري لإشكالية عجز المعلمين الخانقة التي تعاني منها المدارس الحكومية.
وبعد أربعة أيام فقط من تصريح الوزير بفتح باب التطوع، خرج نائب وزير التربية والتعليم لشؤون المعلمين رضا حجازي موضحاً ضوابط العمل التطوعي والتي تتمثل في:
حصول مقابلة شخصية للمتقدمين من خلال لجنة على مستوى الإدارة التعليمية فى كل تخصص.
مراعاة رغبة المتطوع في التسكين بالإدارة التى يرغبها وذلك فى ضوء العجز.
عدم تسكين الراغبين في العمل التطوعي في المدارس التي يرتادها ذووهم من الدرجة الأولى والثانية.
عدم مشاركة المتطوعين في الامتحانات.
عدم تكليف المتطوع بالإشراف اليومي.
الحد الأدنى لمدة العمل التطوعي ثلاثة أشهر.
يُمنح المتطوع شهادة تقدير في نهاية فترة عمله معتمدة من مدير مديرية التربية والتعليم.
نقلة نوعية أم قرار كارثي؟
التقينا بأخصائية تطوير التعليم أميرة رزق، وهي مديرة في إحدى المؤسسات غير الربحية العاملة في مجال التعليم، لمناقشة هذه المسألة.
تستهل رزق حديثها قائلة: "بشكل عام، أرى قرار الوزير بفتح باب التطوع في العمل في المدارس الحكومية قراراً إيجابياً، ونقلة نوعية في مجال تطوير التعليم المصري الذي يعاني من ترهلات ومشاكل عدة".
وتستطرد رزق شارحة: "هناك العديد من جمعيات المجتمع المدني والمؤسسات غير الهادفة للربح المتعاملة مع ملف التعليم، وهناك العديد من المبادرات الشبابية التي تسعى جاهدة لتطوير حقيقي فيه، لكن للأسف تلك المبادرات والجمعيات محظور عليها الدخول إلى المدارس الحكومية، ومجرد طرح فكرة التعاون مع الوزارة والعمل في المدارس العامة كانت تقابل بمحاذير وتضييقات لا حصر لها، بدءاً من البيروقراطية الحكومية وانتهاءً بالتصاريح الأمنية المطلوبة والتي يصعب الحصول عليها".
اليوم، والكلام لرزق، وبعد قرار الوزير الجديد بالموافقة على العمل التطوعي أصبح دخول المجتمع المدني للمدارس الحكومية (والتي تحتاج فعلاً لجهوده) أسهل، وهو ما تراه خطوة جيدة تُحسب للوزير في مسار التطوير الفعلي والحقيقي للتعليم المصري.
تختم رزق حديثها قائلة: التطوير لا يأتي بين ليلة وضحاها أو بكبسة زر، وهناك بالطبع فجوة بين اتخاذ القرار وآليات تنفيذه، لكن مجرد التحرك في المسار السليم نعتبره خطوة جيدة يجب البناء عليها ودراستها لتلافي السلبيات وتعظيم الإيجابيات الناتجة عنها، وهو ما آمل حدوثه".
على صعيد آخر، هناك من يقف ضد هذا القرار بشدة، معتبراً إياه خطوة جديدة في مسار تدمير التعليم.
ومن أبرز الأصوات المعارضة لهذا القرار كان الخبير التربوي الدكتور كمال مغيث، وهو باحث في المركز القومي للبحوث التربوية.
"هذا القرار لا يعدو كونه محض شر يُضمره طارق شوقي لتعليم الفقراء"... دعوة وزير التعليم المصري لفتح باب تطوع المعلمين مع المدارس الحكومية في ظل أزمتها الاقتصادية يثير الجدل، بين من اعتبرها خطوة جيدة ومن رآها "فوق مستوى العقل والخيال"
يعقّب مغيث على القرار قائلاً: "هذا القرار لا يعدو كونه محض شر يُضمره طارق شوقي لتعليم الفقراء"، مفنداً كلامه بالقول: "أولادنا في مدارسهم أمانة في رقبة الوزارة، فلا يدخل إليهم في فصولهم إلا مدرسين أو إداريين نعرفهم ونثق فيهم، ويمكننا كأولياء أمور متابعتهم ومحاسبتهم إذا تجاوزوا أو أخطأوا، فضلاً عن أن للوزارة نفسها حق المتابعة طبقاً للقوانين واللوائح".
الأسئلة التي تثيرها تلك الدعوة، حسب مغيث، هي "فوق مستوى العقل والخيال"، ومنها "متى كان التطوع في مصر فعالاً ومنجزاً ومعتمداً عليه؟ ما هي الآليات التي تملكها الوزارة لتضمن الانتظام أو التجويد أو العقاب على الخطأ والتجاوز؟ متى كان العمل المهني في مصر والمرتبط بمنهج وخطة وطرق تدريس وإنجاز ودفاتر تحضير ومكتب ودرجات وتقارير إدارية معتمداً على التطوع؟ كيف نضمن ألا تقدم الوزارة أولادنا وبناتنا الصغار لقمة سائغة لمتطرف ديني أو متحرش؟".
يختم مغيث حديثه قائلاً: "طارق شوقي يستجيب لتعليمات صندوق النقد الدولي بوقف التعيينات الحكومية ليس إلا، هذا ما يشغل باله وهذا سبب اختراعه لتلك االبدعة، أما مستقبل أولادنا خاصة الفقراء منهم فلا يشغل بال معاليه مطلقاً للأسف".
أسئلة كثيرة طرحها مغيث، ومخاوف أكثر تعتري صدور الأهالي حول مستقبل أبناءهم.
لكن السؤال الأهم هنا يبقى حول فلسفة الدولة المصرية في الإنفاق، فهل التعليم أولوية تستوجب ضخ الأموال والجهد بها، أم أن الأمن والتسلّح وبناء المدن الجديدة أولى؟
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
عبد الغني المتوكل -
منذ 4 ساعاتوالله لم أعد أفهم شيء في هذه الحياة
مستخدم مجهول -
منذ 5 ساعاترائع
مستخدم مجهول -
منذ 4 أيامكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ أسبوعتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت