تظهر مرويات عن تشكل الحياة في التراث الأسطوري لبلاد ما بين النهرين في النصوص المبكرة لبداية الكتابة والمتأخرة حتى القرن السادس قبل الميلاد، ولا يستطيع المؤرخ المنصف إلا أن يستغرب غياب الأسطورة الكنعانية التي تتحدث عن ذات الموضوع.
انخرطت مرويات بلاد النهرين في علاقات الماء العذب والمالح والالتباسات الكونية للانفصال (التكوين) بينهما، أما الأسطورة الكنعانية فقد رسمت ملامح لمجموعة من الآلهة المنخرطة في صراع عنيف جداً، وكأن تشكل الكون والحياة قضية تم التجاوز عنها أو بصراحة الصمت حولها. فكيف حصل وغابت الرواية الكنعانية عن خلق الكون والحياة في التراث الكنعاني الذي يمتد على كامل الساحل السوري من أوغاريت إلى غزة وسيناء؟
مشكلة التاريخ الكنعاني
تعرض التراث السوري الكنعاني لموجات تدمير رئيسية مع ما يسمى هجرة شعوب البحر (1200 ق.م)، ثم تدمير صور مع اسكندر المقدوني (332 ق.م)، ثم تدمير قرطاجة على يد الرومان (146 ق.م.). كان من الممكن الحصول من لقى ومعابد وقصور هذه الحواضر العريقة على قصة الشعب الكنعاني وآلهته، فنحن لا نعرف عن تاريخ الكنعانيين باعتبارهم مصدراً مباشراً إلا النزر اليسير، وهو يعتمد على مرويات المصريين واليونان والرومان والتوراة في تقديم المجتمع الكنعاني وحياته وأساطيره.
الأسطورة الكنعانية قد رسمت ملامح لمجموعة من الآلهة المنخرطة في صراع عنيف جداً، وكأن تشكل الكون والحياة قضية تم التجاوز عنها، أو بصراحة، الصمت حولها
أنهت التنقيبات المعاصرة بعض المسلمات المستمدة من مصادر غير كنعانية؛ فالكاتب فينفريد إلليغر في كتابه "قرطاجة، مدينة البونيين والرومان والمسيحيين" يتحدث عن المدن الكنعانية القديمة وتقسيمات شوارعها بحسب التنقيبات ويقر بأن "نظام الشوارع المتقاطعة لأزقة ليست ضيقة كثيراً، وتتسع أحياناً لتشكل ساحات صغيرة، مما لم يجعلنا نعثر على ساحات كبيرة أو أسواق لا في كركونه ولا موتيه (مستعمرات فينيقية"، وينطبق الأمر على مدن فينيقية أكبر بكثير كجبيل وصور وصيدا، وهو أمر غير واضح يحتاج إلى تفسير لأنه يناقض ما عرفناه من التوراة عن أسواق المدن الكنعانية وساحاتها الكبيرة.
أبعاد الأسطورة الكنعانية
يتفق الدارسون أن نصوص الأساطير الكنعانية (المكتشفة في أوغاريت) وآلهتها تمثل مظاهر الطبيعة في الخصب والجدب، وتأثيرهما في حياة الإنسان السوري على طول ساحل شرق المتوسط، فدورات الأمطار والسنوات العجاف مكرسة في أساطير علاقة بعل وصراعه مع موت ويم. ورغم صواب هذا الإجماع بين المؤرخين إلا أنه أقرب للكسل الدراسي منه إلى سبر أغوار الأسطورة الكنعانية التي تحتوي على مظاهر معقدة لطبيعة آلهتها تتجاوز تجليات مظاهر الطبيعة فقط.
وفي العودة مثلاً إلى المؤرخ شارل فيروللو الذي فك ألغاز الأوغاريتية في كتابه "أساطير بابل وكنعان"، تحدث عن أبعاد كونية وجغرافية ظاهرة في الأسطورة الكنعانية، فصراع بعل ويم مثلاً، يمثل الصراع الأبدي بين موج البحر والأرض على الشواطئ الصخرية، ومن دون نتيجة تشبه انتصار مردوخ النهائي على تيامات في المروث البابلي وما يعنيه هذا الانتصار.
ويتحدث أيضاً عن أبعاد تاريخية فربما يمثل الإله بعل صدى المعارك القديمة التي اضطر الكنعانيون لخوضها ضد الغزاة القادمين من الغرب وضد المصريين باعتبار أنّ الإله يم يمثل شعوب البحر، والإله بعل الذي لا يقدم الخبز والخمر فحسب، بل يعطي الذهب والفضة والأحجار الكريمة (أي ما يدخل في نطاق الغرامات التي يدفعها المغلوب للغالب)، وهو ما كان يبتغي الإله يم أخذه وما يريد الإله بعل الأحتفاظ به. يفضل المؤرخ شارل فيروللو التفسير التاريخي ويأتي كتابه في سياق هذا التفضيل.
أمام تعقيد أبعاد بعض الأسطورة الكنعانية التي عثر عليها في أوغاريت، وقلة ما نعلمه عن التراث الكنعاني من فم الكنعانيين وليس خصومهم، هل يعقل أن يكون التراث الكنعاني خالياً من أسطورة حول خلق العالم؟
من هو سانخونياتن؟
ينقل يوسف الحوراني نص سانخونياتن عن خلق العالم في كتابه "مجاهيل تاريخ الفينيقيين" كما نقلها المؤرخ والراهب المسيحي أوزيب البامفيلي (260- 339م) في كتابه "الاستعداد للحياة المسيحية" عندما هاجم فيه معتقدات الوثنيين دفاعاً عن الإيمان المسيحي، وخاصة ضد معاصره الفيلسوف فرفوريوس الصوري (233-304م)، الذي كان يستند في انتقاده للدين المسيحي على مؤلفات فيلون الجبيلي (64-141م) الذي ادعى أنه اطلع على مؤلفات شخصية فينيقية تدعى سانخونياتن البيروتي.
وصلتنا وبسبب كتاب أوزيب فقرات من كتب فيلون الجبيلي الذي ذكر له أوزيب تسعة كتب عن التاريخ الفينيقي، وثلاثة عن تاريخ اليونان، وكتاب عن الشعب اليهودي، فقد كان هاجس فيلون وقتها تبيان الأصالة في التراث الفينيقي، وخاصة أن العصرين الهلنستي والروماني الذي عاش فيهما، مسحا الكثير من معالم الأسطورة السورية الفينيقية، فاضطر فيلون إلى الكتابة باليونانية دفاعاً عن الأسطورة الكنعانية.
شكك بعض المؤرخين في شخصية سانخونياتن ناظرين إليها على أنّها كانت من بنات خيال فيلون، بينما حدد بعضهم الآخر أن سانخونياتن شخصية حقيقية عاشت بالتاكيد بين القرن الثامن والقرن السادس قبل الميلاد، مستشهدين بالكثير من المفردات والمفاهيم التي استعرضها فيلون، والتي يستحيل أن يعرفها في عصره إلا بناءً على مصدر مدون أمامه.
يفرد أوزيب في مقدمة كتابه وبالحرف ناقلاً عن فرفوريوس أن سانخونياتن الذي حصل على كتاب "جيروم بعل" كاهن الإله "ياو"، وقدم مؤلفه لملك بيروت "أبي بعل" الذي تلقاه مع جماعة من الفاحصين للحقيقة، وأن سانخونياتن يسبق حرب طروادة وقريب من زمن موسى كما يظهر من سجلات تعاقب ملوك فينيقيا، وأن سانخونياتن الذي ألف وكتب باللغة الفينيقية اعتمد على حوليات المعابد والكتب الشعبية قد عاش في زمن سميراميس ملكة آشور، وتُرجمت أعماله إلى اللغة الإغريقية على يد فيلون الجبيلي.
مما يؤسف له أن المسيحيين الأوائل أحرقوا كتب فيلون وفرفوريوس عام 448م، كما أحرقوا الكثير من مؤلفات الوثنيين، ودمروا أراشيف معابدهم في ذلك العصر الذي شهد بداية عهد جديد غير مسبوق في تاريخ الاجتماع الإنساني عندما أصبح للدولة هوية دينية وحيدة، وكان على الجميع الإيمان بهذه الهوية.
مروية سانخونياتن عن الخلق
ينقل أوزيب عن مروية سانخونياتن: "هو يفترض في أصل الكون ريحاً كثيفة عاصفة، أو عصفة هواء كثيفة، مع خواء موحل مظلم. هذه العناصر كانت دون نهايات ودون حدود، خلال زمن طويل. لكن، وحسب قوله، لما وقعت هذه الريح في حب مبادئها الخاصة نتج عن ذلك مزيج، فدعي هذا المزيج الرغبة 'بوثوس'. ذلك هو مبدأ خلق جميع الأشياء. ولكن هي ذاتها لم تكن تعرف خلقها الخاص. ومن الاندماج لعصفة الهواء مع ذاتها ولد 'موت'.
إنه، حسب رأي البعض، العجينة، وحسب رأي الآخرين التخمر لخليط الهلام. من ذلك نتجت كل بذرة للخلق وتكوين الكون. كانت هناك حيوانات محرومة من المشاعر ولدت منها كائنات متميزة بالعقل دعيت 'شوف سمين' أي المتأملة في السماء، كانت أشكالها بشكل بيضة، ونفث فيها 'موت' نيرانه. وكذلك هي الشمس والقمر والكواكب والنجوم الكبرى.
تتوافق مروية ما بين النهرين وخاصة أسطورة "حينما في العلى" مع مروية سانخونياتن في تدرج التطور؛ فأسطورة "حينما في العلى" تتحدث صراحة عن تفوق أجيال الآلهة الجديدة في القوة والمقدرة على الآلهة القديمة.
تلك هي، على التقريب، نظرية التكوين لديهم، وهي دليل واضح على الإلحاد. ولننظر بعد ذلك كيف، حسب رأيه أيضاً، حدث توالد الحيوانات".
تاريخياً وأمام مادة "الماء العذب والمالح" المختلط، والذي ينفصل بحسب مرويات ما بين النهرين، نجد مروية سانخونياتن تعتمد مادتي الهواء العاصف والخواء الموحل، مما يناسب بيئة مناطق جبلية على امتداد الساحل والسهل السوريين حيث كان ومازال للهواء دورٌ مهمٌّ في حياة سكانهما، مما يفسر حضور الإله بعل وبناته ودورهم الخطير باعتبارهم يمثلون العاصفة بمعانيها المطر والرياح والندى والسحاب والضباب في الموروث الكنعاني.
وأمام صمت مروية ما بين النهرين عن علة توالد الآلهة داخل الكتلة المتمازجة الأولى، نجد في مروية سانخونياتن أن الريح (المادة) وقعت في حب مبادئها الخاصة (شعور)، فنتج مزيج يدعى الرغبة (شعور) الذي هو مبدأ الخلق. فمن اندماج الهواء بذاته ولد "موت".
ذُكِرَ "موت" كإله في ألواح أوغاريت، ودخل في صراع مع الإله بعل، وهو من الآلهة النشيطة لدوره الذي يعادل دور بعل في الخصب، لأنه يسهم في الجفاف والسنوات العجاف التي حددت ملامح علاقة الإنسان بالطبيعة في شرق المتوسط، ويتضح من هذا البعدُ الفكري لحضور الإله موت كمفردة هنا، ودون ذكر اعتباره إلهاً، بل بملاحظة تتعلق بولادة الحياة من الموت والعفن والدود في الجثث والثمار.
تتوافق مروية ما بين النهرين وخاصة أسطورة "حينما في العلى" مع مروية سانخونياتن في تدرج التطور، فأسطورة "حينما في العلى" تتحدث صراحة عن تفوق أجيال الآلهة الجديدة في القوة والمقدرة على الآلهة القديمة، وسانخونياتن يفترض ولادة حيوانات محرومة من المشاعر ظهر منها كائنات متميزة بالعقل (الحديث ليس عن الإنسان)، وأسماها بكلمة فينيقية (شوف سمين) المتأملة في السماء، مما يذكرنا بأسبقية الإلهين آنو (إله السماء) وأنليل (إله الهواء) في الوجود على الإله إنكي (سيد الأرض)، وهو منطق واضح الحضور في مرويات ما بين النهرين لأسبقية السماء على الأرض. ولكن حديث سانخونياتن يخلص إلى مفهوم البيضة (كشكل وجود) نفث فيها موت من ناره. والبيضة مفهوم مكرر التطرق له في الأساطير باعتباره يمثل العالم القابل للانقسام والتطور أو الخلية بمفهومها البسيط.
علمياً، في المروية حدس فكري جميل ويقترب بحديثه عن الريح والخواء الموحل من فرضيات العلم في تطور الحياة على الأرض، فالعلم يتحدث عن غيوم من الغبار والغاز وفكرة السديم بين الكواكب أي الغيوم الكثيفة التي تحتوي المواد اللازمة لنشوء الحياة والتي تحركت بفعل رياح نجمية.
علمياً، نجد الكلام عن الخواء والظلام في النظرية الأورفية ولدى الشاعر أوفيد، ولكن ليس بالتجريد الذي تحدث عنه سانخونياتن، وخاصة من جهة افتراض الزمن المديد واللاحدود. إن "اللا نهاية واللا حدود" مفاهيم فيزيائية للكون أدت بالفيلسوف الإيطالي جيوردانو برونو إلى المحرقة في مجلس التفتيش بروما عام 1600م.
ذكرت فكرة تفاعل قوى الطبيعة بقواها الداخلية مع الفيلسوف الإغريقي أمبدوكل، الذي استعمل هذه الاستعارة لقوى الطبيعة عندما حدد عملها بالحب والكره، وذلك في القرن الخامس قبل الميلاد. وهو ما نعرفه بقوى الجذب والطرد في مجال الذرة بوجه خاص والتي يعتبر موخوس الفينيقي صاحب القول فيها بأن الذرة أساس للكون. وموخوس هذا ولد في صيدا، وأيضاً بتاريخ مجهول (يرجح قبل القرن الثامن قبل الميلاد)، وكان له مدرسة استمرت في بيروت حتى القرن السادس قبل الميلاد.
بدء الحياة بحسب سانخونياتن
"عندما غدا الهواء ملتهباً حركت النار فوق اليابسة والبحر الرياح والغيوم وزخات غامرة من مياه السماء. وبفعل حرارة الشمس افترقت العناصر عن بعضها وابتعدت عن أمكنتها الخاصة، ثم عادت من جديد متصادمة في الهواء ببعضها، بحيث تحدث الرعود والبروق. وعلى قصف الرعد استيقظت الحيوانات العاقلة، التي تحدث عنها، مذعورة من الضجيج. وأخذت الذكور والإناث تتنقل فوق اليابسة وفي البحر".
تاريخياً، يستمر إصرار مروية سانخونياتن على دور السماء (الهواء) برغم تشكل اليابسة والبحر، مما يذكرنا بأسبقية آنو وإنليل، إلهي السماء والهواء في المروية الرافدية، وليس تدخل الشمس بحرارتها لتفرق العناصر ويعود الهواء ليجمعها من جديد إلا تركيزاً، ولكن في سياق مختلف، على دور السماء.
وتاريخياً أيضاً، إن الحديث هو عن الذكور والإناث الذين استيقظوا بفعل الضجيج باعتبارهم حيوانات، ولم يوجد الإنسان بعد، لأن ما يتابعه سانخونياتن بحسب الفقرات هو تشكل "اصناف من الرياح ويعطيها أسماء، فقام هؤلاء بتقديس عطاءات الأرض واعتبروها آلهة لكونها عناصر تحفظ الحياة"؛ مما يعيد التركيز على فكرة السماء التي تعترف للأرض بمقدرتها الخصيبة والفاعلة للوجود، وبمراجعة بسيطة لموروث ما بين النهرين في قصص الخلق والصراع بين الآلهة القديمة والجديدة نتأكد من دور الرياح كسلاح فعال في معارك التأسيس وغيرها، مما يدل على وعي في بلاد الرافدين لمفعول الرياح وتأثيرها المفصلي في أحداث التكوين.
تاريخياً، يشابه وجود الكائنات فوق اليابسة وفي البحر ما ذكر، كمثال، في الأسطورة الرافدية عن إنكي ورحلته من مدينته أريدو إلى نفّر، والتي تبدأ بقصة خلق العالم وقبل خلق الإنسان، تتحدث عمّا خلقه إنكي من كساء للأرض بالأعشاب وأنه بنى داره من الفضة واللازورد، ثم يتحدث النص عن "المخلوقات الذكية والحكيمة التي خلقت في المياه التي لا يسبر أغوارها"، أو قصة الطائر الأسطوري أنزو الذي سرق ألواح القدر من كبير الآلهة انليل (الهواء)، وقيام ابن انليل الإله نينورتا المعروف بإله الزوابع (الهواء) والملقب بالفلاح (الأرض) باستعادة الألواح من الطائر الرهيب وبعد معركة خطيرة "كان للرياح دورٌ رئيسيٌّ كسلاح".
إشارة إنكي للكيفية التي خلق بها هذا الطائر هي ما تستحق التسجيل والتأمل: "يقينا إن مياه الفيضان ولدت انزو، هي المياه المقدسة لإله الأعماق ابسو، وأن الأرض الواسعة حبلت به، وأنه خلق من حجر الجبال) إن الإشارة إلى ولادة المخلوقات الذكية التي عاشت قبل الإنسان في أعماق الماء وولادة كائنات من تشكلات طبيعية في الأدب مابين النهرين مقدمات ما قاله المعري: والذي حارت البرية فيه ... حيوان مستحدث من جماد.
علمياً، ينم النص عن عن ملاحظة دقيقة لحركات الطبيعة في فعل الحرارة في فصل العناصر والتبخر ونشوء الغيوم والبروق والرعود، ولو كانت الكهرباء معروفة في زمانه لتحدث عن تفريغ شحناتها في المواد الطبيعية لتحويلها إلى عضوية أو في المواد العضوية لتغيير تفاعلها كما يفترض بعض الخيال العلمي المعاصر.
تحليل مروية سانخونياتن
يبدو اسم سانخونياتن نفسه أنه لا يتحدر من تركيب أبجدي كنعاني، فالاسماء الكنعانية التي تعتمد الأبجدية مختصرة الأحراف وذات صياغات مختلفة. اسم سانخونياتن الطويل يدل على ترتيب لمقاطع صوتية مسمارية لن نستطيع معرفة معناها إلا تكهناً إذا لم نشاهدها مدونة بالمسمارية. وهذا ما جعل البعض كما في كتاب "سوريون في التاريخ" لسهيل رستم، يعتبر أن سانخونياتن شخصية ولدت 1200 ق.م، وأن معنى اسمه "صديق الحقيقة." كما أن صفة البيروتي التي تطلق عليه لا نعرف إن كانت تمتّ بصلة إلى مسقط رأسه -وهي المرجحة- أم إلى مستقر سكنه. فإذا كانت نسبة البيروتي بسبب منشئه، فنحن أمام حالة نادرة جداً من معرفة مقطعية صوتية تتعلق بجنوب أوغاريت.
تكشف مروية سانخونياتن عن أبعاد جديدة لموضوع الخلق متصلة برؤية بلاد ما بين النهرين الأقدم زمناً، ولكنها جعلت المروية أكثر علميةً، وأقرب إلى لغتنا المعاصرة. فإذا كانت الأسطورة السورية القديمة وبكل تنوعاتها النفسية والثقافية بسبب تنوع البيئات بين البحر الأدنى والأعلى تمثل نصاً شبه علمي ومبهماً بمنطق زمانه المغرق في القدم بالنسبة إلينا، فإننا نجد تلك الأساطير، ومع مروية سانخونياتن، قد تطورت إلى نص يقارب العلم ويحمل منطقاً مقبولاً من فهمنا المعاصر، مما يدلنا على نقطتين خطيرتين.
تأتي مروية سانخونياتن لتدل على أبعاد لا نعرف عنها الكثير، وخاصة أنها جاءت باللغة اليونانية ومن مصدر غير نزيه في استعرض آراء من اعتبرهم أوزيب يمثلون خصومه العقائديين. هي أبعاد جبل تحتاج إلى اكتشاف أوغاريت جديدة
النقطة الأولى هي أن العلاقة بين شرق المتوسط وبلاد ما بين النهرين أعقد مما نتخيل في مناهجنا الأكاديمية، وخاصة في جوانب ثقافات ذلك الزمان الشعبية التي يبدو أنها أنتجت تلاقحاً عقلانياً وعلمياً يتجاوز السطورالمبهمة والتي نستطيع الاستغراق في تحليل معانيها عندما اعتمد الإله بعل مثلاً على أرز جبال لبنان وحرمون ومادة اللبن في بناء قصره، وليس الحجر، كما يتبادر للذهن في منطقة جبيلة تتوفر فيها الحجارة بكثرة، كما تذكر أسطورة بناء بيت بعل في كتاب "أناشيد البعل" لسليم مجاعيص.
والنقطة الثانية هي أن القرن السادس قبل الميلاد (إذا اعتبرنا أن مروية سانخونياتن مكتوبة حقاً في ذلك القرن وليست أقدم زمناً) يمثل مفصلاً خطيراً في حياة سوريا القديمة، لأن بلاد ما بين النهرين وشرق المتوسط أنتجا إلى حدود هذا القرن الزمنية مروية خاصة ومتطورة من بذورها الأصيلة وقبل دخول مجتمعاتها في دوامة التلاقح القسري، وهو الذي تداخلت فيه سوريا القديمة مع القوى التي سيطرت عليها أو تقاسمت النفوذ فيها وما حصل من إدخال ثقافة غريبة عن الثقافة السورية القديمة، مع الفرس أولاً، ثم المقدونيين (ما يسمى العصر الهلنستي)، ثم الرومان وصراعهم الطويل مع الفرس، حيث كانت بادية بلاد الشام مسرحاً للعمليات العسكرية إلى مرحلة دخول هجرات الجزيرة العربية التي تحمل رسالة الإسلام المحمدي.
كما كانت أوغاريت تمثل قمة من جبل جليد شاهق لا نعرف الكثير مما يخفيه، تأتي مروية سانخونياتن لتدل على أبعاد لا نعرف عنها الكثير، وخاصة أنها جاءت باللغة اليونانية، ومن مصدر غير نزيه في استعرض آراء من اعتبرهم أوزيب يمثلون خصومه العقائديين. هي أبعاد جبل تحتاج إلى اكتشاف أوغاريت جديدة ولكن إلى الجنوب منها.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...