شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ساهم/ ي في صياغة المستقبل!
بعد أن عزفوها سرّاً في سجن صيدنايا… موسيقيون سوريون يطلقون العنان لألحانهم

بعد أن عزفوها سرّاً في سجن صيدنايا… موسيقيون سوريون يطلقون العنان لألحانهم

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

ثقافة نحن والمشرّدون

الأحد 1 ديسمبر 202403:56 م

هل يتحرر المعتقلون/ات فعلاً بعد خروجهم/ن من السجن؟ أم أن هناك خلف دفء الحضن الأول الذي يجمعهم بأفراد العائلة، وعلى ثغر الابتسامة الذي التقطه وميض الكاميرا، معركة أخرى يخوضها الناجون/يات من المعتقل؟ معركة يحاول فيها الناجون والناجيات اقتلاع قضبان السجن من أرواحهم، بتحويل تجربتهم إلى محتوى ثقافي يتخذ شكل رواية، أو قصيدة، أو معزوفة موسيقية، أو لوحة فنية.

ففي برلين، استعاد ستة موسيقيين سوريين هم: أسعد شلاش، وإبراهيم بيرقدار، وكسرى كردي، وهيثم القطريب، وحسن عبد الرحمن، وعدنان حسن، ذكرياتهم في سجن صيدنايا، أحد أشهر المعتقلات السياسية في سوريا، حيث أمضوا فيه سنوات عجافاً فترة الثمانينيات والتسعينيات من القرن الماضي، والتي ترجموها إلى أغانٍ وألحان تمكنوا من تأليفها سرّاً خلال فترة اعتقالهم.

بعد ثلاثين عاماً وهجرة إلى أوروبا، تمّكن العازفون الستة من إعادة إنتاج موسيقاهم التي عزفوها يوماً على آلات موسيقية بدائية صنعتها أيديهم سرّاً في هذا السجن الرهيب سيئ السمعة.

وتعد هذه الأمسية الفريدة هي باكورة فعاليات منتدى المشرق والمغرب للشؤون السجنية، وهو مشروع متخصص في ثقافة السجون في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا والمنبثق عن مركز "أمم" للأبحاث والتوثيق، لم تستعد الأغاني والألحان فقط، بل عمد العازفون الستة على استعادة شكل الأدوات التي صنعوها، ما ضاعف من أثر الأمسية.

عمد العازفون الستة على إعادة إنتاج الآلات الموسيقية التي صنعوها في صيدنايا باستخدام بقايا الطعام وغيرها من المواد البسيطة، من بينها عود مرّبع الشكل، تماماً مثل مربع الزنزانة، متيحين للحضور فرصة الاستماع إلى أصداء موسيقى تسللت من عتمة السجن.

الموسيقى "في" الصندوق

من السهل أن نتخيل صندوقاً للموسيقى، آلة جميلة مزيّنة بالرسومات، ما أن ندير مفتاحها حتى تخرج من غطائه راقصة باليه تفيض بهجة، إلا أن ما قدّمه العازفون الستة من ألحان خرجت من صندوق آخر، فقد عمدوا على إعادة إنتاج الآلات الموسيقية التي صنعوها في صيدنايا باستخدام بقايا الطعام وغيرها من المواد البسيطة، من بينها عود مرّبع الشكل، تماماً مثل مربع الزنزانة، متيحين للحضور فرصة الاستماع إلى أصداء موسيقى تسللت من عتمة السجن.

ورغم أن الألحان جرى عزفها على آلة العود، إلا أن الألحان المعزوفة على العود المرّبع المصنوع يدوياً والشبيه بصندوق، كان أكثر تعبيراً عن فحوى التجربة، فاللحن نفسه كان حاضراً كتجربة مكثّفة لها صوتها الشبيه  بأصداء أنين خافت.

ألحان وراء القضبان

كما أعلن الموسيقيون الستة عن تشكيل تجمع "ألحان وراء القضبان"، يهدف إلى استقطاب الموسيقيين/ات من المعتقلين/ات السابقين/ات، ولإحياء أنشطة موسيقية، والدفاع عن الفنانين/ات المعتقلين/ات، وضم كل الفنانين/ات الذين ناضلوا/ن بفنهم/ن من وراء الزنازين.

وبدأت فكرة المبادرة ، بعد أن قرأ إيلاف بدر الدين، وهو بروفيسور مساعد بجامعة ديفيدسون الأمريكية، مقالة بعنوان "على مقام الصَبا، موسيقى سجن صيدنايا"، لـمالك داغستاني، وعظيم الأثر الذي أحدثته المقالة،  فقد حوّل بدر الدين ما ورد فيها إلى مشروع مستقل يعنى بتوثيق هذا النوع من الفن بوصفه سرداً تاريخياً هاماً، استطاع الوصول إلى 16 فناناً جرى اعتقالهم في السجون السورية بتهم سياسية مختلفة، وتوثيق 34 عملاً فنياً بين لحن وأغنية، في الفترة ما بين 1978 إلى 1996، بالإضافة إلى إعادة تصميم الآلات الموسيقية التي صنعوها في السجون من مواد بسيطة، بهدف إعادة تصنيعها والعزف عليها، ما منح العمل الفني أصالته وهويته الحقيقة.

كما كشف بدر الدين لـرصيف22، أن هذه المبادرة استطاعت أن تجذب العديد من المعتقلين والمعتقلات السابقين/ات، الأمر الذي سيوسع من مداها ويمنح توازناً جندرياً للقصة الموسيقية في السجون السورية، وغيرها من السجون العربية الأخرى.

سوريون يعزفون في برلين

ترميم الذاكرة

كان للغة الكردية نصيب من الفعالية للحديث عن تجربتها في السجن، فهذه اللغة التي يتم محاربتها ويعاقب من يتعلّمها بالسجن والاعتقال والملاحقة، استطاعت أن تعبّر عن نفسها بشكل أغنية، بوصفها جزءاً من ذاكرة المعتقلات السورية، وكذلك جزءاً من الهوية السورية.

وفي إطار العمل على المشروع، أكد بدر الدين أن عملية الوصول إلى الفنانين والتعامل مع ذاكرتهم لم تكن مهمة سهلة على الإطلاق، خاصة أن الفنانين منتشرون في أوروبا، وكانت عملية البحث عنهم والتواصل معهم وإقناعهم بالمشروع، الذي يستدعي الكثير من الألم، مهمة صعبة. ويصف بدر الدين المشروع بأنه جزء من توثيق السرديات، لا فتًا إلى أن "الأغنية والموسيقى جزء من التاريخ المحكي، الذي علينا توثيقه".

كما كان للغة الكردية نصيب من الفعالية للحديث عن تجربتها في السجن، فهذه اللغة التي يتم محاربتها ويعاقب من يتعلّمها بالسجن والاعتقال والملاحقة، استطاعت أن تعبّر عن نفسها بشكل أغنية، بوصفها جزءاً من ذاكرة المعتقلات السورية، وكذلك جزءاً من الهوية السورية.

الألم المتكدّس في برلين

بدورها، أكدت مونيكا بورغمان، المسؤولة عن مركز أمم الذي تأسس عام 2018 بهدف توثيق التجارب السجنية في المنطقة وفق الأطر الأكاديمية، أن المشروع يأتي ضمن سياق سلسلة "فهم السجون"، وهي مبادرة أطلقها أمم في محاولة لتشريح ديناميكيات السجون في سوريا، القديم منها والمعاصر، موضحة أن الأمر لن يقتصر على حدود سوريا ، بل سيشتمل على دول أخرى.

كما شرحت بورغمان، أن سبب وجود أمم في العاصمة الألمانية برلين، يعود إلى تواجد العديد من النشطاء/ الناشطات فيها، إذ تحوّلت برلين إلى تجمّع للاجئي/ات الربيع العربي، اللذين/اللواتي اضطروا/اضطررن لترك بلدانهم/ن، إلى جانب غيرها من مؤسسات المجتمع المدني لبدء مرحلة جديدة، وكان من بين الفارين إلى ألمانيا مشروع أمم نفسه.

أهدت بورغمان الفعالية لزوجها، لقمان سليم، وهو كاتب وناشر لبناني ومؤسس أمم اغتيل عام 2021 بأربع رصاصات في لبنان، متسائلة في معرض كلمتها في افتتاح الفعالية: "كيف بإمكان العدالة والمحاسبة في سوريا أن تغير المنطقة والعالم؟ مشددة على أن تحقيق العدالة والمحاسبة في سوريا كان من الممكن أن يكون بداية لإنهاء العنف والحروب التي تشهده المنطقة الآن".

وفي ختام كلمتها، أوضحت بورغمان أنه تم تأجيل الفعالية أكثر من مرّة بسبب ما يجري في غزّة، معتبرة أنه "لا يصح أن نتحدث عن انتهاكات في سوريا ومصر ونتغاضى عن الانتهاكات الإسرائيلية".

سوريون يعزفون في برلين

غياب العدالة... غياب الجسد

على هامش الفعالية، ناقش مجموعة من الحقوقيين/ات مسألة غياب المحاسبة في سوريا وأثر ذلك على ميزان العدالة في المنطقة. وأدارت الجلسة بينتي شيلر، رئيسة قسم الشرق الأوسط وشمال إفريقيا في مؤسسة هاينريش بول، التي حاورت كلاً من ياسين الحاج صالح ، كاتب ومؤلف سوري، ولين معلوف من مكتب المبعوث الخاص للأمم المتحدة إلى سوريا، وجمانة سيف من المركز الأوروبي للحقوق الدستورية وحقوق الإنسان.

وركز الحوار على التاريخ الطويل للسجن والتعذيب وانتهاكات حقوق الإنسان في سوريا والأبعاد الجديدة لهذه الديناميكيات التي أخذت أشكالاً وأساليب مختلفة عقب ثورة 2011، إلى جانب الحديث جدلية السجن والمنفى وإمكانية توظيف الجهود بما يكفل تحقيق العدالة للناجيين/يات من المعتقلات السورية.

وصف الكاتب ياسين الحاج صالح في معرض مداخلته بلده سوريا بأنه 'فردوس للإفلات من العقاب'، معتبرًا إياها النموذج الذي جرى تعميمه في الشرق الأوسط، واستطاعت إسرائيل الاستفادة منه لتبرير انتهاكاتها.

ولفت الحاج صالح إلى قضية مصير أجساد المعتقلين قائلاً: "تم تغييب من بين 15 إلى 17 ألف معتقل في سجن تدمر، تمت تصفيتهم إما بالإعدام أو التعذيب فترة الثمانينيات والتسعينيات، ولم يعرف مصير جثامينهم حتى الآن".

سوريون يعزفون في برلين

اقتصاد المسلخ البشري

ووصف الحاج صالح سجنَ تدمر، الذي قضى فيه 16 عاماً من شبابه بتهمة الانضمام إلى الحزب الشيوعي، بأنه "مسلخ بشري، مستعيداً وصف منظمة العفو الدولية لسجن صيدنايا بأنه المسلخ البشري للسجن.

وبحسب الحاج صالح، لم يعد المسلخ البشري محصورًا داخل حدود السجن، بل امتد ليشمل كامل التراب السوري. وأشار إلى ظهور ما يُعرف بـ'بزنس المسلخ البشري'، حيث يطلب مديرو السجون من ضباط وعناصر الشرطة مبالغ طائلة من أهالي المعتقلين مقابل تقديم معلومات عن ذويهم. أما الإفراج عن المعتقلين، فقد تصل تكلفته في كثير من الأحيان إلى 100 مليون دولار.

التعنيف بالوصمة

بدورها، أضاءت جمانة سيف، المحامية والناشطة النسوية على معاناة النساء في المعتقلات السورية، قائلة: كما الرجال، هناك نساء شجاعات رفضن الرضوخ ودفعن أثماناً كبيرة، وقضين سنوات في الاعتقال بالإضافة للوصم، الذي يعتبر عنفاً مجتمعياً، إلا أن النظام السوري منذ السبعينيات وحتى الآن استخدم النساء أيضاً كرهينة ووسيلة للانتقام من مجتمعاتهن ومن الذكور القريبين منهن، بعضهن طفلات، وهناك نساء اعتقلن مع أطفالهن".

وبينت سيف، التي تعمل كمستشارة قانونية في برنامج الجرائم الدولية والمساءلة في المركز الأوروبي للحقوق الدستورية وحقوق الإنسان، :"العنف والتعذيب الذي واجهته النساء بالإضافة للعنف الجنسي، ثبت استخدامه بشكل ممنهج وبشكل واسع النطاق كجريمة ضد الإنسانية، وهو أمر ليس بالجديد. هناك شهادات موثقة تثبت وقوع نفس الانتهاكات وبنفس الطريقة على مدى الأعوام كوسيلة لقمع المعارضين/ات السياسيين/ات".

وعن تجربتها مع النظام السوري في هذا المجال، استذكرت سيف قضية رفعتها كلٌّ من من ‏كندا وهولندا العام الماضي ضد سوريا لإخلالها بـاتفاقية مناهضة التعذيب في تشرين الثاني/نوفمبر 2023، وعلى سوريا أن تلتزم به بعد أن تجاوز عدد الضحايا الـ80 ألف قتيل، إلا أنه تم تجاهل الأمر برمته.

كما طالبت معلوف بضرورة دعم تحالف عائلات المفقودين/ات والمختفيين/ات قسرياً، والذين يصل عددهم إلى 110 شخصاً، مشددة على أن "هناك مسؤولية علينا لدعم العائلات والناجين/ات، والعمل والضغط من أجل العدالة".

ويستعد منتدى المشرق والمغرب للشؤون السجنية، لتنظيم فعالية في برلين خاصة بالتعبير الثقافي للمعتقلين/ات من مصر، المقرر تنظيمها مع شركاء المنتدى في هذا المشروع وهم: منظمة ميديكو إنترناشيونال، وجامعة هابيل أم أوفر.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

بالوصول إلى الذين لا يتفقون/ ن معنا، تكمن قوّتنا الفعليّة

مبدأ التحرر من الأفكار التقليدية، يرتكز على إشراك الجميع في عملية صنع التغيير. وما من طريقةٍ أفضل لنشر هذه القيم غير أن نُظهر للناس كيف بإمكان الاحترام والتسامح والحرية والانفتاح، تحسين حياتهم/ نّ.

من هنا ينبثق رصيف22، من منبع المهمّات الصعبة وعدم المساومة على قيمنا.

Website by WhiteBeard
Popup Image