شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

اشترك/ ي وشارك/ ي!
هل يصبح بيع الهواء تجارةً رائجةً؟

هل يصبح بيع الهواء تجارةً رائجةً؟

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

مدونة

الجمعة 20 ديسمبر 202408:46 ص

يُنشر هذا النصّ ضمن "لنتخيّل"، وهو ملفّ مفتوح يضم نصوصاً، مدوّنات، قصصاً، مقابلات وتقارير صحافيةً نتخيّل من خلالها المستقبل الذي نوّد أن نعيش فيه، أو ذلك الذي سيُفرض علينا.

إنه فجر الأول من شهر آب/ أغسطس 2050. يصل إلى هاتفي إشعار من وزارة الصحة العامة نصّه كالتالي: "انتبه، الجوّ في الخارج سام. ابقَ في المنزل".

هذا الإشعار أرجعني بالذاكرة إلى رحلة قمت بها يوم كنت شاباً في مقتبل العمر إلى الصين، في شهر كانون الأول/ ديسمبر 2017. يومها، زرت مدينة ووهان في محافظة خوباي، وهناك أرسلوا إليّ رسالةً تؤكّد أن الهواء في الخارج سام للغاية، وينبغي عليّ البقاء داخل سكني.

هذه الرسالة بالنسبة لي كمريض يعاني من أزمات في الرئة، تُعدّ انكاسةً كبيرةً قبل أن أخرج من مكان سكني حتّى، وأستنشق الهواء الملوّث، لأنها أزمة نفسية قبل أن تكون مرضاً بحد ذاته، حيث سأعاني الويلات مع هكذا جوّ سام.

بالنسبة إلى الدول المتطورة والمتقدمة، فقد خصصت أماكن عامةً يدخل إليها الناس، هي عبارة عن حجرات مخصصة لتزويد الناس بالهواء النقيّ حيث يستنشق المرء لفترة معينة هذا الهوء ويغادر، وطبعاً دون أي كلفة ماديّة تُذكر. كيف لا وصحّة الإنسان أولوية بالنسبة إلى حكومات هذه الدول؟

ولكن للبنان دائماً استشثناءات عن القاعدة. فعلى الرغم من كل التطور الحاصل في المحيط، إلا أن هذه الحجرات لم أرَها أبداً، ولكن وجدت الحكومة حلّاً بالنسبة لها كان أفضل الممكن "تمشاية حال"، وهو حل ترقيعي كالكثير من القرارات التي شهدناها لأجيال؛ تأمين الهواء النقي بعبوات للمواطنين. إلا أنها ولسوء الحظ ليست مجّانيةً كباقي الدول، فهنا أعطت الحكومة شركةً خاصةً حق احتكار الهواء! لا تستغرب عزيزي القارئ، فلبنان، وبرغم هذا التقدم، بقي يحافظ على إرثه الكبير في المحافظة على شركات الاحتكار، ووصل الأمر بالأخيرة إلى الهواء النقيّ أيضاً.

بالنسبة إلى الدول المتطورة والمتقدمة، فقد خصصت أماكن عامةً يدخل إليها الناس، هي عبارة عن حجرات مخصصة لتزويد الناس بالهواء النقيّ حيث يستنشق المرء لفترة معينة هذا الهوء ويغادر، وطبعاً دون أي كلفة ماديّة تُذكر. كيف لا وصحّة الإنسان أولوية بالنسبة إلى حكومات هذه الدول؟

خرجت من منزلي وأنا ألبس الكمامة، حالي من حال المواطنين كلهم الذين دأبوا على لبسها، بسبب طبيعة الهواء السيئة للغاية. هل تذكرون قصة كورونا عام 2020 التي اجتاحت العالم أجمع، وراح ضحيتها الملايين من سكان الكرة الأرضية؟ المشهد نفسه ترونه الآن تماماً؛ الصغير والكبير يلبسان كمامةً بسبب هذا الهواء السام.

ما إن وصلت إلى المتجر حتّى رأيت طابوراً من المواطنين. هنا لن أعيدكم في الذاكرة إلى طوابير الخبز والوقود والدولار، لأننا ما زلنا نعيشها حتى يومنا هذا في 2050؛ فالحكومات المتعاقبة ما زالت تبحث عن الحلول الناجعة، لكن دون جدوى. إن رأى أحد منكم "الحلول الناجعة"، الرجاء الاتصال بأقرب مخفر للقوى الأمنية، وإن لم يردّوا فهذا شيء طبيعي.

وقفت كأقراني في هذا الطابور الكبير، أنتظر دوري لأحصل على عبوة الهواء، وأنا أكاد أختنق من الجو السيئ، وكاد السعال أن يُخرج رئتي من جسدي. سألت من هم أمامي: لماذا هذا الازدحام على شراء العبوات، فهي متوافرة وبكثرة ونشتريها كل يوم؟ أجابوا: الشركة لم تسلّم المتجر اليوم لأنها على خلاف مع الحكومة حول تسعير العبوة!
هنا شعرت بانهيار كبير؛ كيف سنتمكّن من التنفس مجدّداً؟ ماذا عساي أفعل؟ ركبت سيارتي وانطلقت إلى متجر آخر، والمشهد نفسه؛ المزيد من الطوابير التي تنتظر العبوات. هنا، كان لا بد للإعلام أن يتدخل ويسلّط الضوء على هذه المشاهد. وبعد الكثير من الانتظار، صدرت تسعيرة جديدة من الحكومة بعد خضوعها لابتزاز الشركة المحتكرة، رفعت بمقتضاها ثمن العبوة من دولار إلى دولارين، وهذا يشكل أعباء جديدةً على المواطن.

لكن المواطن لا يهمه الأمر، فقد اعتاد على هذا الشيء. منذ الحرب الأهلية اللبنانية 1975، وهو يتأقلم بسرعة مع هذه الأسعار. هي في طور الارتفاع وهو في طور التأقلم، المهم أن يجد عبوة الهواء، لكي يتنفس ويستمر في الحياة هو وأولاده وأهله في هذا البلد الاستثنائي.

برغم ذلك، بتنا كل عدّة أشهر نرى مشاهد الطوابير من جديد، إلى أن وجدت الحكومة الحل عبر اعتماد منصّة رسميّة لتسعير الهواء، لكن للأسف ظهرت سوق سوداء وباتت العبوات تختفي من السوق، وإن أردناها نذهب لنشتريها من بائع الأحذية. لا أحد يسأل لماذا بائع الأحذية؟ بالمختصر لأنه في الأزمات الكل يصبح تاجراً.

هذا السيناريو المخيف ربما يستبعده البعض، وربما يقول البعض الآخر بأنني متشائم كثيراً، لكن ماذا لو قلت لكم إنه في العام 2024 سُجّلت وفاة مليون شخص في الهند بسبب تلوث الهواء؟

هذا السيناريو المخيف ربما يستبعده البعض، وربما يقول البعض الآخر بأنني متشائم كثيراً، لكن ماذا لو قلت لكم إنه في العام 2024 سُجّلت وفاة مليون شخص في الهند بسبب تلوث الهواء؟ وماذا لو قلت لكم إن تلوث الهواء هو أكبر مسبب للوفاة في العالم؟ علماً بأنّ هذا التلوث في الهواء، يرافقه تهرّب الدول الصناعية الكبرى من توصيات قمم المناخ المتتالية، والتي تشدد على ضرورة تخفيض الانبعاثات الخطرة وعلى رأسها ثاني أوكسيد الكاربون، وغاز الميثان.

في لبنان، هذا الخطر الداهم يترافق مع تدمير ممنهج للغطاء الأخضر الذي يحمي البلد والمواطنين والطبيعة، وعدم الاستعاضة عنه بزرع الأشجار التي تُعدّ العنصر الأول في امتصاص السموم وتعديل الجو والتخفيف من تداعيات التغيّر المناخي.

إن عدم انتهاج سياسات بيئية سليمة سيودي بنا إلى الهلاك، إذ لم يعد ينفع الحديث عن تخفيض الانبعاثات في ضوء انهيار النقل العام، وعدم اللجوء إلى وسائل نقل عام حديثة وصديقة للبيئة، وفي ظل تلزيم الكهرباء إلى مافيا المولدات التي ما زالت تغزو شوارعنا. إن لم نلجأ إلى كهرباء الدولة، التي يفترض أن يُنتج معظمها من خلال الطاقة المجددة، وإلى معالجة النفايات عن طريق الفرز، لا عن طريق الحرق، فعبثاً نحاول.

قد يسأل البعض هل يمكن أن تصل بنا الأمور إلى هنا؟ نعم، وبكل تأكيد، فهذا المسار التدميري للبيئة مصيره تدمير جودة الهواء.

وقد يسأل البعض هل يمكن أن يباع الهواء النقي؟ نعم، يمكن، فالذي سمح لنفسه بأن يبيعك عبوة المياه وبتّ تشتريها لاعتبارها غير ملوثة خوفاً على صحتك، والمياه في العالم يُفترض أن تكون متاحةً للجميع، أي مجانيّةً، هو نفسه سيسمح لنفسه بأن يبيعك الهواء في عبوة، وأنت نفسك ستذهب لشرائها خوفاً على سلامتك وسلامة من معك.

لكيلا نصل إلى هذا المشهد السوريالي، ولكيلا نضع رقابنا تحت سلطة شركة محتكرة يملكها وزير أو نائب أو من يحيط به من الحاشية، ليبيعنا الهواء كما باعنا المياه، ينبغي أن نعالج مشكلة تلوث الهواء، لكيلا يكون بيع الهواء تجارةً رائجةً في المستقبل تغذّي جيوب المنتفعين من الأزمات.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

Website by WhiteBeard
Popup Image