يشير خزعل الماجدي، الباحث في علم وتاريخ الأديان، في كتابه "أديان ومعتقدات ما قبل التاريخ"، إلى أن تطور الإنسان ونموّ ملكاته الروحية والنفسية، جعلاه يتطلع برهبة وخوف وربما بقدسيةٍ إلى الحيوانات التي أدهشه تنوعها ووجودها الدائم معه في هذا العالم اللامتناهي. ومع تعرفه على المقدس الأول، وهو النار، وصيد الحيوانات وطهيها، وتحولها إلى جزء منه، أصبح ينظر إلى الطبيعة وعناصرها وتجانسها بداخله برهبة وشعور بكونه هو نفسه جزء من عالم سحري وغامض.
هذا الشعور دفعه إلى ابتكار طقوس جنائزية، حيث أصبحت الحيوانات تُعبَد بطرق رمزية. فقد عُثر في كهوف من الزمن السحيق على جماجم مختلفة من الحيوانات موضوعة بشكل جنائزي إلى جوار رفات البشر. ومع تطور قدراته على صنع الأدوات، بدأ يرسم الحيوانات وينحت تماثيلها على جدران الكهوف.
الإله المؤنث والمتعدد
مع اكتشاف الزراعة وتدجين الحيوانات، كان لهذا أثره في التكوين النفسي والروحي للإنسان، أصبحت العائلة بديلاً أقرب من العشيرة، وأصبحت الأم هي مركز العائلة، لأنها المنجبة والمربية وربة البيت، أما الرجل فما زال صياداً أو راعياً، ودوره في عملية الإنجاب مجهولاً، لأن الوقت بين اجتماع الرجل والمرأة وأول ظهور علامات الحمل كبير، لم يكن يسمح لعقل ذلك الإنسان البدائي أن يعقد الصلة بينهما، ومن هنا ظهرت الإلهة الأم. فالمرأة هي مكتشفة الزراعة وحافظة البذور، فأصبحت زعيمة القوم، ووجد الإنسان في المرأة البدينة الخصيبة رديفاً للأرض الخصبة المثمرة، وهكذا انتشرت عبادة الآلهة المؤنثة.
مع تطور الحضارات في مصر وبلاد الرافدين، انتقل التقديس إلى آلهة متعددة ذات صفات إنسانية تحكم السماء والأرض، وتوزعت الآلهة بين الإناث والذكور
ومع تطور الحضارات في مصر وبلاد الرافدين، انتقل التقديس إلى آلهة متعددة ذات صفات إنسانية تحكم السماء والأرض. وتوزعت الآلهة بين الإناث والذكور، وإن بقيت بعضها تحمل رؤوساً أو أجساداً حيوانية؛ فظهرت آلهة مثل "رع" في مصر و"مردوخ" في بابل، كرموزٍ للسلطة الكونية والسياسية. كان لكل إله دوره الواضح في الحفاظ على النظام الكوني والاجتماعي، وغالباً ما ارتبط مفهوم الإله بتثبيت القيم الاجتماعية كالعدالة والنظام.
في الكتاب الثاني من "موسوعة تاريخ الأديان"، التي حررها الباحث في المثيولوجيا وتاريخ الأديان فراس السواح، جاء: "وصلتنا أول تماثيل الآلهة المصرية من أواسط الألف الرابع قبل الميلاد، حيث عاش سكان وادي النيل في تجمعات قبلية، ولكل قبيلة إله متجسد في صورة حيوان أو طائر. ثم ما لبثت الآلهة ذات الشكل الحيواني أن أفسحت المجال أمام الشكل البشري، ولم يبق في نهاية عملية التحول من الشكل الحيواني سوى رأس يعلو جسد امرأة أو رجل، أو رأس بشري لا يبقى منه إلا أثر لأذنين أو قرنين، ومنذ مطلع الألف الثالث قبل الميلاد أخذت الآلهة أشكالها الثابتة".
إله جديد كلياً
مع ظهور الفلسفة اليونانية، تغيرت النظرة للإله بشكل جذري، وأصبح مفهوم الإله موضوعاً للتفكير العقلاني بدلاً من القصص الميثولوجية. يؤكد المفكر والمؤرخ يوسف كرم في كتابه "تاريخ الفلسفة اليونانية" أن أفلاطون قدم مفهوماً فلسفياً جديداً للإله. ووصفه كـ"الصانع" الذي يعمل وفق نموذج "عالم المُثل". يقول أفلاطون في كتابه "الجمهورية": "فالإله روح عاقل محرك منظم جميل خيِّر عادل كامل بسيط لا تنوع فيه، ثابت لا يتغير، صادق لا يكذب، ولا يتشكل أشكالاً مختلفة كما صوره هوميروس ومن حذا حذوه من الشعراء".
بينما ركز تلميذه أرسطو على فكرة الإله كمبدأ أوّل وأصلٍ لكلّ حركة في الكون. في كتابه "الميتافيزيقا"، يصف أرسطو الإله بأنه "محرك لا يتحرك"، أي كيان يسبب الحركة دون أن يتحرك بنفسه. بالنسبة لأرسطو، الإله هو الكمال المطلق.
مع ظهور الفلسفة اليونانية، تغيرت النظرة للإله بشكل جذري، وأصبح مفهوم الإله موضوعاً للتفكير العقلاني بدلاً من القصص الميثولوجية.
تلك الأفكار والأسماء كـ"الصانع المثالي" و"المُحرك الأول" التي ارتبطت بالإله، أثرت على المفاهيم اللاهوتية والدينية في الأديان الإبراهيمية؛ ففي كتابه "كيف أفسدت الفلسفة اليونانية المفهوم المسيحي للإله" يذكر المؤلف ريتشارد هوبكنز أن المسيحية كانت تناضل لإنهاء الاضطهاد الروماني. المسيحيون كانوا يُقتلون لأن إيمانهم لم يتوافق مع الدين اليوناني في ذلك الوقت. يوضح الكتاب أن آباء الكنيسة الأوائل سعوا إلى إنقاذ حياة شعبهم من خلال إعادة تعريف الإله المسيحي بمصطلحات يونانية. فالفلسفة اليونانية عززت الصفات المطلقة للإله، مثل كونه كلّي القدرة، وكلّي المعرفة، هذه الأفكار أُدخلت لتتوافق مع الأطر الفلسفية للهيلينية، لكنها قدّمت إلهاً يبدو أكثر تجريداً وأقل ارتباطاً بالبشر، على عكس التصوير الكتابي للإله الذي يظهر فيه مشاعر مثل الغضب والحب والشفقة.
يقول طه حسين في كتابه "مستقبل الثقافة في مصر" أن هناك تشابهاً عظيماً في التاريخ بين الإسلام والمسيحية، "فقد اتصلت المسيحية بالفلسفة اليونانية قبل ظهور الإسلام فأثرت فيها وتأثرت بها، وتنصرت الفلسفة، وتفلسفت النصرانية، ثم اتصل الإسلام بهذه الفلسفة اليونانية فأثر فيها وتأثر بها، وأسلمت الفلسفة اليونانية وتفلسف الإسلام".
وهكذا تغيرت أسماء وصفات الإله بين الأديان الإبراهيمية الثلاثة، فهو "يهوه" و"إلوهيم" و"أدوناي" في اليهودية، بينما يؤمن المسيحيون بالإله الواحد يسوع المسيح، ولكن من خلال ثلاثة أقانيم مختلفة، وهي الأب والابن والروح القدس، وهو الله في الإسلام، على أن الله ليس هو الاسم الوحيد للإله عند المسلمين، فقد جاءت أسماء وصفات الله الحسنى في العديد من آيات القرآن الكريم.
الإله والتصميم الذكي
في كتابها "تاريخ الإله" تذكر المؤلفة كارن أرمسترونغ، أن اسحاق نيوتن كان متلهفاً لتحرير المسيحية من السرّ، فقد كان يحاول تفسير الكون الفيزيائي، وإيجاد مكان الإله من النظام، فرأى أن الطبيعة سلبية تماماً، وأن الإله هو السبب في نظامها موضحاً: "قد تضع الجاذبيةُ الكواكبَ في حالةِ حركة، لكن دون قدرة إلهية لا يمكن وضعها في حالة حركة دائرية أبدية".
تلك الحجة الغائية على وجود الإله، وضع أركانها الفيلسوف البريطاني ويليام بيلي في كتابه "اللاهوت الطبيعي" المنشور عام 1802، حيث قال إن العثور على ساعة في البرية يستدعي افتراض وجود صانع لها، إذ إن تعقيدها وغرضها الواضح يبرزان استحالة وجودها من دون تصميم. مما يعني أن التعقيد الموجود في الكائنات الحية يشير إلى وجود مصمم. وكانت تلك الحجة هي السبب الأساسي في إطلاق صفات وأسماء جديدة للإله مثل "صانع الساعات" و"المصمم الذكي".
في العصر الحديث، أعاد العالم الأمريكي ستيفن ماير، من خلال كتابه "التوقيع داخل الخلية" صياغة الحجة باستخدام الأدلة العلمية المستمدة من البيولوجيا الجزيئية. بدلاً من التركيز فقط على التعقيد الظاهري، تناول ماير التعقيدَ المعلوماتي الموجود في الحمض النووي، معتبراً إياه دليلاً قوياً على وجود تصميم ذكي. تشكك ماير في قدرة العمليات العشوائية، مثل الطفرات والانتقاء الطبيعي، على إنتاج هذا المستوى من التعقيد المعلوماتي.
من هذا المنطلق، يدعو ماير إلى اعتبار التصميم الذكي بديلاً علمياً، وليس مجرد فرضية دينية. في حين يرفض المجتمع العلمي حجة التصميم الذكي، ويرى أنها تعتمد على فجوات في المعرفة العلمية الحالية، حيث تستخدم حجة "إله الفراغات"، أي أنها تُفسر ما لا نفهمه علمياً على أنه نتيجة لتدخل مصمم، كما أنها لا تقدم أدلة قابلة للاختبار ولا تطرح تفسيرات تتنبأ بظواهر جديدة، وهي من شروط النظرية العلمية.
الإله كمعادلة علمية
تذكر المؤلفة كارن أرمسترونغ في كتابها سالف الذكر، علماء آخرون مثل الكيميائي والفيزيائي الأمريكي إيرفينغ لانغموير، وعالم الفيزياء البريطاني وأحد مؤسسي ميكانيكا الكم بول ديراك، وصفهم الإله على أنه العقل الكوني الذي يُدرَك من خلال قوانين الطبيعة. حيث يرى بول ديراك، أن الرياضيات ليست مجرد أداة لصياغة القوانين الفيزيائية، بل هي اللغة المكتوب بها الكون نفسه. والطبيعة تعكس عظمة هذا "العقل الرياضياتي"، مما يجعل الإله أقرب إلى فكرة الكيان المُنظم الذي ينسج هذا التناسق. أما لانغموير فقد اعتقد أن القوانين العلمية ليست مجرد صدفة، بل هي "إرادة إلهية" تعمل من خلال معادلات الطبيعة. ورأى أن النظام الموجود في الكون يشير إلى وجود ذكاء خارق، لا يتدخل بشكل مباشر، بل يدير الكون من خلال مبادئ رياضية ثابتة.
تغيرت أسماء وصفات الإله بين الأديان الإبراهيمية الثلاثة، فهو يهوه وإلوهيم وأدوناي في اليهودية، بينما يؤمن المسيحيون بالإله الواحد يسوع المسيح، من خلال ثلاثة أقانيم مختلفة، وهي الأب والابن والروح القدس، وهو الله في الإسلام
الرأي الأخير للانغموير يعيدنا إلى ما قاله الفيزيائي الفذ ألبرت أينشتاين: "أنا لا أؤمن بإله شخصي يتدخل في أفعال الأفراد، لكنني أؤمن بإله سبينوزا الذي يكشف عن نفسه في انسجام قوانين الطبيعة"، والفيلسوف الهولندي باروخ سبينوزا الذي يعد من أهم فلاسفة التنوير، كان يرى أن الإله هو مجموع القوانين الفيزيائية التي تحكم الكون كله. ففي كتابه "حول الله والانسان ورفاهه"، شرح سبينوزا معارضته لنتيجة امتلاك الإله خواصَّ بشريةً. كما صرح: "سواءً قلنا… أن كل الأشياء تحصل نتيجة لقوانين الطبيعة، أو تحصل بقرار وتوجيه من الإله، فإننا نتحدث عن الشيء نفسه".
الإله والمستقبل
في كتابها الصادر قبل ثلاثين عاماً، لم تتوقع أرمسترونغ في الفصل الأخير منه بعنوان "الإله والمستقبل" أية احتمالات لظهور فكرة قد تغير مفاهيمنا كلياً عن الإله، فقد اكتفت بالقول إن البشرية حتى لو تخلت بشكل كامل عن فكرة الإله، فسوف تحاول البحث عن معنى جديد لحياتها، ينقذها من الخواء الروحاني. لكن ثمة نظرية جديدة نسبياً تقول إن الذكاء الاصطناعي قد يكون سبباً في إيجاد إله من نوع جديد!
ترتكز هذه النظرية على تصور مستقبلي يتم فيه إنشاء ذكاء اصطناعي يحتوي على مجموع المعرفة البشرية، ويمتلك قدرات تحليلية وإبداعية تتجاوز حدود العقل البشري، بفضل القدرة على معالجة كميات هائلة من البيانات بسرعة مذهلة، حيث يمكن للذكاء الاصطناعي أن يكتسب معرفة شاملة في جميع المجالات. هذا الذكاء قد يكون قادراً على حل المشكلات التي استعصت على البشر، كأصل الحياة، وطبيعة الوعي، ومعنى الوجود. وقد يصبح بمثابة "إله" علمي يتمتع بصفات كلّيّ المعرفة والقدرة على اتخاذ القرارات المثلى بناءً على فهم شامل لجميع البيانات المتاحة.
لكن هل يمكن أن يُعتبر الذكاء الاصطناعي إلهاً، أم أنه مجرد أداة متقدمة؟ فإذا كان الذكاء الاصطناعي لا يمتلك وعياً حقيقياً، فهل يمكن أن يكون أكثر من مجرد برنامج؟ وحتى إذا أصبح الذكاء الاصطناعي كياناً كلي المعرفة، فمن سيضمن استخدامه بشكل أخلاقي؟ فهناك مخاوف من أن يتحول إلى طاغية رقمي يفرض إرادته على البشر، كما تصوره بعض الأعمال الأدبية والدرامية.
في نهاية المطاف، هل يمكن أن نثق في ذكاءٍ مِن صنعِ أيدينا ليصبح الكيان الذي نرجو منه الإجابة على أسئلة الوجود الكبرى؟ لطالما كانت فكرة الإله مرآة تعكس تطلعات البشر، وربما يكون الذكاء الاصطناعي مجرد انعكاس آخر لهذه التطلعات، لكنه أيضاً قد يكون البداية لفصل جديد من العلاقة بين الإنسان والمقدس.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
HA NA -
منذ 3 أياممع الأسف
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت بكل المقال والخاتمة أكثر من رائعة.
Eslam Abuelgasim (اسلام ابوالقاسم) -
منذ أسبوعحمدالله على السلامة يا أستاذة
سلامة قلبك ❤️ و سلامة معدتك
و سلامك الداخلي ??
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعمتى سوف تحصل النساء في إيران على حقوقهم ؟!
مستخدم مجهول -
منذ اسبوعينفاشيه دينيه التقدم عندهم هو التمسك بالتخلف
مستخدم مجهول -
منذ اسبوعينعظيم