شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

انضمّ/ ي إلى ناسك!
هل ثمة قصة خفية لفكرة ما بعد الموت في سوريا القديمة؟

هل ثمة قصة خفية لفكرة ما بعد الموت في سوريا القديمة؟

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

ثقافة نحن والتاريخ نحن والحقيقة

الثلاثاء 4 يوليو 202301:30 م

كما حدث مع جميع السوريين الذين يملكون حصتهم من الخبرة في واقع الموت وثقافته في أثناء الحرب، جاء الزلزال (شباط/فبراير 2023) ليقدِّمَ قيمةً إضافيةً إلى تلك الخبرة الخاصة بالموت، ممتحناً معناه في وجداننا الاجتماعي العام، وممتحناً ذاتي وتجربتها الخاصة في الموت الذي كنت فيه على أعلى قمة من قمم الذل الإنساني، وهي قمة العجز والانتظار. فهل أستطيع ان أسجّل قصة فكرة الموت بموضوعية المؤرخ؟ 

الرفض والخوف

عاش الإنسان منذ آلاف السنين دهشةً أمام قطبَي الحياة: الولادة والموت، وأمام قبول الإنسان لواقع الولادة وممارسته ابتكارات ذهنيةً ونفسيةً تنمّ عن قبوله بالولادة وسعادته بها. رفض الإنسان نفسه أن يكون الموت نهايةً للحياة، وظهرت معالم هذا الرفض في ابتكارات ذهنية ونفسية. ظهرت فكرة رفض الموت في طرائق دفن الموتى وطقوسها، فنجده يصبغهم باللون الأحمر ويضعهم داخل جرّة في باطن الأرض، كأنهم يعودون إلى رحم مماثل للحالة الجنينية، أو يدفنهم في المنزل، خاصةً تحت موقد النار، وربما لتأثير برودة جسد الميت على نفس المحبين من الأحياء. فالميت موجود في مكان وجود الأحياء أنفسهم أي "البيت".

تطورت نظرة الإنسان إلى الحياة بعد الموت مع تطور حياته بتعقيداتها الجديدة، فأصبح الأحياء يحتاجون إلى تطمينات أكثر تعقيداً، وهي تطمينات اختلطت بكل أحلام المجتمعات ومعاناتها وظروفها

بدأت تظهر فكرة دفن الموتى خارج أرضية البيت تدريجياً، ويصعب إدراك سبب هذه النقلة؛ فهل السبب هو اليأس الإنساني من عودة الميت؟ أو تطور مشاعر الفقد الخاصة للأحياء عند الموت، لذا لم يعودوا إلى دفن موتاهم معهم في مكان الحياة اليومية (البيت) نفسه؟ برغم صعوبة تحديد سبب هذه الطريقة الجديدة، لكنها تنمُّ عن تطور وجداني في مجتمعات تلك الحقب، وهي بالتأكيد تطور إلى يقين جديد بما يعنيه من أمل لدى الأحياء.

وُضعت مع الميت أدوات لترافقه في رحلته، وتمحورت الأدوات حول أمرين: أدوات الطعام وأدوات الزينة، وهما أمران لا شكّ في أنّهما منبثقان من تفكيرين مختلفين. أمّا التطور الأكثر خطراً في تلك العصور لدى بعض الثقافات، فكان وضع السلاح إلى جانب الموتى، إذ ليست قيمة السلاح التخيلية مع الموتى في رحلتهم ما يجب أن نستوعبه، بل قيمته الفعلية عند الأحياء في واقعهم كأحياء، وهو جزء من قصة الإنسانية المحزنة.

تطورت فكرة الدفن خارج المنزل لتصبح المدافن خارج المدن، أو على أطراف القرى (وهو أمر ما زال مستمراً إلى يومنا هذا)، كرمز أبَديّ للقناعة بخروج الميت من عالم الأحياء، ولكن مع استمرار القناعة بحياةٍ ما للميت بعد الموت، وكرمز أبدي للخوف من الموت ورفض لنهاية الحياة.

حياة الموتى والتناظرات

كانت حياة الموتى في عصور بداية الكتابة، في عالم يُدعى العالم السفلي. فكما كانت إلهة أنثى هي السبب في خلق الإنسان وولادته، وتُدعى في السومرية "ننخرساك"، وهي زوجة الإله "أنكي"، كانت هناك إلهة أنثى أخرى تستقبل الإنسان في العالم السفلي، وهي "أريشكيجال" (سيدة الأرض العظيمة)، ومن ألقابها "أخةُ ربية" (الأخت العظمى)، و"رَبَةُ صيرةُ" (الأميرة السامية)، و"شَرَّة آرصيةِ" (ملكة الأرض)، وأكثر ألقابها خطراً، "اللاة" وهو الاسم الذي يشبه اسم الإلهة اللات التي عُبدت عند القبائل في شبه جزيرة العرب.

وبغض النظر عن الخلاف بين المؤرخَيْن كريمر وياكوبسن على ترجمة كلمةٍ في لوح سومري عن الأسطورة التي تذكر في خاتمتها الصراعية بين "أنكي" وشيطان يُدعى "كر"، نزول هذه الإلهة لتحكم العالم السفلي، هل كان الأمر بمثابة فعل اختطاف أم أن أرض العالم السفلي كانت هديةً إليها كمهر لها؟ نرى التناظر الذي أحكم مشاعر الإنسان القديم، فمن رحم الأنثى حياةً إلى أحضان الأنثى موتاً، وهو تناظر عاش الإنسان القديم فيه ملامح النظام الأمومي في العالم السفلي، لأن بقايا مفاهيم المنظومة الأمومية كانت حاضرةً بقوة بين الأحياء.

شكّل نزول الإله "نرجال" إلى العالم السفلي (ويعني اسمه سلطة المدينة العظيمة)، ليتزعمه إلى جانب الإلهة "أريشكيجال"، تزايد أهمية النظام الأبوي، وتتعلق بهذا الإله ملاحظتان جديرتان بالانتباه: الأولى أن ألقابه السومرية والأكدية حملت مفاهيم الصحراء والنار ومغيب الشمس والمقدام بمعنى الفدائي والمندفع، ويمكن مراجعتها في كتاب نائل حنون "الحياة والموت في بلاد الرافدين". وقد حمل في السومرية 27 لقباً منها إله الصحراء والموقد المقدس والسائر في المقدمة وملك الصحراء وملك النخلة وملك نهر خبر وملك مغيب الشمس، أما في الأكدية فحمل 5 ألقاب منها الحامي أو الساخن والقاسي والحارق.

الملاحظة الثانية: عرف "نرجال" أنه من الآلهة الشمسية التي مثّلها في السومرية والأكدية الإله "أوتو" أو "شمش" باعتبارهما مصدر العدالة والقوانين، فالشمس هي النور الذي يطرد اللصوص والآثمين والأرواح الشريرة التي تستغل الظلام وتكشف الحقائق، إلا أن الشمس في منتصف النهار حين تصبح في وسط السماء مرسلةً أشعتها، خاصةً في فصل الصيف، فإنها تتخذ صفةً مغايرةً لصفة الإله "شمش" الخيّرة، فتتحول الشمس إلى مصدر أذى للحيوان والإنسان بحرارتها المرتفعة بسبب الحمى وضربات الشمس والأوبئة وتالياً الموت، فهنا جسَّد سكانُ ما بين النهرين القدماءُ الشمسَ، وهي في هذه الحالة والفترة، في "نرجال".

بالتأمل في ألقاب هذا الإله وعلاقته بالشمس في أقسى أوقاتها نتلمس أن مقدمات ابتكار النار كعذاب في مكان يُدعى الجحيم، كانت من هذه البدايات، وخاصةً لدى ثقافات تاريخية لم تكن تباينات الفصول فيها ظاهرةً بوضوح في أربعة مواسم في العام.

عاش في العالم السفلي الصالحُ والطالحُ الحياةَ الشبحية ذاتها، من دون أدنى تصور للعقاب أو الثواب، ولكن مرويات أنكيدو الذي رجع من العالم السفلي، وما أخبر صديقه جلجامش به عن مصائر القاطنين في الأسفل، تخبرنا عن نظرة المجتمع إلى العواقب الحيوية لحياتنا في الدنيا على عالم الموتى؛ فأخبار أنكيدو هي سلسلة من التشجيع على التكاثر، لأن ازدياد عدد الأولاد يعني زيادةً في طعام القرابين للميت وسواها من الامتيازات، فالذي له ستة أولاد "مثل حارثٍ مبتهج القلب"، والذي له سبعة أولاد "يجلس في وسط الإلهة الصغرى على كرسي ويستمع إلى الوقائع".

وكذلك تتضمن هذه الأخبارُ التشجيعَ على النظافة وتجنّب المرض والموت غرقاً أو بالسقوط من مرتفع أو عقوق الوالدين أو الموت دون إنجاب الأطفال. باختصار، حماية النفس وتمتعها بالحياة، فمصير هؤلاء بائس هناك. طبعاً يشترك الموتى قبل الأوان في كل الثقافات، في مصير حسن، فهم كما روى أنكيدو "مضطجعون في سرير المساء يشربون ماءً نقياً"، كما في ثقافتنا المعاصرة حتى، فيُعتقد أنهم عصافير أو ملائكة الجنة.

موتى المعارك والتناظر الخطر

نأتي إلى من مات قتيلاً في المعركة، وإجابة أنكيدو هنا خطيرة اجتماعياً، لأنها من جهة تمثّل وجهة نظر المجتمع تجاه هذا النوع من الموت، ومن جهة ثانية هي وصف محبط أو محفز قد يسيء إلى مهام الجنود في معاركهم التي تتطلب، وحتى وقتنا هذا، الشجاعةَ والحذر. كان الجواب ببساطة واقعياً لحال الأحياء: "أبوه وأمه يسندان رأسه وزوجته تبكي عليه". ويعقبه مباشرةً سؤال مدروس بحنكة عن جثمان الملقى في البرية، فـ"روحه غير مرتاحة في العالم السفلي". والسؤال مدروس لأن الكثير من الأمراض بحسب المعتقدات السورية القديمة، تسببها أرواحٌ لم يُدفن أصحابها كما يجب، وهذا بالتأكيد يشمل الجنود الموتى في المعارك ممن لم تُدفن أجسادهم كما تنص تقاليد دفن الموتى: "روحه غير مرتاحة في العالم السفلي".

يتحدث كتاب نائل حنون عن المدافن والمعابد، في الجزء الأول، ويروي عن شخص يرد اسمه في النصوص الآشورية ويُدعى "قردي آشور لامر"، وكان يمتلك أرضاً قرب آشور القديمة توارثتها عائلته، أنهم كانوا ملتزمين بإقامة الشعائر الجنائزية والقرابين لأرواح الملوك المدفونين وأرواح الجنود الذين يقتَلون في الحروب من الآشوريين، وأن هذا الالتزام استمر برغم انتقال العاصمة من آشور وبشكل نهائي.

نحن هنا أمام بداية مفهوم ومقدمة لما يسمى في وقتنا الحاضر "نصب الجندي المجهول"، وطبعاً لا بد من ذكر أن تقديم القرابين للموتى وآلهة العالم السفلي كان قضيةً نفعيةً تتعلق بالحياة نفسها، فبحسب نص أكدي يقول: "إنك تقدم القرابين الجنائزية من أجل الحقل الذي لا ينتج، وتقدّم القرابين الجنائزية من أجل الأقنية التي لا تجلب الماء"، أو "قدِّم القرابين الجنائزية فيحقق الإله إنليل رغباتك".

ما ذُكر على لسان أنكيدو يعبّر عن وجهة نظر المجتمع تجاه التعاطي مع حدث الموت، وهو تعاطٍ كان بالتأكيد أكثر اتساعاً كثقافة شعبية من حيث طبيعة العواقب مما ذُكر بشكل مبتسر في النص. لقد رفض المجتمع السوري الموت ولم يرَه كنهاية للحياة، بل هي مستمرة ولكن دون مسرّاتها من إنتاج الطعام والتكاثر مع الانتباه إلى ملاحظة أنكيدو عن المرأة التي لم تلد فهي "مثل قدر معاب ملقى جانباً، ولا أحد مستمتع بها". إذاً، ثمة لتلك الأشباح متع ما، ولكنها حكماً دون جنس وتكاثر، لأن عالم الموتى عندها يتحول ببساطة إلى عالم للأحياء، ويبدو أنها متع كتلك التي لمن له ستة أبناء "مثل حارث مبتهج القلب"، وهي أنواع من المتعة المعبرة عن طبيعة النفسية الإنسانية الخاصة بتلك الثقافة.

تمثّل النظرة الخالية من العقاب (العالم السفلي)، جزءاً من الموروث السوري الأول لمعنى الحياة، فهي في حقيقتها تعب وجهد، إذ عندما خُلق الإنسان بحسب الأساطير السورية القديمة "حمل عناء الآلهة"، وتالياً لا قيمة لأن يكون ما بعد الموت امتحاناً أو تمايزاً للصالح والطالح، بل القيمة في تصرفات وسلوكيات الأحياء بمعايير محدودة تمثل إنتاجهم في الحياة... أليس هذا هو جوهر الدين العميق؟

تمثّل النظرة الخالية من العقاب والثواب مرونة الأنظمة الحاكمة والمعابد والمجتمع التي بقيت على هذا المنوال آلاف السنين. فهذه العواقب جزء من منظومة كاملة للحفاظ على فضائل الشعوب أمام مواقف الحياة القاسية، والموت جزء منها، بل أقساها؛ فالعالم السفلي الذي رفض فيه الإنسان السوري القديم أن يكون الموت هو نهاية الحياة، هو صورة الحياة في قضاياها الوجودية الخاصة. إنها ذلك الزمن الجميل الذي لم يكن أي نوع من الآخر يمثّل شرّاً أو رذيلةً لا بد من سحقها ولو معنوياً في عالم الموتى.

التناظرات المطمئنة

تطورت نظرة الإنسان إلى الحياة بعد الموت مع تطور حياته بتعقيداتها الجديدة، فأصبح الأحياء يحتاجون إلى تطمينات أكثر تعقيداً، وهي تطمينات اختلطت بكل أحلام المجتمعات ومعاناتها وظروفها.

عاش في كل عصور الإنسانية أشخاص اتفقوا على إنكار الحياة بعد الموت، ولم يتحول هذا النكران إلى عقيدة اجتماعية، وبقي حالةً فرديةً.

تتحدث الزرادشتية القديمة، وقد تبنّى ماني البابلي مقولاتها خالطاً فيها المسيحية، عن أن الإنسان الصالح المتوفّى يصادف ذاته السامية على شكل فتاة جميلة في الربيع الخامس عشر من عمرها، وتخبره بأنها هي روحه. دُعيت هذه الفتاة السماوية، والتي تجسد أعمال الإنسان على الأرض في الزرادشتية باسم Kunisn، أي سلوك الميت، ودُعيت أعمال الإنسان الصالح باسم كنز السماء. أما في ما يتعلق بغير الصالحين فكان التقمص هو عقيدة ماني.

يتحدث الصابئة، بحسب كتاب "الصابئة المندائيون" لـ"الليدي دراووا"، عن عالم مثالي يوجد فيه لكل شخص من الأحياء شبيه، وعند وفاة الإنسان تغادر روحه جسمه الترابي ويلتحق بالجسم الأثيري لشبيهه وفي الجسم الأخير تعاني الروح آلام التطهير. فالموت إذاً موتان للإنسان وشبيهه، وجسدان أثيريان يلتحقان ببعضهما البعض، ويذكر نص لهم: "أذهب إلى شبيهي وشبيهي يأتي إليّ، يتذكرني ويحتضنني كما لو كنت خارج السجن".

غموض العقاب والثواب

تقدّم التوراة موت الإنسان كحدث مرتبط بأصلٍ هو الخطيئة التي قام بها آدم في الجنة، وتالياً حُرم من الخلود في الجنة وسيعاني الموت، مع ملاحظة أن تعابير التوراة عما بعد الموت جميعها لا تجعلها تتحدث عن نار وجحيم يعاقَب فيها المذنبون، بل الجنة فيه أيضاً ملتبسة، فهي مقدمة كفردوس أرضي عاش فيه آدم، وطبعاً لا نُدخل هنا ما كُتب في التلمود في الحسبان. هذا الغياب للجنّة والنار في حياة ما بعد الموت، أمر متوقع لأن التوراة كُتبت عبر زمن طويل، وفيها تُقرأ مؤثرات مشوشة لمفاهيم ما بعد الموت الموجودة لدى ثقافات المشرق القديم، خاصةً التي تتعلق بالعالم السفلي.

تتحدث الأناجيل الأربعة للمسيحية، وبلغة الأمثال والرمزية الشديدة عن ملكوت السماء التي يدخلها الصالحون، والظلمة الخارجية التي يُطرح فيها غير الأتقياء، ففي الظلمة الخارجية "يكون البكاء وصرير الأسنان"، ولكن عند التدقيق في مفهوم ملكوت السماء الذي يقترب، ويحضّ المسيح المؤمن على الدخول إليه، فإنه يبدو كحالة عرفانية وصوفية أو بتعبير نيتشه في كتابه "عدو المسيح"، "حالة قلبية"، وهو ما يتبناه مذهب الروم الأرثوذكس، بينما يتبنى المذهب الكاثوليكي مفاهيم المطهر والجنة والنار كعقاب وثواب، وهو تباين شاسع وكبير القيمة بين النظرتين إلى معنى الحياة وليس الموت. ثم جاء القرآن مؤكداً على فكرة العقاب والثواب بعد الموت.

إنكار الحياة بعد الموت

عاش في كل عصور الإنسانية أشخاص اتفقوا على إنكار الحياة بعد الموت، ولم يتحول هذا النكران إلى عقيدة اجتماعية، وبقي حالةً فرديةً. فالعالِم السوري ابن مدينة أفاميا بوسيدونيوس (135-51 ق.م)، الذي يقدّمه إحسان هندي في كتابه "شعراء سوريا في العصر الهيلينستي" والذي كتب في علوم متنوعة من فلسفة وفلك وجغرافيا وأعراق وتاريخ وفي الزلازل والأحوال جوية والرياضيات والمنطق والتكتيك في 52 مجلداً، كتب قبل وفاته قصيدةً وحيدةً "دعوة للنسيان": "لماذا أنا وُلدت؟ ومن أين أتيت؟ وكيف حدث أني موجود حيث أنا الآن؟ لا أعلم شيئاً، وكيف بوسعي أن أعلم أي شيء؟ أنا كنت لا شيء ومع هذا فقد وُلدت وقبل مضي مدة طويلة سأعود ثانيةُ إلى العدم. أنا لا شيء ودون أي قيمة. هذا هو مصير أي إنسان كما أرى. ولهذا املأ الأقداح بمزيج النبيذ الصافي ودعنا ننسى لأنه عن طريق النسيان فقط يمكن لنا أن نتحدى العدم".

يقدّم الساخر السوري لوقيانوس، وقد وُلد في القرون الميلادية، في عمله الأدبي "مسامرات الموتى"، وجهتَي النظر بخصوص الحياة بعد الموت كعالم سفلي دون عقاب، أو عالم فيه ثواب وعقاب، ويسخر ممن يعتقد بمكان لصالح وآخر لمذنب في المسامرة الخامسة والعشرين بين قاضي العالم السفلي مينوس وشخص آثم يرفض الذهاب إلى النار، ويريد الذهاب إلى جزيرة السعداء، ويُدعى وسوسترات، فهو يرفض أن يعاقَب على ما فعل لأن الربّة الأقدر "ميرا" نسجت له قدره، أي لم يكن مختاراً، والربة كلوثو التي تحدد لكل شخص ساعة ميلاده والأعمال التي يجب عليه القيام بها، فالطاغية هو المسؤول عن تنفيذ الجلاد أمره بقتل أحدهم، كما السيد المحسن مسؤول عن الإحسان الذي يرسَل إلى أحدهم، وليس العبد الحامل للمال.

يعترف القاضي مينوس بأنه يمكن تقديم منطقه بخلاف ما يريد الوصول إليه، ولكنه يعفو عنه، ويأمر هرمس بإطلاق سراحه من دون عذاب وعقاب، ويطلب منه ألا يعلّم الأموات الآخرين هذه الأسئلة. وفي منطقه حق قاله المعري:

إن كان مَنْ فعلَ الكبائرَ مجبراً/فعقابُه ظلمٌ على ما يفعلُ

وهناك الخليفة الأموي الوليد بن يزيد الذي رمى القرآن بسهم، وقوله المشهور:

إذا متُّ يا أمَّ الحُنيكل فانكحي/ولا تأملي بعد الفراق تلاقيا

فإن الذي حُدِّثته من لقائنا/أحاديثُ طَسم تترك العقل واهيا

النظرة إلى ما بعد الموت هي أحد أوجه قصة كرامة الأحياء في حياتهم اليومية والمغزى من وجودهم، وهو وجودٌ يصارع الإنسان في داخله الإنساني بعده الفيزيولوجي بمعناه الحيواني

كانت النقلة الإنسانية المهمة من تعداد الآلهة إلى التوحيد هي في النظرة إلى سلوك الآلهة أو الله، فقد جعل القدماء الآلهة تتصرف كتصرفاتهم الأخلاقية وغير الأخلاقية من دون طرح أي سؤال أو تقييم حول ماهية السلوك الآلهة: قويم هو أم غير قويم وحول قبول هذا السلوك؟ بينما نلاحظ مع اقتراب التوحيد الميل الإنساني إلى اعتبار الآلهة أو الإله كائناً فاضلاً فقط لا يمكن أن يصدر عنه الشر. كانت هذه النقلة إبداعيةً مع الزرادشتية بفكرة إله للخير وآخر للشر، ثم الانحياز مع المسيحية مثلاً إلى إله للخير وهو المحبة فقط، ثم العودة مع الإسلام إلى إله يملك الخير والشر في صفاته، فكما هي النظرة إلى الآلهة والله، نظرة المجتمعات إلى ذاتها وطبيعتها الإنسانية الحياتية اليومية، كذلك مثّلت ثقافة ما بعد الموت الحياة ذاتها التي تحياها الجماعة الإنسانية نفسها.

الإصرار الإنساني على الاستمرار بعد الموت شكّل قيماً أخلاقيةً عرفت أحوالاً من الرقي والانحطاط السلوكي الاجتماعي والفردي عبر التاريخ، وعاشت إلى جانب النظرات السابقة تقاليد وأفكاراً غريبةً، ففكرة تلقين الميت في الإسلام المحمدي، أو التفنن في قضية عذاب القبر على سبيل المثال، هي من المواضيع المحدثة، وتقدّم صورةً قاسية عن طبيعة الحياة التي عاشها الميت في مجتمعه.

النظرة إلى ما بعد الموت هي أحد أوجه قصة كرامة الأحياء في حياتهم اليومية والمغزى من وجودهم، وهو وجودٌ يصارع الإنسان في داخله الإنساني بُعده الفيزيولوجي بمعناه الحيواني، وبعده الروحي بمعناه النفسي، فهو يتذكر ويحتاج إلى جيناته بما يتجاوز ماضيه. 


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

WhatsApp Channel WhatsApp Channel

ألم يحن الوقت لتأديب الخدائع الكبرى؟

لا مكان للكلل أو الملل في رصيف22، إذ لا نتوانى البتّة في إسقاط القناع عن الأقاويل التّي يروّج لها أهل السّلطة وأنصارهم. معاً، يمكننا دحض الأكاذيب من دون خشية وخلق مجتمعٍ يتطلّع إلى الشفافيّة والوضوح كركيزةٍ لمبادئه وأفكاره. 

Website by WhiteBeard