شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

قدّم/ ي دعمك!
أساطير خلق الإنسان في تراث سوريا القديم

أساطير خلق الإنسان في تراث سوريا القديم

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

ثقافة نحن والتاريخ

الثلاثاء 19 ديسمبر 202311:52 ص

أدرك الإنسان منذ عصور بالغة القدم، أنه أحد الكائنات الحيوانية، ثم تطور هذا الإدراك وميّز الإنسان نفسه عن بقية الحيوانات، ففي عصرٍ سابقٍ على الكتابة يصعب تحديده؛ تصور الإنسان أن تميزه عن بقية الكائنات ينبع من خلق خاص انفرد به. فكانت نظرته إلى الكيفية والمواد التي خُلق بها تفصيلاً صغيراً في ثقافته الطويلة لإحساسه بكرامته الخاصة وعلة وجوده من جهة، ونقصه عن الآلهة التي خلقته أو الله من جهة أخرى، وأبقى الإنسان للحيوان في موروثه النفسي قيماً رمزيةً تذكّره بماضيه السحيق كأحد الكائنات، فالثعلب ماكر وذكي، والبومة حكيمة، والحمل طيب إلى درجة السذاجة وغيرها من التصورات وما رافقها من طقوس.

قدّمت حضارة بلاد ما بين النهرين مجموعةً من النصوص لخلق الإنسان، التي يمكن عدّها المقدمة الأولى المكتوبة عالمياً لجميع قصص خلق الإنسان التي أعقبتها أو التي اقتربت من تاريخ تأليفها، فكانت خصائص هذه النصوص المنبع الذي لطالما أعيدت منه رواية قصة خلق الإنسان في كل زمان ولكل شعب.

دم الإله المذنب

بعد انتصار الإله مردوخ على جيش تيامة، في قصة الخليقة البابلية كما قدمها نائل حنون، في ترجمته "حينما في العلى"، يتوجه إلى أبيه "أيا"، ويخاطبه: "ففتح فاه ليخاطب أيا، مخبراً إياه بالخطة التي اختطها في قلبه: لأجعلن الدم يسيل ولأخلقن العظم، لأخلقن قَلا وليكن اسم الإنسان/ لأخلقن قَلّا الإنسان، وليكن في خدمة الآلهة وليخلدوا هم إلى الراحة". يقترح عليه الإله أيا التالي: "ليُسَلَّم واحد من أخوتهم، ليهلك هو وحده وليسلم الإنسان، ليجتمع كل الآلهة العظام ليسلم المذنب وليبقوا هم". يخاطب الإله مردوخ الآلهة ويسألها: "اصدقوا القول لي، من ذا الذي أثار الفتنة. فجعل تيامة تثور وشن الحرب؟ ليُسَلَّم هذا الذي أثار الفتنة، سأجعله يحمل وزر خطيئته وتنعمون أنتم بالراحة". ترد الآلهة: "كنجو هو الذي خلق الفتنة وجعل تيامة تثور وشن الحرب". ترسم الأسطورة نص الحدث كالتالي: "شدوا وثاقه وأمسكوا به أمام أيا، حمّلوه وزر الخطيئة وأهرقوا دمه، ومن دمه خلقوا الإنسان. فقام الإله أيا بفرض الخدمة وعتق الآلهة".

قدّمت حضارة بلاد ما بين النهرين مجموعةً من النصوص لخلق الإنسان، التي يمكن عدّها المقدمة الأولى المكتوبة عالمياً لجميع قصص خلق الإنسان التي أعقبتها أو التي اقتربت من تاريخ تأليفها

نحن أمام اجتماع ملوكي عقب انتصار الإله مردوخ لإدانة إله كنجو قائد جيش تيامة، الذي كان دمه فداءً لبقية الآلهة الثائرة. فإذا كانت تيامة هي الذبيحة الأولى التي خلق منها مردوخ العالم، فقائد جيشها كنجو هو الذبيحة الثانية. وهناك تلك اللمسة الفكرية الدائمة في المشرق القديم التي تعتقد أن اسم الشيء يوجد فيكون هذا الشيء، وتالياً وُجد اسم الإنسان عند مردوخ بصيغة قَلّا.

دم الإله ولحمه والطين

تقدّم ملحمة أتراخاسِس اجتماعاً مختلفاً عن طبيعة الاجتماع السابق، فقبل خلق البشر كانت الآلهة العظيمة السبعة قد فرضت العمل الشاق على الآلهة، فضجر هؤلاء وتمردوا على أنليل وحاصروا معبده بعد أن قاموا بحرق أدوات عملهم. أدرك الإله أنليل خطورة الموقف واستدعى الإلهة الرئيسية ليتدارسوا الأمر، فحضر الإله آنو والإله أنكي وجرت مفاوضات بين الطرفين.

استقر رأي الآلهة الرئيسية على خلق الإنسان، وكُلّفت الإلهة مامي (ننخرساك- ننكي) بخلقه، ولكن يبدو أن مشورة الإله أنكي، وبطلب من الإلهة ننكي، كانت ضروريةً لتمام الأمر. تلخصت مشورة الإله أنكي بقتل أحد الآلهة ليخلق الإنسان من الطين الممزوج بلحمه ودمه، فوقع اختيار الآلهة على إله يُدعى وي-إيلا، ويعني ذا المشورة، وهو لا يقدَّم بصورة الإله المذنب كالإله كنجو في قصة الخلق السابقة، بل كان هناك حمامٌ لتطهير الذبيحة قد أُعدّ حيث يقول أنكي مخاطباً الآلهة: "في اليوم الأول والسابع والخامس عشر من الشهر، سأعدّ حماماً للتطهير، وليذبح إله واحد ويتطهر الإله بالاستحمام، وبلحمه ودمه لتمزج ننتو (ننخرساك) الطين، وهكذا فإن الإله والإنسان يمتزجان تماماً في الطين، وحينها يمكننا أن نسمع دق الطبل لبقية الأيام، ولتكن هناك روح من لحم الإله وعلامتها الإنسان الحي، وكي لا ينسى ذلك فلتكن هناك روح. أجابه الآلهة العظام في المجمع بكلمة: نعم".

ذُبح الإله ذو المشورة ومزجت ننتو الطين بلحمه ودمه، وتدعو الآلهة العظام الأنوناكي والإيجيجي فبصقت على الطين، وتخاطبها ننكي: "لقد طلبتم مني عملاً وأنا أنجزته، أنتم ذبحتم إلهاً ذا مشورة، وأنا أزحت عنكم العمل الشاق وفرضت عناءكم على الإنسان، رفعتم الصوت من أجل خلق الإنسان وها أنا رفعت النير وأقمت الحرية". وتعترف الآلهة قائلةً: "في ما سبق كنا ندعوك مامي، والآن ليكن اسمك بيلة -كالا- إيلي (وتعني) سيدة كل الآلهة".

يظهر خلق الإنسان بعد مزج الطين بدم الإله ولحمه والبصق عليه كسلسلة من الأفعال السحرية حيث يدخل أنكي وزوجته وآلهة النسل متجمعات إلى بيت المصائر ويعجنّ الطين بالدوس عليه، وبينما تقوم ننكي بترتيل التعاويذ، تقرص من الطين أربع عشرة قطعةً، وتضع سبعاً على اليمين وسبعاً على اليسار وبين المجموعتين تضع الآجر وثمة حبل سرّي يُقطع. ينتج هكذا سبعة ذكور وسبع إناث وُضعوا جميعاً في أزواج في حضرتها. قررت ننكي خطط البشرية من حمل ومخاض وولادة، وأن الرجل للفتاة.

جاء خلق الإنسان في هذه الأسطورة عقب احتجاج خطير يستحق مفردة الحرية التي نالتها الآلهة بعد عملية خلق الإنسان. يدل اسم الإله-الذبيحة على طبيعة الإنسان الخاصة التي يتمتع بها في الحياة، وهي المشورة بمعنى التفكير والإدراك والمشاركة بالرأي، فالذبيحة ليست مذنبةً أو مخطئةً، بل يمكن القول إنها كانت البديل المختار من جميع الآلهة.

دم آلهتي البناء والإنسانين الأولَّين

عُثر في موقع مدينة آشور على نص من ثلاثة أعمدة. يقدّم العمود الثاني رواية خلق الإنسانين الأولين بالسومرية، والعمود الثالث الرواية نفسها، ولكن باللغة الأكدية. فبعد أن أرسيت معالم الأرض وحدد مجريا نهري الفرات ودجلة تساءل الآلهة الكبار، ويبدو بلسان أنليل، عما يتوجب فعله بعدها. رأى مجمع الآلهة أن يتم خلق الإنسانين في حارة أوزموا المقدسة في مدينة نفر، وذلك بذبح أكثر من واحد من الآلهة المسماة "لامجا" (وربما اثنين)، والتي كانت مسؤولةً عن حرفة البناء وبالتحديد صناعة الآجر. تم خلق الإنسانين الأولين، وأعلن اسماهما بالسومرية أوليجارا وقد يعني منشئ الرخاء وزلجارا وقد يعني منشئ الوفرة. قررت الآلهة مصائر البشر وباركت جهودهم.

وضعت قبل أسماء الإنسانين السابقين، علامة الألوهية ربما في إشارة إلى صفة القداسة في وجودهما الأولي كونهما أبوين لكل البشر وطبيعة المهمة الملقاة على عاتقهما وهي عمارة الأرض. "لنذبح من آلهة لامجا، ونخلق البشر من دمهما، فتكون خدمة الآلهة من نصيبهم على دوام الدهر، لصيانة خندق الحدود، لوضع المجرفة والسلة في أياديهم... لتمييز حقل عن حقل، لإعطاء المجرى مساره الصحيح، لإرواء جهات الأرض الأربع، لزيادة النباتات". وتقضي لهما أرورو (ننكي)، بمصائر لا تخلو من شاعرية حكيمة: "أرورو سيدة الآلهة الخليقة بالسيادة. قضت لهما بمصائر عظيمة، عامل ماهر ينتج لعامل ماهر، وعامل غير ماهر لعامل غير ماهر، متسامقين بأنفسهم مثل قمح من الأرض، شيء مثل نجوم السماء لن يتغير للأبد، نهاراً وليلاً للاحتفال بأعياد الآلهة، بأنفسهم، هذه المصائر العظيمة آنو، أنليل، أيا، ننماخ، الآلهة العظام قدّروها وفي الموضع الذي خلق فيه الإنسان، تقرر أن يكون مقام الإلهة نيسابا، ليعلّم الحكيم اللغز لحكيم آخر".

لا يقدّم النص سياق خلق الإنسان عقب أي حالة عنف أو فوضى، بل كتسلسل هادئ لتأمل الآلهة، ويظهر بوضوح أن دم الآلهة التي خُلق منها الإنسانان الأولان حددت طبيعة وجودهما وهي استعمار الحياة وعمارتها بمعناها الجيد والرديء، وليس تخصيص مقام الإلهة نيسابا (إلهة الكتابة والمعرفة)، ليكون موضعاً لخلق الإنسان، سوى ربط باعتبار ازدهار الحياة يتجلى في عمارتها، والمحصلة النهائية للقضية هي الحكمة التي يتوارثها الحكماء من جيل إلى جيل.

الإنسان موجود! والحوار العائلي

يدور موضوع أسطورة سومرية تدعى أنكي وننخرساك حول خلق الإنسان من الطين. فأمام الصعوبات التي تواجهها الآلهة من أجل الحصول على طعامها تضج بالشكوى. تقوم آلهة البحر نمو، وهي أم أنكي، بإبلاغ ابنها بضرورة تدبير الأمر وخلق خادم للآلهة: "يا بني انهض من سريرك وافعل ما هو حكيم، اخلق خدماً للآلهة، يستجيب أنكي لنداء أمه ويرد عليها: يا أمي إن المخلوق الذي نطقت باسمه موجود، فأسبغي عليه صورة الآلهة وامزجي لب الطين الذي فوق اللج وسيكثف صانعو الأشكال الخيرون، الذين فيهم صفة الأمارة، الطين. أما أنت فاخلقي الأطراف، وستعينك ننماخ، ستقف إلهة الولادة إلى جانبك عندما تخلقين، يا أمي قدّري قدره، أما ننماخ فستطبق عليه قالب الآلهة أنه الإنسان".

لم يستعمل النص السابق دم الإله كذبيحة، لأن الإنسان موجود بشكل ما، وهو وجودٌ يسبق وجوده النهائي الذي يبدو أنه قضية تعاون عائلي بين أم (نمو/ البحر)، وزوجة أنكي (ننماخ السيدة العظيمة/ ننكي سيدة الأرض)، وصانعي الأشكال الخيرين، ليستخدموا لب الطين في قالب الآلهة، وهي إشارة واضحة وسابقة على كل مرويات خلق الإنسان التي أصبحت تتحدث لاحقاً بصورة مجردة عن خلق الإنسان على صورة الله.

إن إضافة خلق الأطراف للإنسان -ويتحدث علم تطور الإنسان مطولاً عن طبيعة تطورها وتأثيرها على حياته من انتصاب القامة وتطور استخدام مفاصل الفخذين والذراعين- تشكل ملمحاً قديماً لتصور الإنسان القديم بأن وجوده بشكله الحالي، أي العاقل، هو تطور أو تغيير لما قامت به الآلهة.

مرويات الساحل السوري

تأتي مدينة أوغاريت في المرتبة الأولى والوحيدة التي قدّمت لنا نصوصاً أدبيةً كاملةً عن الآلهة واختصاصاتها، وجميع هذه النصوص خالية من أي تلميح لقضية خلق الإنسان. لا تخلو هذه النصوص من ألقاب للآلهة ومفردات تدل على مجريات في عملية خلق مجهولة، ولكنها غير مذكورة في نص صريح، فالإله إيل يحمل لقب موجد الخلائق أو أبي السنين، للدلالة على القدم ولقب باري البرايا (ب ن ي. ب ن و ت)، والإله يم يقدّم بصفة حبيب إيل وسيداً للنهر والبحر، وهناك عنات البتول والتي ما زال لقبها (ي م م ت. ل إ م م)، مدار خلاف: هل يعني مقصد الأمم أو يمامة الأمم أو بنت أحمى (سلفة) الأمم؟

جاء نص فيلون الجبيلي (64-141م)، الذي نقله إلى اللغة اليونانية من الكاتب سانخونياتن البيروتي (كما يدّعي) لأنه، أي فيلون، قرأ مؤلفاته التي كتبها سانخونياتن بالفينيقية. اطّلع الراهب المسيحي أوزيب البامفيلي (260-339م)، على كتاب فيلون ونقل منه فقرات محددةً ليدافع عن العقيدة المسيحية في كتابه "الاستعداد للحياة المسيحية".

أحرق المسيحيون الأوائل كتب فيلون عام 448 م، كما أحرقوا الكثير من مؤلفات الوثنيين ودمّروا أرشيف معابدهم، فلم يصلنا من فيلون نقلاً عن سانخونياتن إلا الفقرات التي استعرضها أوزيب وفي بعضها حديث لمروية مبهمة عن خلق الإنسان يذكرها أوزيب كشاهد ويقول: "هذه المفاهيم للورع الديني تتوافق مع ضعفهم وخنوع نفوسهم. ومن ثم يقول متحدثاً عن الريح 'كولبيا' وعن زوجته 'باو' التي يترجمها بكلمة 'ليل'. وُلد أيون وبروتوغون، إنسانين فانيين. هكذا أسماهما. وكان أيون هو الذي اكتشف الغذاء من ثمار الأشجار. وهذان أنجبا جينوس وجينية، وقد سكنا فينيقيا. وحدث جفاف كبير فمدا أيديهما إلى السماء، باتجاه الشمس، لأنهما كانا يعتبرانها -كما يقول المؤلف ذاته- إلهاً وحاكماً أوحد للسماء دعوه 'بعل سمين'، أي حسب اعتبار الفينيقيين حاكم السماء، وحسب اعتبار الإغريق 'زوس'".

ينقل يوسف حوراني، في كتابه "مجاهيل تاريخ الفينيقيين"، اجتهادات المؤرخين لتفكيك كلمة كولبيا التي يعدّها "بوخارت" و"دي بويسون" تعني "قول في ياه" أو "قول فم الإله ياه"، وهذا منطقي لأن كامل منطقة سوريا القديمة كانت تعطي أبعاداً كبيرةً لقول الآلهة، وما تنطق لعمليات الخلق وإعطاء الاسم لما تم خلقه، فمقولة هذا الإله كانت الريح أو الروح أو النفس الذي خرج منها إلى الإنسان كجزء من عملية الخلق.

يرى يوسف الحوراني في تحليله "ليل"، أنها العنصر المنفعل في الطبيعة، ويربطها بمفهوم الظلمة كما ورد في سفر التكوين. ويترجم ما ورد في النص بما نتج من خليط الريح وليل، أي ولدين هما؛ أيون في اليونانية بمعنى يعبر عن دلالة الزمن. وكلمة بروتوغون تعني في اليونانية المولود الأول، أما كلمتا جينوس وجينية اسما اللذين سكنا فينيقيا فالكلمتان يونانيتان تعنيان أجيالاً وأجيالاً. ويذكر الحوراني أخيراً أن بعل سمين هو إله للشمس ذُكر في القرن السابع في نص معاهدة مع مجموعة من الآلهة بين ملك آشور "أسرحدون" وملك صور "بعل". وهذا مجمل شرح الحوراني للفقرة أعلاه.

ما لم يشرحه الحوراني هو من يكون هذا الإله ياه؟ ومن هي زوجته باو التي اكتفى بترجمة "ليل" إلى الظلام وربطها بتساهل بما ورد في التوراة؟ يحق لنا أن نسأل: أليس وجود الإنسان نتيجةً لتزواج الريح والظلمة "كتحليل" فكرة غريبة عن مرويات المنطقة التي لطالما اعتمدت على مادة صريحة ومباشرة في خلق الإنسان؟ وأخيراً ما الداعي إلى ذكر بعل سمين (سيد السماء) مع هذه الآلهة السابقة وليس أي إله آخر؟

عند تحليل الفقرة المنقولة يظهر أن سانخونياتن التزم بفكرة الإنسانين الأولين، مثيلي قصة أوليجارا وزوليجارا الرافدية، اللذين يبدو أنهما حدثا من تزاوج ريح ذكر تُدعى كولبيا وزوجته باو. طبعاً، تلتبس لغات المشرق القديم عند الحديث عن الروح والريح أو النَفَسْ والنَّفس.

عدّ المؤرخون أن كولبيا تعني قولاً في فم الإله ياه، وهو الإله ياو نفسه الذي تحدث أوزيب في مقدمة استعراضه لنصوص فيلون أن سانخونياتن قدّم كتابه إلى كاهنه ويدعى جيروم بعل وملك بيروت أبي بعل. في كتاب "أناشيد البعل"، لسليم مجاعيص وحسني حداد، نعثر على لقب ياو للإله يم (النهر)، والذي يطلق الإله إيل عليه "اسم ابن ياو يا آلهات، هكذا أعلن اسم يم". جاءت ياو هنا بالأوغاريتية (ي و)، وثمة ألقاب حملها هذا الإله في القصيدة نفسها: "يم هو بعلكم وسيدكم قاضي النهر". وللغرابة فإن ياو (ي و) هذه تشبه مقدمة اسم أحد الآلهة التن ضُحّي بها في أساطير ما بين النهرين لخلق الإنسان وهو "وي إيلا"، ويعني ذا المشورة ولكنها مقلوبة. فهل (وي) المقطعية المسمارية هي ذاتها (ي و) الأبجدية الأوغاريتية، ولكنها مقلوبة لتعني "ذو"؟ ربما، خاصةً أن معنى "ذو" يناسب السياقات التشخيصية لبعض أسماء الآلهة الكنعانية التي كانت أسماؤها تعبّر عن إشارة وكينونة وليس عن معنى محدد لغوياً، ليصبح أحد أسماء يم الجديدة "ي و" أي ذو.

في عصرٍ يصعب تحديده؛ تصور الإنسان أن تميزه عن بقية الكائنات ينبع من خلق خاص انفرد به. فكانت نظرته إلى الكيفية والمواد التي خُلق بها تفصيلاً صغيراً في ثقافته الطويلة لإحساسه بكرامته الخاصة وعلة وجوده من جهة، ونقصه عن الآلهة التي خلقته أو الله من جهة أخرى

نعثر على اسم "باو" عند آلهة بلاد الرافدين وكانت تُدعى بابا أو بائو، وعُبدت في مدينة لجش. يتألف اسمها من مقطعين باو= وهب / أو= النبات، ومن ألقابها مونوس ساجا، ويعني امرأة الخير أو دوموأننا ويعني ابنة السماء، وكانت أماً لسبع بنات وذكرين من زوجها الإله ننجرسو، وُصفت بأنها تضمد الجراح التي يسببها زوجها الذي يحمل مظهرين: الأول زراعي والثاني حربي.

نحن هنا، أمام سيدة ولود، وهي ابنة بكر ومفضلة عند إله السماء أنو، كما تتحدث الأساطير، ويدل اسمها على عالم النبات، فنصبح أمام قصة جديدة من تأثير قول إله النهر في إلهة تختص بالنبات والزراعة.

أتصور أن ورود كلمة "ليل" في النص، يدل على جوهر الهواء في قول إله النهر وليس اسماً أو ترجمةً لـ"باو" التي لم يفسر الحوراني سبب وجودها وتجاوزها إلى التوراة. وهناك إله الهواء الرافدي أنليل (ويعني سيد الهواء)، وزوجته ننليل (سيدة الهواء)، ولكن تشوش النص بسبب النقل إلى اليونانية من لغته الأصلية على يد فيلون وهي اللغة الفينيقية البعيدة عن عصر فيلون، واختصاره من قبل أوزيب جعل النص يربط بين باو (النبات) و(ليل) الهواء، وليس كولبيا الروح-الريح من فم إله النهر.

إن عدّ الإلهة باو الابنة البكر والمفضلة عند أبيها الإله أنو (إله السماء)، حسب أساطير ما بين النهرين، جعل وجود اسم "بعل سمين" (سيد السماء) في النص مبرراً ليكون الإله الأول الذي توجّه إليه البشر الفانون في العبادة. فهو إله سوري يدعى بعل شامين أو شاميم "سيد السماوات"، انتشرت عبادته في سوريا وشمال بلاد الرافدين منذ الألف الثاني قبل الميلاد. يتحدث عيد مرعي في كتابه "معجم الآلهة والكائنات الأسطورية في الشرق الأدنى القديم" عن أن اسم بعل شامين ورد في معاهدة تعود للقرن الرابع عشر قبل الميلاد بين الملك الحثي شوبيلوليوما، وملك أوغاريت نيقمادو الثاني، وذكر مع ملك حماه في نقش يعود للقرن الثامن باسم بعل شمين، وظهر هذا الإله على نقد في العصر السلوقي يحمل هلالاً على جبينه وقرص شمس تخرج منه سبعة إشعاعات في إحدى يديه، وجاء في المرتبة الثانية في مجمع آلهة تدمر بعد الإله بل، وأطلقت عليه ألقاب متعددة مثل "سيد العالم" و"سيد الخلود" و"الطيب" و"الرحمن" و"الرحيم" و"الكبير".

إن هذه الفقرة مثل فقرات كثيرة ينقلها أوزيب، تبدو مشوشةً جداً نتيجة النقل والترجمة، وقد ذكر الحوراني في كثير من مواضع دراسته أن أوزيب كما يبدو ينقل بما قرأه مسبقاً وليس بما يطالعه أمامه كمؤرخ محترف فهناك خلط وسهو واستطراد للتصويب في الكثير مما ينقله.

يتضح من النص أن قول إله النهر: "يقترب من دور أنكي في الخلق فهو أيضاً إله للمياه العذبة"، الذي خرج منه كان عنصراً هوائياً فعل أثره في مادة ذات أصل نباتي فتشكل الإنسانان الأولان، وهو استنباط فكري شكل مقدمةً للكثير من معتقدات الغنوصية المائية في القرون السابقة للمسيحة، حتى أننا نطالع أيضاً في مرويات العصور الإسلامية تصورات فكريةً تتحدث عن آفاق لها بداية ونهاية للموجودات والكائنات، فآخر أفق الجماد هو النبات، وآخر أفق النبات هو الحيوان، وآخر أفق الحيوان هو الإنسان.

إن معرفتنا بالكلمات السابقة بلغتها الفينيقية لا اليونانية، كان سينقل المروية إلى فضاءات أكثر أصالةً بصلتها بمرويات سوريا القديمة. ومما يؤسَف له أن الفقرة التالية لخلق الإنسان، والتي كتبها أوزيب، كانت حديثاً مبتسراً عن قيام فيلون باستعراض الكثير من التسميات ودلالاتها التي أخذها الإغريق بحرفيتها، فحرمنا من التعمق بمدلولات متنوعة للرواية نفسها لأن أوزيب لم يجد داعياً لاستعراضها.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

‎من يكتب تاريخنا؟

من يسيطر على ماضيه، هو الذي يقود الحاضر ويشكّل المستقبل. لبرهةٍ زمنيّة تمتد كتثاؤبٍ طويل، لم نكن نكتب تاريخنا بأيدينا، بل تمّت كتابته على يد من تغلّب علينا. تاريخٌ مُشوّه، حيك على قياس الحكّام والسّلطة.

وهنا يأتي دور رصيف22، لعكس الضرر الجسيم الذي أُلحق بثقافاتنا وذاكرتنا الجماعية، واسترجاع حقّنا المشروع في كتابة مستقبلنا ومستقبل منطقتنا العربية جمعاء.

Website by WhiteBeard
Popup Image