في البدء خلق الله السَّماوات والأَرض، وكانت الأرض خاوية خالية، وعلى وجه الغمر ظلام، وروح اللهِ يرفُ على وجه المياه. ثم قال إله ثان: "لِيكنْ نور"، فكان نور. ورأى الإله الأول أنَّ النور حسن، قبل أن يضيف الإله الثالث البشر والشجر، إذ خلق آدم وحواء وأسكنهما الأرض ووضع فيها قوتها ونباتها وكائنات كثر على امتدادها. لو أن الله رابع أربعة، لربما هو من أضاف الأدب والموهبة للبشر، وجعل لكل شيء لون يسرّ الناظرين، وأوعز لآدم أن يخلق من الصوت موسيقى. منذ تلك اللحظة، اقتسم الأربعة مهام الأرض والسماء وما بينهما، ولأن العمل لا ينتهي فلم يسعفهم الوقت أبداً في تطوير بقية الكواكب المرئية، التي تُركِت كمشروعات غير منجزة بعد، هل كانوا بحاجة لإله خامس؟
إله واحد ومشكلتان
في مجادلات الدين، خاصة في مثل هذه الأيام مع قدوم موعد احتفالات رأس السنة الميلادية، وبين نهي وتحريم للاحتفال بميلاد المسيح أو حتى تهنئة المحتفلين به كونهم يحتفلون بيسوع نسخة المسيحيين، سواء كان ابن الله أو تجسّد فيه الله، ففكرة أن يكون لله شريك أو ولد وحدها تكفي لعدم مشاركة العالم احتفالات رأس السنة الميلادية. وحدانية الله نفسها هي إحدى النقاط الأهم في اعتبار البعض دينهم هو الدين الحق، وكثيراً ما قرأت أحدهم يحاجج بأن إلهه هو الإله الصحيح لأنه الأوحد، فترى مثلاً المسلم يجعل من التوحيد نقطة إثبات لدينه ونفي لدين المسيحي الذي يؤمن بأن إلهه ثالث ثلاثة.
صحيح أن من يسوق تلك الحجة ضد المسيحية لم يفهم ماذا يعني الثالوث بحق، لكن حتى ولو أن الله هو ثالث ثلاثة، أو رابع أربعة، فالعدد لا يعني شيئاً في الإثبات أو النفي. لو أن الله واحد ضمن فرقة كاملة حتى، فذلك لا ينفي وجوده. قد ينفي تفرّده بالطبع، لكن وجوده وخلقه للسموات والأرض والبشر والحساب هي أمور أخرى، تثبت وتنفى بتتبع كلمات الآلهة المزعومة ومقارنتها بما هو واقع بالفعل.
حتى ولو أن الله هو ثالث ثلاثة، أو رابع أربعة، فالعدد لا يعني شيئاً في الإثبات أو النفي. لو أن الله واحد ضمن فرقة كاملة حتى، فذلك لا ينفي وجوده
يتوقع البعض أنه لو كان هناك آلهة عديدة لاختلفوا بينهم وتقاتلوا، ونتج عن ذلك إفساد خليقتهم على الأقل، وفي هذا التوقع مشكلتان، الأولى هي أن من يقول ذلك لا يرى في الحياة فساداً من الأصل، فلو افترضنا أن إفساد الخليقة هو علامة تعدّد الآلهة، فالفساد الذي يحيط بنا من كل حدب وصوب قد يكون علامة واضحة على هذا التعدّد، وليس كما فسّره كثيرون على أنه اختبار يفصل بين الخير والشر ويربي الصبر في نفوسنا.
تخيل أن تكون كل الشرور المحيطة بنا من حروب وكوارث ما هي إلا اختلاف حاد بين إلهين على أمر ما، قرّر أحدهما تصفية الآخر بطريقة ما، وكالعادة في صراع الكبار فالضحايا من الصغار -البشر- لا يحسب لهم حساب.
المشكلة الثانية هي افتراض أننا نعرف كيف يعيش الآلهة، وطباعهم ورغباتهم وردود أفعالهم، وكأننا قد نشأنا معهم في الحي أو خالطناهم فترات من حياتنا، فنجعل من السهل علينا نفي فعل عنهم أو صبغهم بآخر، لدرجة تصل أحياناً حد السخرية من فعل قد يقوم به الإله يوماً ما إن أراد، كمسامحة المخطئين جميعاً، وأوضح مثال على تلك السخرية هو استنكار البعض لاحتمالية أن يدخل الجنة غير أبناء دينهم، صحيح أنهم يستنكرون تلك الفكرة بناء على فهمهم لنصوص كتبهم، لكن الأمر يبدو كمن يقول: "حتى لو أراد الله فعل ذلك لن نقبل وربما نجرده من ألوهيته حينها". في الحقيقة تلك المشكلة تحديداً تخبرنا أشياء عن خلق الله للإنسان، أو بالاحرى العكس، خلق الإنسان لآلهته.
الإنسان أولاً أم الإله... البيضة أم الدجاجة
خلق الله الإنسان على صورته، وفي قول آخر "خلقه في أحسن تقويم"، كلا المقولتين يُمكنك فيهما تبديل الفاعل بالمفعول به، لكي تعرف لم يرفض البعض احتمالية أن يكون الإله على شاكلة غير تلك التي أراد أن يكونها الإنسان له، واحداً أو قادراً أو طيباً، وبالطبع كلي القدرة في كل حين.
كثير من التفسيرات، لاحتياج الإنسان لذات عليا تطمئنه في مواجهة المجهول والمُبهم، تعطي لنا ملامح عن تلك الذات تتغير مع تغير الإنسان نفسه. لا أحد يعلم بالتحديد لم احتاج الإنسان لإله أول مرّة، إنما هي تكهّنات. بعضها ذهب لأنه -الإله- كان إجابة سؤال ماذا يعني الموت؟ وأخرى رجحت أن تكون البداية مع ضربات البرق والرعد، إذ فسّر الإنسان حينها أنه لا بد من وجود أحدهم في الأعلى يفعل ذلك، أي أن الإله الأول في بعض الروايات هو شرير بشكل ما.
على كل حال قادت التغيرات الإنسانية رسم الملامح الجديدة للإله لتتماشى مع ما استجد على الإنسان، لكن بإضافة قوة عظمى كلية للإله، تقدّس أحكامه -وهي نفسها الأحكام التي وافقت عقول الإنسان حينها- وتطمئن النفس البشرية الضعيفة في ما تجهله.
عدد الآلهة لا يجب أن يكون دليلك نحو المعتقد الصحيح، إن كان هناك معتقد صحيح بالفعل، فربما يكون هناك إله واحد أو أكثر أو أقل، أنثى أو ذكر، طيب أو شرير، يهتم أو لا يبالي، سنعرف ذلك عند البعث أو لن نعرف أبداً
موجز رحلة الإله من التعدّد للتوحيد
التغيرات المقصودة يُمكن ملاحظتها بدقة في عديد المصادر التي تحدثت عن نشأة ومسار الاعتقاد الديني، ومنها مثلاً كتاب "تاريخ العالم كما ترويه النساء" لروزاليند مايلز، وفيه ترى الإله يبدأ بأشكال أنثوية عديدة، بُنيت قداستها على تفرّد النساء بعملية الإنجاب التي نظر البشر إليها كقوة لا مثيل لها، بها تزدهر القبائل وبدونها تفنى، ويتحول إلى كيانات ذكورية تُحجّم دور آلهة العالم القديمة الأنثوية، بالتزامن مع اكتشاف أن الإنجاب هو عمل مشترك، للرجل فيه حظ أيضاً كونه واضع البذرة، ثم تغلّب آلهة الذكور على آلهة النساء بقصص صراعات علوية تخيلها الرجال غالباً، وبعد الانتهاء من تلك الصراعات ظهرت أخرى بين الآلهة الذكور ونظرائهم عبر القارات، وما إن تغلبت آلهة الرومان على آلهة الإغريق، حتى وجدوا منافساً آخر تلك المرة يجابههم وحده، يهوه إله اليهود، ومنه إلى يسوع الثائر، ثم بعد قرون نقترب من نهاية هذا الصراع بين التعدّد والتوحيد، فبما أن حروب الغزو لم تكن لتنطلق قبل مباركة الآلهة، فالأمر سار في البلاد الباردة البعيدة بأن تغلّب أولاً أودين وثور وفريغ عند شروق الفايكينج، قبل أن يحسم يسوع الأمر عند انتصار الإنجليز.
بعد ذلك، كان لا بد من تفادي تكرار تلك النزاعات، عن طريق التخلص من كل الآلهة التي تبارك شعوبها في غزواتهم، حتى أصبحت رسالة أن الرب الصحيح هو واحد فقط يرعى الإنجليز، أهم رسالة قُتل من أجلها كثيرون.
الإله بين الفلسفة والسياسة
بناء على ما سبق، نرى أن التوحيد كان فكرة تقع بين العسكرية والسياسية، فمصدر واحد لا شريك له، يعني أمراً واحداً وخليفة واحداً أيضاً، أي أن الإنسان احتاج لاختصار عدد آلهته للحد الأدنى الذي يمكنه من الحديث باسم الذات العليا دون نزاع قدر الإمكان، من هذه الزاوية يُصبح الإله الواحد منطقياً، من زاوية السياسة والحرب، لكن وبالعودة إلى مجادلات زمننا، فكما بدأت مقالي، فإن عدد الآلهة لا يجب أن يكون دليلك نحو المعتقد الصحيح، إن كان هناك معتقد صحيح بالفعل، فربما يكون هناك إله واحد أو أكثر أو أقل، أنثى أو ذكر، طيب أو شرير، يهتم أو لا يبالي، سنعرف ذلك عند البعث أو لن نعرف أبداً.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
astor totor -
منذ يوميناسمهم عابرون و عابرات مش متحولون
مستخدم مجهول -
منذ يومينفعلاً عندك حق، كلامك سليم 100%! للأسف حتى الكبار مش بعيدين عن المخاطر لو ما أخدوش التدابير...
Sam Dany -
منذ أسبوعانا قرأت كتاب اسمه : جاسوس من أجل لا أحد، ستة عشر عاماً في المخابرات السورية.. وهو جعلني اعيش...
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلماذا حذفتم اسم الاستاذ لؤي العزعزي من الموضوع رغم انه مشترك فيه كما ابلغتنا الاستاذة نهلة المقطري
Apple User -
منذ أسبوعوحده الغزّي من يعرف شعور هذه الكلمات ، مقال صادق
Oussama ELGH -
منذ أسبوعالحجاب اقل شيء يدافع عليه انسان فما بالك بحريات اكبر متعلقة بحياة الشخص او موته