شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

اترك/ ي بصمَتك!
ما بين النهرين والحكايات السورية عن خلق العالم

ما بين النهرين والحكايات السورية عن خلق العالم

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

ثقافة

الثلاثاء 28 فبراير 202302:44 م

أظهرت الأساطير التي تتعلق بظهور العالم ووجود الحياة في سوريا القديمة، نظرةً ماديةً قويةً إلى الحياة، فقد قبلت بعض الشعوب بالعدم أو اللا شيء منطلقاً إلى الخلق والتكوين كونه شرطاً للوصول إلى المرحلة المادية من الخلق، بينما كان الخلق من العدم أو اللا شيء قضيةً غير معقولة أو مفهومة في الخبرة النفسية السورية، فلا بد من مادة أولى، ولا بد من تجليات أو تفاعلات في مضمون هذه المادة، مما يؤدي إلى تغير وتطور يجعلان هذا الكون ماثلاً وقائماً، بل قابلاً للتطور أيضاً.

الماء الأول والانقسام

تتضمن أسطورة "حينما إلى العلى" البابلية، ثلاثة مفاصل لحدث نشوء الكون. فالنص يذكر بداية العالم على شكل كتلة مياه واحدة ومؤلفة من "آبسو" (الماء العذب)، "تيامة" (الماء المالح)، و"ممو" الذي يبدو أنه ما كان يجعل الكتلة متصلةً وممتزجةً. لم يسبق هذه الكتلة شيء أو حدث كان سبباً لها، فهي هكذا موجودة بنفسها.

يظهر المفصل الأول، ومن دون أي تفسير أو ذكر لسبب وجيه، أن الآلهة خُلقت داخل هذه الكتلة. يذكر نائل حنون، في كتابه الحياة والموت في بلاد الرافدين (2005) "حينما إلى العلى لا سماوات مسماة، إلى الأسفل لا مستقر باسم كان مذكوراً. آبسو العتيق. واضع بذرتهم. وممو، وتيامة التي أنجبتهم جميعاً، امتزجت أمواههم كتلةً واحدةً. حينما لم يكن أي من الآلهة في الوجود، فهم لم يذكروا حتى بالاسم. ولم تقرر المصائر بعد. بعدئذ خلق الآلهة في داخلهم".

المفصل الثاني، هو الصراع بين الآلهة القديمة والجديدة التي استهلكت كتلة العماء، فتولى قيادة الآلهة الجديدة الإله أيا (أنكي بالسومرية سيد الأرض)، ونتج عن الصراع قيام أيا بتقييد وذبح آبسو (الماء العذب)، وأسر ممو وتهشيم رأسه. فالخلاصة في المعركة الأولى لم تكن ظهور الأرض التي تنتظر الحدث الثالث الأخطر، بل قيام أيا (إله الأرض) بتأسيس مقام له فوق جسد آبسو، ليصبح أيا سيد مياه العمق العذبة، وتالياً الحكمة.

المفصل الثالث: تأجّل الصراع مع تيامة (الماء المالح)، التي تقرر القيام بالمعركة بنفسها، وتخلق كائنات وحشيةً لا صلة لها بالحياة، مما يدل على عقم حلولها لواقع مأزقها الخاص، ويتصدى الإله مردوخ (ابن أيا) وينتصر عليها، فيتم الانتقال إلى خلق وإبداع وتنظيم شؤون الحياة ،"استراح السيد مرودخ وتفحص جثتها متفكراً، ليشطرها ويخلق البدائع! شقّها، مثل سمكة، إلى نصفين، وثبّت أحدهما عالياً ليكون السماء، شدّ مزلاجها وعهد بها إلى الحراس، وأمرهم أن لا يتركوا لمياهها منفذاً. ثم عبر السماء واستطلع المواضع، وسع الآبسو، حيث مقام أيا".

تستمر الأسطورة في وصف منجزات مردوخ من تحديد مواضع الآلهة ومساراتها والكواكب، وتحديد السنة بـ12 شهراً وأيامها والفصول وحركة القمر والشمس. طبعاً ثمة نصوص جعلت الإله أنليل (سيد الهواء)، سبباً للفصل بين الأرض والسماء (كما في نص خلق الفأس)، فما يهمّ هي فكرة الفصل والانقسام وليس شخص الإله لأن فكرة الفصل بين السماء والأرض مذكورة الحدوث في كثير من نصوص الأسطورة في سوريا القديمة.

أظهرت الأساطير التي تتعلق بظهور العالم ووجود الحياة في سوريا القديمة، نظرةً ماديةً قويةً إلى الحياة، فقد قبلت بعض الشعوب بالعدم أو اللا شيء منطلقاً إلى الخلق، بينما كان الخلق من العدم أو اللا شيء قضيةً غير معقولة أو مفهومة في الخبرة النفسية السورية

إننا أمام ماء أول حي، يحتوي الرغبة والشغف، فتجسد بالإلقاح وبالولادة الخاصة به، وتالياً تكون قيادة الصراع لخلق نقطة أولية للأرض بقيادة من سيكون سيدها في ما بعد، وهو الإله أيا، ويتولى ابنه مردوخ نقلة الصراع الأكثر خطراً مع الإلهة تيامة (الماء المالح)، التي يتوجب عليه شقها لينتج السماء والأرض والحياة بينهما.

عين الماء الدافقة

يتحكم عنصر الماء في أسطورة أخرى، ثنائية اللغة (سومري وأكدي)، يعود تأريخ نصّها إلى العصر البابلي الحديث (القرن السادس ق.م)، والنص كما يصفه نائل حنون في كتابه الحياة والموت في حضارة بلاد الرافدين القديمة (2005)، عبارة عن تعويذة طويلة كانت تُتلى في أثناء عملية تطهير معبد الإله نابو في مدينة بورسيا، فتم التطرق إلى الحوادث المتعلقة بخلق العالم. بعد سلسلة من التأكيدات على عدم وجود الحياة بعد، من أشجار وبيوت ومخلوقات ومدن يقول النص: "وكانت كل الأصقاع بحراً، وكانت عين الماء دافقةً في البحر. حينذاك أسست أريدو، وبني معبد إيسلاجلا"، وهو معبد الإله أيا نفسه. أما من خلق المدينة نفسها، أي أريدو، فهو مردوخ والكيفية: "وأنشأ مردوخ إطاراً من القصب على سطح الماء، وصنع طيناً وصبّه في إطار القصب"، كأي فعل معماري بشري حتى يومنا هذا، وطبعاً يتابع النص عن خلق الآلهة والبشر ونهري الفرات ودجلة والحشائش والأهوار والحظيرة والمدن.

نحن هنا أمام حقيقة علمية معروفة عن تدفق المياه العذبة في البحر، وهي ما كان يستغلها البحارة الكنعانيون لسحبها مياهاً للشرب في أثناء رحلاتهم البحرية، ومن ثم قيام البناء كفن معماري ما زال ممارَساً إلى يومنا هذا.

تسلسل الوجود من الأكبر إلى الأصغر

تعويذة تعود إلى العصر البابلي الحديث، تتعلق بعلاج ألم الأسنان، ويبدو أنها مستنسخة عن نص أقدم، تجعل من آنو (سيد السماء)، من خلق الجزء الخاص به أي السماء، ولكن العملية تستمر بشكل تنازلي من الأكبر إلى الأصغر انتهاءً بدودة الأسنان: "بعد أن خلق آنو السماء، قامت السماء بخلق الأرض، والأرض خلقت الأنهار، والأنهار خلقت الأقنية، ثم إن الأقنية خلقت الأهوار، فقامت الأهوار بخلق الدودة". برغم أن السوريين القدماء عدّوا السماء مصدراً للملوكية ومهبطاً لها، ولكن المنطق أعلاه ينم عن تأمّل أقرب إلى طفولة يبرر كل موجود فيها صورته أو نتيجته الخاصة. فالتسلسل يبدأ من السماء التي صورتها الأرض والأرض نتيجتها النهر والنهر صورته الأقنية والأقنية نتيجتها الأهوار التي بدورها أنتجت الدودة.

تسلسل الوجود من الأدنى إلى الأعلى

ثمة تعويذتان، الحديثة آشورية والأقدم بابلية تعود إلى عام 1700 ق.م.، تفسران ظهور نوع من الدمّل بحجم حبة الشعير في العين. ما يهمنا هو ما يقدّمه النصان من انطلاق الوجود من الأدنى إلى الأعلى، وعلى العكس من تعويذة علاج مرض الأسنان التي تبدأ من السماء وتهبط إلى الأرض. النسخة الأقدم البابلية كما وردت في كتاب ديوان أساطير الآلهة والبشر (1997)، لقاسم الشواف ج 2، تقول: "لم يكن آنذاك كما يروى، غير الأرض، والأرض ولدت الوحل، والوحل ولد الساق، والساق ولدت السبلة، وولدت السبلة الشعيرة". ويتابع النص ليخبرنا كيف قفزت إلى عين الإنسان، وأن علاجها يكون بالتنظيف بماء البحر المقدس.

يقدم التسلسلان السابقان تفسيراً لمشكلة صحية، وبرغم تناقضهما المنطقي قدّما وبسياق كل نص منهما انسجاماً يصلح لمشكلته الخاصة إن كان في الدودة التي تنخر سن الإنسان أو في الدمّلة التي تظهر في عينيه، فتنوع التفسير وليس تكراره كونه نهجاً، هو ما يلفت الانتباه بين طبيعة بناء التسلسلين.

تسلسل زواج المحارم والقتل الطقسي

يذكر نائل حنون، في كتابه سابق الذكر، نسخةً بابليةً متأخرةً عن أصلٍ أقدم، تدور أحداثها في مدينة واحدة وهي "دُنّو"، على عكس أساطير بلاد الرافدين التي تتمثل في الخلق عبر تراث مدن عدة وآلهتها، فنحن هنا أمام تراث خاص لمدينة محددة "دنو"، وغير معروفة حتى اليوم.

تربط الأسطورة بين وضعين أثيرين في التراث السوري: انتقال السلطة وخلق الحياة من جيل إلى آخر، وهو ما يتم من خلال الزواج المحرم. يذكر النص كاملاً نائل حنون، في كتابه الحياة والموت، وبعد مقدمة مخرومة بكلماتها نقرأ: "وبقطع محراثهما خلق البحر"، نفهم من النص أن الإله خاين سيد مدينة دنو وزوجته إلهة الأرض، أنجبا زوجاً من الآلهة وهما أماكاندو (إله الحيوانات الوحشية) وأخته إلهة البحر.

تجنبت نصوص ما بين النهرين وعلى بساطتها المنطقية تناقضات بديهيةً وقعت فيها نصوص عن الحدث نفسه، ولكن بعدها بمئات السنين؛ ففي التوراة مثلاً خلق الله النور والظلام ودعاهما الليل والنهار في اليوم الأول، ولكننا نجده في اليوم الثالث يعود ليخلق الليل والنهار وتوابعهما

قامت زوجته إلهة الأرض بإغراء ابنها لمضاجعتها وتزوجا، فقام أماكاندوا بقتل أبيه خاين، وتزوج من أخته إلهة البحر، واستقرت السلطة له، وأنجب وأخته ابنهما لخار (إله الماشية)، فقامت إلهة البحر بقتل أمها إلهة الأرض واستولى لخار على السلطة. يتزوج الإله لخار وأمه إلهة البحر وينجبان إلهة النهر وإلهاً ذكراً مفقود اسمه.

يتزوج هذا الإله المجهول لدينا من أخته إلهة النهر، ويقتل أبويه لخار (إله الماشية) وإلهة البحر، ويستولي على السلطة، وينجب إلهين، إله ذكر (وللأسف اسمه مخروم)، وإلهة أنثى تُدعى "جائم"، فتزوج الإلهان الأخيران وقتلا أبويهما واستولى الذكر على السلطة وأنجبا إلهاً ذكراً هو خاخارنو وإلهةً أنثى هي نن جشتنا، وأيضاً تزوجا قبل أن يقدم خاخارنو على قتل أبيه وأمه جائم، ويستولي على السلطة، ويستمر الأمر مع ابنيهما ولكن كثرة الخروم في اللوح لا تسمح بمعرفة نهاية الأسطورة، إلا أن ثمة حدثاً يجري في مدينة أخرى تُدعى شوبات يتعلق بالحدث في النص.

يضع النص تواريخ لعملية الاستيلاء على السلطة، فمثلاً استولى لخار على السلطة في 16 كانون الأول/ديسمبر، وثمة تواريخ نعرف أرقامها ولكن شهرها مخروم، ويبدو أن أهميتها تعود لذكرى خاصة بالمدينة. أما لجهة الخلق، فالنص يقدم الآلهة كعناصر في الطبيعة، ولا يجعل الخلق متسلسلاً من الأكبر إلى الأصغر، بل بروابط يكون القتل فيها جزءاً من فعل طقسي ليكون الخلق، فإله الحيوانات الوحشية (إله ترابي)، يضاجع أمه (إلهة الأرض ترابية)، ومنطقي أن ينجب منها ابنه إله الماشية (حيوانات التهجين). ولكن ابنه هو نتيجة لزواجه بأخته إلهة البحر (ماء)، التي تقوم بقتل أمها الترابية، فيبدو الفعل هنا مشابهاً لقتل تيامات (في أسطورة "حينما إلى العلى")، كونه شرطاً للخلق الذي قام به مردوخ، ولكن بصورة أعقد وضمن سلسلة من الزواج المحرم. وتصعب بسبب الخروم في النص وفقدان أسماء الآلهة الذكور، متابعة المتتالية التي قدمها النص لتشكيل استنتاج يُفهم السياق العام لرؤيته في الخلق وهو ما يؤسَف عليه.

أجيال الآلهة والمرحلة البهيمية

تهمنا في ظهور الآلهة، نقطتان ظهرتا بوضوح. النقطة الأولى تتعلق بأجيال الآلهة التي بدأت تخرج من الماء الأول، وعلاقتها بالقوة والمقدرة، حيث يظهر كل جيل جديد أكثر نشاطاً وفاعليةً من الجيل القديم، وعبّر النص عن الأمر بصراحة وليس استنتاجاً، ففي ذكر الآلهة التي خرجت من الماء الأول، تذكر أسطورة "حينما إلى العلى": "لخمو ولخامو قد شبا وبالاسم قد ذكرا، ما أن كبرا وشاخا، حتى خلق أنشار وكيشار ليفوقاهما مقدرةً. دارت الأيام وتوالت السنون، وأصبح آنو، وريثهم، ندّاً لآبائه، لأنشار، أصبح آنو، ابنه البكر نداً وأنجب آنو بدوره نوديمود (أيا) مثيله، أصبح نوديمود هو البطل بين آبائه، فهو واسع الإدراك، حكيم، قوي السطوة. وقد زاد قوةً على جده أنشار، ولم يكن له منافس من بين أخوته الآلهة".

نوديمود وهو نفسه أيا الذي ينتصر على آبسو وممو وعندما تحين المواجهة مع تيامة، يعلم أن المواجهة أكبر من مقدرته، لذا كان إنجابه وزوجته دامكينا، ابنه الإله مردوخ الذي يتولى المواجهة مع جيش تيامة. نقتطف من الأسطورة نفسها: "في كوخ الأقدار، مكمن الأفكار. بزغ إله، هو بطل الأبطال وحكيم الآلهة، فداخل الآبسو المطهر خلق مردوخ، أنجبه أيا أبوه، أنجبته دامكينا، أمه. رضع من صدر الإلهات فملأته المرضعة التي أرضعته بالمهابة، شامخة بنيته كانت وبارقة رفعة عينيه، مشوبة بالرجولة طلعته، وآمراً كان منذ البدء. رآه أنو، جده، فسعد، توهج فرحاً، وامتلأ قلبه بالسعادة، وقام فأعلى منزلته، وضاعف له من مقدرة الآلهة. لقد تسامى عليهم وتفوق في كل شيء".

 عنصرا الماء والتراب وتفاعلاتهما المتنوعة جسّدا تراثاً مادياً فعل أبعاده النفسية في كامل تأملات الهلال الخصيب وأفكاره ومروياته اللاحقة.

نحن أمام ثلاثة أجيال يتفوق كل جيل منها بالقوة والمقدرة على الجيل الذي سبقه، ونلاحظ كما ذكر نائل حنون، بدقة مشيراً إلى طبيعة الكائنات المتوحشة والغريبة التي خلقتها تيامة (لم تكن قادرةً على التجدد والاستمرار. أي أنها، بعبارة أخرى، كانت تحوز على القوة ولكنها تفتقر إلى القدرة). إن أبعاد العلاقة بين القدرة والقوة تظهر بوضوح أكبر في الأساطير الكنعانية، عندما نرى أيل الشيخ العجوز البعيد عن تفاصيل الأحداث وكيف يتعرض لمحاولة الزج به فيها، وما يحمل هذا الزج من تهديد له أحياناً، فأيل أمام شخصية بعل الفتية وعشتار العنيفة تعوزه القوة، ولكنه يمتلك المقدرة التي لها تأثيرها الضروري.

النقطة الثانية: في أسطورة سومرية يدور موضوعها حول خلق الماشية والغلة، آنو إله السماء الذي خلق الآلهة لم يهيئ لهم ما يسد رمقهم، حيث لم يوجد يخلق آنو، كما يذكر النص الإله لخار (إله الماشية) ولا الإله سموقان (إله الحيوانات البرية) ولا الإلهة أشنان (إلهة الغلة) ولا الإلهة اُتّو (إلهة الخضرة) فهؤلاء من يمكن أن يقدّموا إلى الآلهة القوة والطعام، فكانت الآلهة وبحسب النص:

"لم يعرفوا شيئاً عن أكل الخبز، ولم يعرفوا شيئاً عن ارتداء الثياب، لقد أكلوا النباتات بأفواههم كما تفعل الخراف، وشربوا الماء من البرك)، طبعاً خلقت الآلهة المسؤولة عن طعام الآلهة مع تعليق أخير في النص يظهر أن الإنسان وجد ليخدم الآلهة (من أجل الأشياء الخيّرة المفيدة، في زرائبهم الطاهرة، أعطي الإنسان نفس الحياة".

يظهر النص فرادةً في تقديم الآلهة في مرحلة من حياتها المادية تشبه مرحلةً عرفها الإنسان شخصياً، فأسقطها على الآلهة. يتضمن التعبير عن المرحلة البدائية التي عاشتها الآلهة قبيل وجود الإنسان عن حس تاريخي مبهم لمقدمات حضارة الإنسان ذاته، فمؤلف النص أسقط ماضيه البعيد على أسلافه الذين تمثلوا امامه كآلهة غير مكتملة الخبرات الحياتية.

نصوص جمالية

قدّم السوريون القدماء خلق العلم على صور شعرية أيضاً، تمثّل أشكال العرس الإنساني والإخصاب بالنطاف من قبل الآلهة للوجود الأنثوي، فمقدمة نص المنافسة بين الشجر والقصب تتحدث عن تزين الأرض وتجملها لعريسها السماوي المهيب، وأن الإله البديع عريسها غرس في الأرض قضيبه وسكب دفعةً واحدةً في فرجها بذرة الأبطال وأن الأرض بكاملها مثل بقرة تخور وجدت نفسها مشبعةً بمني العالم السماوي الغني. ونص أدبي آخر للمنافسة بين الصيف والشتاء يقدم الإله أنليل الذي قرر أن يخلق اليوم الفائق الخصوبة والليل الجزيل الوفرة، ليضمن نمو النباتات وحدوث الفيضان، فغرس قضيبه في المناطق الجبيلة الرحبة وحبلت قمة الجبل بالصيف والشتاء اللذين وُلدا بسهولة من قمة الجبل مثل عجلين.

عولمة موروث النهريين

دفع الغنى والثراء الظاهر في رموز ودلالات هذه النصوص السابقة، والتي تُعدّ أولى في تاريخ الإنسانية، المؤرخين إلى فيض من الاستنتاجات والإسقاطات والتفسيرات المحقة؛ فمنهم من ربط هذه التصورات بطبيعة بلاد ما بين النهرين وعلاقة ماء الأهوار بالتربة وملاحظات الإنسان الأولى عن تراجع الماء عن اليابسة، ومنهم من تلمس فيها مقدمات فكريةً للفلسفة اليونانية وأشار إلى أن مقولات طاليس التي تعدّ الماء أصل الأشياء كلها على سبيل المثال، مصدرها هذه التصورات، ومنهم من تناول الأسطورة كنص علمي أولي سبق النظريات المعاصرة التي تتحدث عن ظهور الحياة الأولى من الماء وانقسام الخلية، ومنهم من عدّ النصوص السابقة بمثابة دلالات عن ظهور مفهوم السلطة وانبثاقها الرمزي والتاريخي.

والطريف أن البعض عدّ هذه الأحداث وشخصياتها رموزاً كونيةً ليعيد السياقات الدفاعية ذاتها التي استخدمها الوثنيون أمام المسيحيين في القرون الميلادية الأولى، وهم يدافعون عن سقطات الآلهة الأخلاقية في بعض القصص لأن الآلهة تمثل قصصاً رمزيةً لقوى كونية وليس وقائع حصلت بالمفهوم المادي، وهو الدفاع ذاته الذي يستخدمه المتدينون دفاعاً عن بعض السقطات الأخلاقية في قصص القرآن وسرديات التوراة التي تقدّم شخوصها أحياناً في وقائع تنافي السمو الأخلاقي.

يستطيع القارئ غير المختص، ملاحظة بدايات التفكير في الثنائيات المتجسدة في عوالم الولادة بين المتناقضات (ماء مالح وماء عذب)، أو المتكاملات (الإله أنكي ويعني سيد الأرض وزوجته الإلهة ننكي وتعني سيدة الأرض)، وهي ثنائيات رسمت ملامح مرحلة ثقافية لاحقة في التأمل الإنساني في ثنائيات الخير والشر المتناقضة أو ثنائيات الفلسفات الشرقية المتكاملة في الين واليانغ. كما نستطيع ملاحظة بدايات الفكر التطوري التي كانت تعدّ الجيل التالي أكثر قوةً وأشد مقدرةً مع الاحتفاظ بالحكمة للجيل القديم.

تجنبتْ نصوص ما بين النهرين وعلى بساطتها المنطقية تناقضات بديهيةً وقعت فيها نصوص عن الحدث نفسه، ولكن بعدها بمئات السنين؛ ففي التوراة مثلاً خلق الله النور والظلام ودعاهما الليل والنهار في اليوم الأول، ولكننا نجده في اليوم الثالث يعود ليخلق الليل والنهار وتوابعهما. وأما القرآن فقد ألغى الشكل المنطقي والترتيب في أساطير ما بين النهرين وألغى الترتيب غير المنطقي في مرويات التوراة لحساب بلاغة لغوية شديدة الوضوح والإيجاز الدقيق.

إعنصرا الماء والتراب وتفاعلاتهما المتنوعة في النصوص السابقة جسّدا تراثاً مادياً فعل أبعاده النفسية في كامل تأملات الهلال الخصيب وأفكاره ومروياته اللاحقة التي أحاطتهما بالتقديس والإجلال.

إنضمّ/ي إنضمّ/ي

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard