على مدار الأيام الماضية، وبعد سقوط نظام الأسد في سوريا، انكببتُ مثل العديدين غيري على الاستماع إلى شهادات الذين تحرّروا ونجوا من سجونه وأقبية زنازينه، ومع كلّ شهادة أسمعها أو حال أراه من أحوال هذه السجون، كنتُ أكتشف أنّ كلّ ما قرأته في أدب السجون على مدار سنوات عمري، من "القوقعة" إلى "شرق المتوسط" إلى "خيانات اللغة والصمت" وغيرها، لا يستعرض سوى هامشاً بسيطاً من أهوال تلك السجون وفظاعاتها الكثيرة.
كنتُ أستمع إلى شهادات الرجال والنساء الذين خرجوا وتحرّروا منها، وأشعر بأنّ إنسانيتي تبكي وتصرخ وتتألّم، وأفكّر بها ككائن من لحم ودمّ، تنزوي في جزء مني، تتكوّر على نفسها، وتغطي رأسها بيديها وتنتحب بأنين أسمعه، وأتذكّر تلكَ الصرخة الشهيرة في بدايات الثورة السورية: "أنا إنسان ماني حيوان، وهالعالم كلّها متلي"، وأشعر بأنّني أفهم مشاعر قائلها –الذي كان يبكي عندما قالها- أكثر من أي وقتٍ مضى؛ وكأنّ تلك الصرخة هي اعتراض داخلي بديهي يبديه الإنسان على انتهاك الإنسانية فيه وفي غيره.
لفتتني في تلكَ الشهادات، شهادة لامرأة نُقِلَ عنها أنّها دخلت أقبية سجون النظام وعمرها 19 عاماً، وخرجت منها وعمرها 32 عاماً، وبرفقتها أبناء لا تعرف آباءهم، وقد أشعرني قولها بالظلم والقهر المضاعف الذي قاسته جرّاء معايشتها لتجربة الاعتقال السياسي، لكونها امرأة قبل كلّ شيء.
تذكّرتُ ما قرأته مرة في إحدى الكتب، من أنّ "لأجساد النساء نقاط ضعف كثيرة في المعتقلات، لا اعتزاز بالأنوثة، بصدور ناهدة أو وجوه مدورة، وشفاه مكتنزة، لا فخر بقامة شهية وأذرع ناعمة أو أصابع نبيلة. كلّ المرأة إثم، جسداً وروحاً، وكلّها موضوع لممارسات السادية والانتهاك"، وقد دفعني ذلك للتساؤل حول السبب الذي يَجعل من جسد المرأة نقطة ضعفها عند خوضها لتجربة الاعتقال السياسي في الوطن العربي، أو لماذا يعود جسدها في هذه التجربة إلى تعاريفه البدائية الأولى، كذنب وخطيئة وإثم أبدي، تحمله كوشم وعلامة على العار؟
تكشف شهادات الناجيات بأنّ عناصر النظام الأسدي لم يكتفوا بتوجيه التلميحات لهنّ بالتعرّض لأجسادهنّ، فقد تعرّضّت العديد منهنّ لحوادث اغتصاب وحشية، كان البعض منها يحدث بشكل جماعي، ويترك المعتقلة التي تعرّضت له في حالة جسدية ونفسية مريعة
الاعتقال السياسي وأعباء الجسد الأنثوي
يُلاحظ عند النظر إلى سياقات النظام الأبوي الذي ينشأ فيه جسد المرأة في المنطقة العربية، أنّ المرأة العربية تُربى منذ نعومة أظفارها على أنّ جسدها هو ملك للعائلة البطريركية كاملة، ويكون على تلك العائلة اتخاذ مجموعة من الميكانيزمات والآليات حتى تحمي شرف هذا الجسد، وتمنعه من الوقوع في المحظور، فشرف الجسد الأنثوي، في منطق النظام الأبوي، هو شرف الرجل، وشرف رجالات العائلة، الذين يُختزل مفهوم الشرف لديهم في امتلاكه لأنّه مصدر كلّ عورة ودنس، وهو هنا قضية الرجال وقضية العائلة كلّها، وأي مسّ به، أو هتك لستره، يُمثّل مسّاً وهتكاً لشرف العائلة كلّها.
طالما استغلّت أنظمة الاستبداد العربية، كيفيات مفهمة الجسد الأنثوي في المجتمعات العربية وعائلاتها البطريركية المحافظة، فقد مارسَت هذه الأنظمة أساليب ضغط كثيرة على هذا الجسد، بهدف قيادة صاحباته –الرازحات تحت وطأة أثقال مفهمته وتعريفاته الاجتماعية- نحو الانهيار النفسي والاعتراف.
"ناجيات" كتاب يروي قصص بعض الناجيات
كتاب "ناجيات: شهادات حقيقية لناجيات سوريات من معتقلات نظام الأسد"، هو واحد من الكتب التي تتضمن سرداً وحديثاً نسوياً لناجيات من سجون النظام الأسدي.
تُظهر شهادات الناجيات في هذا الكتاب بأنّ عناصر النظام الأسدي وجهوا لهنّ العديد من التلميحات القذرة المتعلّقة بأجسادهنّ، وأنّ هذه التلميحات كانت تبدأ بوصولهنّ إلى فروع السجون ما إن يدخلنَ في غرف التحقيق أو حتى في مراحل قبلها، وقد ترافقت مع ممارسة شكل من أشكال التفتيش العاري والمهين لهنّ، والذي لا يحترم خصوصيتهنّ وأجسادهنّ، وكأنّ تلميحات سجانيهم وممارستهم مع أجسادهنّ، وإن تنوّعت وتعددت، إلا أنّها في مجملها تحمل أبعاداً جنسية، وتَستبطن إشارات واضحة بعدم وجود حرمة لتلك الأجساد، لأنّها أجساد مدنّسة وموصومة بصفات الدنس والنجاسة والخطيئة والعار الملاصق.
تكشف شهادات الناجيات بأنّ عناصر النظام الأسدي لم يكتفوا بتوجيه التلميحات لهنّ بالتعرّض لأجسادهنّ، فقد تعرّضّت العديد منهنّ لحوادث اغتصاب وحشية، كان البعض منها يحدث بشكل جماعي، ويترك المعتقلة التي تعرّضت له في حالة جسدية ونفسية مريعة.
تصف إحدى الناجيات حادثة اغتصابها من قبل واحد من المحققين وتقول: "ما أغبى من يقول ألا امرأة يُمكن لها أن تُغتصب بإرادتها.. ما أغباه وما أجهله. أنتَ تشاء أو لا تشاء.. لكنك تشاء على كل حال إذا شاء المحقق. كأنَّ لكَ إرادة أخرى ماضية فوق إرادتك تجيرها حيث تشاء دون أن تسلبكَ إرادتك، فتسلبك قدرتك على المقاومة أو الاعتراض، وتفعل ما تشاء تلكَ الإرادة حتى حين ترفضها".
لا يُمكن لأولئك الناجيات المحرّرات من سجون النظام أن يعشنَ حياة طبيعية في مجتمعٍ أبويٍّ يقاضيهنّ على الاغتصاب كأنّه ذنب نتيجة فعل خاطئ ارتكبنه بإرادتهنّ، وهنّ مسؤولات عنه، مع أنّه قائم بالأساس على فكرة سلب الإرادة
"هل فعلوا بكِ شيئاً؟"
اليوم مع تحرير المئات وربّما الآلاف من المعتقلات السياسيات من سجون نظام الأسد، سيكون هناك سؤال سيقابلنَ به من قبل آبائهنّ وعائلاتهنّ بعد خروجهنّ من تلكَ السجون، وهو سؤال: "هل فعلوا بكِ شيئاً؟"، وهذا السؤال لن يأتي ليستفسر عن صنوف العذابات الجسدية التي كنّ يلاقينها، من شبح وضرب وصعق بالكهرباء وقلع للأظافر وغيرها، بل سيوجّه إليهنّ ليستفسر عن مدى تعرضهنّ لأشكال العنف الجنسي من تلميح وتحرّش، وصولاً للاغتصاب.
وفي متن هذا السؤال ستكون أجسادهنّ هي السبب في النبذ الذي سيتعرّضن له من عائلاتهنّ ومحيطهنّ بعد الخروج من أقبية السجون التي اعتقلنَ فيها، لأنّ فرضية اغتصاب اجسادهنّ ستخرج في منطق العديد من معارفهنّ ومحيطهنّ، من احتمالية يُمكن أن تحدث أو ألا تحدث، وتتحوّل إلى حقيقة مؤكدة.
لا يُمكن لأولئك الناجيات المحرّرات من سجون النظام أن يعشنَ حياة طبيعية في مجتمعٍ أبويٍّ يقاضيهنّ على الاغتصاب كأنّه ذنب نتيجة فعل خاطئ ارتكبنه بإرادتهنّ، وهنّ مسؤولات عنه، مع أنّه قائم بالأساس على فكرة سلب الإرادة، وبعيداً عن استراتيجيات إعادة الاندماج الاجتماعي الكثيرة المطلوبة من المجتمع المحيط بهنّ لإعادة دمجهنّ به وتفعيل أدوارهنّ ضمنه، لا بدّ أن يتحرّر المجتمع السوري من أبويته، ومن الفوبيا الجماعية التي يحتويها ضمنياً سؤال: "هل فعلوا بكِ شيئاً؟"، وهي الفوبيا التي ما أن تصيب مجتمعاً ما حتى تجعله يتطلّع إلى جسد المرأة باعتباره هاجسه الأوحد والوحيد.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
Husband let me know -
منذ يومهلا
Husband let me know -
منذ يومهلا
مستخدم مجهول -
منذ يوملا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ 4 أيامأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ 6 أياملا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ أسبوعمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...