السابع من كانون الأول من عام 2024، ليلة السقوط الأهم في التاريخ السوري الحديث، لقاء بالصدفة مع أحد أصدقاء الدراسة في إحدى كافيهات مدينة طرطوس، حينها لم تكن هيئة تحرير الشام قد دخلت حمص بعد.
-"شو الوضع؟".
- "أنو وضع يا غالي؟ بسلامة راسك، خالصة الأمور"
- "بس خايف من يلي جاي"
- "لا لا، أنا متفائل، باين الجماعة مو مدورين على الانتقام".
أوصلته إلى منزله ليلاً، التفت إليّ: "معقول يكون هاد آخر مشوار إلنا بطرطوس"، طمأنته: "الوضع سيتحسن، أنا متفائل، قد تحدث بعض الفوضى وهذا طبيعي".
صباحية السلاسة غير المتوقعة
صباحية السقوط، الثامن من كانون الأول، احتفالات جوالة بالسيارات، إشارات النصر، الأفران تعمل كالمعتاد، الناس عائدون إلى منازلهم يحملون الخبز على سواعدهم.
علم الثورة للمرة الأولى مرفوعاً في طرطوس المدينة، رغم موقفي النهائي ضد النظام منذ سنوات، لكنّ منظر العلم لا يزال يخيفني، ربما هي فوبيا هذه الدرجة اللونية من الأخضر، لكنني سأتعامل مع الموضوع بطريقة ما، المهم هو البلد وسلامة الناس، والبلد أغلى من أي علم.
الأسف يعتصر القلوب على شبابٍ مثل الورد سقطوا على جبهات حلب وحماة قبل أيام، ولم يشهدوا تلك اللحظات. حزنٌ عميق سيبقى في صدور الأمهات وقد أدركوا أنه كان يستعملهم ليبقى على كرسيه
مرّت الأمور بسلاسة غير متوقعة، وكما قال لي أحد التجار: "ما حدا أكل كف بالمحافظة كلها". انقلاب ناعم، وتحرير أنيق بأقل قدر ممكن من إراقة الدماء السورية. هذا كان رأي كثيرين، وقد خالفت الأحداث افتراضاتنا وأحكامنا المسبقة، حتى أشد المتفائلين لم يتوقع هذا السقوط النظيف في الساحل، ولكنّ الأسف يعتصر القلوب على شبابٍ مثل الورد سقطوا على جبهات حلب وحماة قبل أيام، ولم يشهدوا تلك اللحظات. حزنٌ عميق سيبقى في صدور الأمهات وقد أدركوا أنه كان يستعملهم ليبقى على كرسيه، لكنّ رؤيتهن لسوريا تمشي في طريق التقدم، والتحسّن الذي سيفرضه رفع العقوبات وانفتاح البلد على الخارج، ربما يخفف الحزن قليلاً.
ذهول كبير
الذهول وعدم التصديق كانا العلامة البارزة، إضافة للارتباك، فتسارع الأحداث كان أقوى من قدرة غالبية الناس على الاستيعاب. الخارجون من السجون يحملون أكياس أغراضهم وبؤسهم على وجوههم. شابٌ خمسيني يرتدي جاكيت أحمر يحاول إيقاف أي سيارة لتقل والدته أو زوجته التي كسرت ساقها، وهي ملفوفة ببطانية على قارعة الطريق. يقترب منه مراهق معه "روسية"، فيطلب منه الخمسيني أن يزيحها جانباً ويحاول ثنيه عن استخدامها بالكلام والأيدي. بتنا نكره البنادق، نحن السوريين لا نحبها.
تصرفات "الهيئة" إيجابية لحد اللحظة في محافظة لها حساسيتها العالية في الحرب السورية، والانطباعات لدى السكان تتراوح بين الإيجابية والمرتبكة، والأولى أوضح من الثانية، فالجميع تقريباً قد بدّل الصور على صفحات التواصل الاجتماعي إلى العلم الجديد، في إشارة واضحة للرغبة في الانخراط في الحياة الجديدة، وقد تفاجأنا بأنّ هيئة تحرير الشام والقوات المنضوية تحتها، كانت أكثر رحمةً بشبان الساحل، ممن ظنناه "متلنا" و"منا وفينا". هذه صدمة آمل أن تهز العقل لتكسر تلك القوقعة المحيطة به.
وللأمانة، فقد روى لي أحد الأصدقاء أنّ أحد عناصر الهيئة قد أوقفه في الطريق، وأعطاه "كروز دخان ماستر" كهدية، وآخر ذكر أمامهم أنه يعاني من نقص توفر البنزين، لينزل له من سيارة الدفع الرباعي "بيدوناً" -حوالي عشرين لتراً- من البنزين.
صالح العلي... فرِحاً
مقر محافظة طرطوس، ومقر الحزب البائد والصور الممزّقة، عند دوار "الشيخ صالح العلي"، بضعة سيارات تجر تمثال حافظ الأسد بلون أخضر كامد، يركب عليه شخص، وأجواء الفرح واللاخوف تسيطر على المشهد. هناك من يحتفل وهناك من يراقب في ذهول.
ولم يقترب أحد من تمثال "الشيخ صالح العلي"، وقد بقي راكباً على حصانه يراقب تلك الاحتفالات. تخيلتُ الرضا في عينيه، وهو مطمئن أن سوريا قد تحرّرت من جديد، وقد كُسرت أقوى الأغلال في وجه الحل الذي يسعى لبناء الدولة التي كان يحلم ببنائها، وهي دولة "تسامى بنوها فوق دينٍ ومذهبِ".
ثم أصطدم بصديق البارحة وأنا أقطع الطريق. يسلم عليّ وقد بان عليه ارتياح في الملامح، على نقيض قلق البارحة. نصحني بأن أذهب من الطريق الفرعيّ، بسبب فوضى رصاص الاحتفالات: "في واحد هلق كانوا عم يقنعوه ما يرمي القنبلة"، وعلى ما يبدو أنّ النظام تغيّر ولكن بعض المشاكل لم تتغير.
التعفيش من جديد
يحاذي الطريق الفرعيّ مركز خدمة المواطن، وهنا رأيتُ شاباً أسمر اللون يرتدي بلوزة سوداء وبنطالاً أسود (ألوان تتيح له ألا يترسّخ في الذاكرة)، يحمل شاشة حاسوب مكتبي مع الماوس ولوحة المفاتيح، تنتظره سيارة، وقد لحقه شاب آخر يحمل كيساً أبيض ممتلئاً، مستغلين حالة الفوضى النسبية التي كانت تسيطر على المشهد.
في شارع "المينا" العريق في طرطوس، يوجد بعض الرجال من سكان الحي يتبادلون التهاني والتبريكات، نشوة نيرفانية عميقة. "لقد سقط": يقولها بفرحٍ عميق وكأنه لا يصدق ما يقول. فتيةٌ صغار استولوا، بطريقة ما، على "روسيات" يفرغونها بطريقة عشوائية، هنا وهناك.
كان الثامن من كانون الأول أفضل يوم في حياة السوريين، موالاة كانوا أم معارضة، ويوماً سيئاً لفئة قليلة، هو اليوم الذي تكلمت فيه الموالاة قبل المعارضة بلسان مي سكاف: "إنها سوريا العظيمة وليست سوريا الأسد"
ومن أمام مبنى الجمارك، تجمّعت بضع سيارات بيك آب، وشبان ورجال يحملون أرائك تبدو عليها حالة الاستعمال، وكراسي مكتبية، تعفيشٌ صريح لأثاث "الدولة السابقة"، وقد دخل آخرون إلى مبنى الجمارك نفسه، وعفشوا كل الدراجات النارية المصادرة، وقد أكد لي بعض الأصدقاء أن المرفأ تم نهبه، وقد شاهدهم يحملون الشاشات وكل ما يمكن سرقته.
تغيرت الحياة
تغيرت حياتنا على نحو دراماتيكي، الهاتف الذكي الذي اشتريته منذ ستة أشهر بمليونين وستمئة ألف ليرة سورية، ولم أقم "بجمركته" لأنها كانت تعادل أكثر من نصف ثمن الجهاز، ما كنت أعتبره سرقة مقوننة، أصبح اليوم يقبل شريحة اتصال دون دفع أتاوة.
وأصبحتُ أحمل جهازاً واحداً وليس جهازين، ولم تعد هنالك بطاقة ذكية تحصي لنا سعراتنا الحرارية، ليس من أجل تنظيم الدور وتخفيف الزحام كما يروّج، وإنما من أجل أن يتسنى لهم سرقة أكبر قدر ممكن من حقوقنا وطعامنا، ودفتر الجيش أو ورقة التأجيل التي يجب أن نحملها أينما ذهبنا وأينما سافرنا، ولو كان السفر ضمن الحي نفسه، فكثيراً ما كانت تتعطّل حياتنا بسبب نسيان البطاقة الذكية أو أحد الهاتفين أو أحد شواحنهما.
صحيح أنها تبدو أموراً صغيرة، وقد يعتبرها البعض تافهة، لكنها كانت تعطل إنتاجيتنا وتعيق أي مسيرة تطورنا كأفراد، وبالتالي كمجتمع، وسنكتشف مع الأيام أنّ النظام السابق قد حولنا لراكضين خلف لقمة الخبز ولقمة الكهرباء ولقمة الحياة، سنشعر بذلك مع انكسار رموز وقيود وتماثيل النظام البائد، وقد تظهر مشاكل جديدة بطبيعة الحال، ولكننا سنكون قادرين على مناقشتها وحلها على أرض وطننا.
وحتى لا نبتعد كثيراً عن نشوة الانتصار، كان الثامن من كانون الأول أفضل يوم في حياة السوريين، موالاة كانوا أم معارضة، ويوماً سيئاً لفئة قليلة، هو اليوم الذي تكلمت فيه الموالاة قبل المعارضة بلسان مي سكاف: "إنها سوريا العظيمة وليست سوريا الأسد"، وها هو ميشيل كيلو ينظر من السماء بسعادة غامرة، يراقب ذلك الطفل وقد خرج من المعتقل، يلعب مع العصفور، ويتعرّف على "السجرة" للمرة الأولى، وكأنّ ابن العم قد رسم مشهد الخلاص هذا ببذور الزيتون التي كان يجمعها من وجباته، خلال سجنه في المنفردة، ستة عشر عاماً قضاها رياض الترك دون أن يتكلم كلمةً واحدة، واليوم يتكلم ما يريد بلسان ملايين السوريين الأحرار.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
نايف السيف الصقيل -
منذ يوملا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 4 أياممقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...
Nahidh Al-Rawi -
منذ 6 أيامتقول الزهراء كان الامام علي متنمرا في ذات الله ابحث عن المعلومه
بلال -
منذ 6 أيامحلو
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 6 أيامالمؤرخ والكاتب يوڤال هراري يجيب عن نفس السؤال في خاتمة مقالك ويحذر من الذكاء الاصطناعي بوصفه الها...
HA NA -
منذ أسبوعمع الأسف