"لم تكن ابنتي تتجاوز السادسة من العمر، حين اكتشفتُ وجود تأخر عقلي لديها. قبل ذلك، كنت أظنه مجرد تأخر في الكلام والنطق، كما عند بعض الأطفال، لكن الفحوصات والتحاليل كانت صادمة!".
بهذا الكلمات، تشرح رفيقة أيوب، المقيمة في البقاع اللبناني، كيف تلقت العائلة الخبر عن حالة ابنتهم نجوى، لتبدأ بعدها مرحلة التقبّل، ثم التشخيص والعلاج، والبحث عن مراكز تقدّم جلسات حسية حركية نطقية، وعلاجاً نفسياً، لهذا النوع من الإعاقة.
استمرت والدة نجوى في تعليم ابنتها كيفية الاعتماد على النفس، وأداء المهام المنزلية البسيطة، ولكن كما تقول: "من أصعب الصعوبات تعليم طفل لديه تأخّر عقلي، فأنت في حاجة إلى تلقينه المعلومة مرات عدة، ليستطيع فهمها، أو حفظها"، ومع ذلك: "لم أكن أخجل بابنتي، بل كنت آخذها معي أينما ذهبت، لتندمج في المجتمع، وتتعرف على الناس".
الطفلة نجوى - تصوير أحمد الأشقر
قد لا تتوفر معلومات رسمية عن عدد الأطفال الذين يواجهون "صعوبات تعليمية" تحديداً، ولكن بعض المراكز التعليمية تقدِّر نسبتهم بـ10% من التلاميذ، ويمكن تعريف هذه الصعوبات بأنها مجموعة اضطرابات تطال نمو الطفل، وتؤثر في طريقة تلقّيه للمعلومات، ومعالجتها، وتظهر كصعوبات في التعبير الشفوي، وفهم الكلام، والتعبير الكتابي، ومهارات القراءة، والحساب، والرياضيات.
غالباً ما تكون صعوبات التعلم "خفية"، ومن يعاني منها لا تظهر عليه أي علامات، غير أن مهارة الطفل في بعض مجالات التعلم، لا ترقى إلى المستوى المتوقع لشخص في عمره، بسبب خلل في الوظائف المعرفية، كالانتباه أو الذاكرة القصيرة والطويلة المدى، والتنظيم المكاني، أو الزماني.
أهمية العلاج المبكر
تسعى المراكز القليلة المتوافرة في لبنان، والتي تقدّم خدمات التعليم والدعم للأطفال الذين يعانون من صعوبات التعلم، إلى تغطية الاحتياجات المتزايدة، على الرغم من التحديات التي تبدأ في المنزل، ولا تنتهي في المدارس.هذا ما تشير إليه ريم قاسم، وهي معلّمة تعمل مع الأطفال الذين يعانون من صعوبات التعلم، إذ تتحدث عن وجود العديد من طلاب المدارس في لبنان، ممن لديهم صعوبات تعليمية متفاوتة، لكن إهمال الأساتذة لهم، أو جمعهم ضمن صفوف خاصة، أو مقاعد معينة، مع وصمهم بالكسل والفشل، يؤدي إلى زيادة معاناتهم، وتأخرهم عن أقرانهم. "معظم هؤلاء الأطفال لديهم فرط نشاط حركي، مع ضعف في الذكرة والتركيز، وبعضهم يحتاج إلى جهود بسيطة لدفعهم للاندماج في الدرس، بدلاً من تهميشهم داخل الصف".
غالباً ما تكون صعوبات التعلم "خفية"، ومن يعاني منها لا تظهر عليه أي علامات.
وتشير قاسم إلى أن تهميش الأطفال لا يقتصر على المدرسة، بل غالباً يبدأ من الأسرة، أو المجتمع، بسبب رفض الاعتراف بوجود صعوبات تعليمية لديهم، في سبيل تجنب وصمة الإعاقة، مما يؤثر على شخصياتهم، وثقتهم بأنفسهم. حينها، يختار الطفل الانزواء بعيداً عن محيطه/ ا، أو يزداد سلوكه/ ا العدواني. وتؤكد على أن التقبل والتشخيص المبكر، يساعدان الطفل على تحسين أدائه التعليمي، وسلوكه بين أقرانه، لأن "صعوبات التعلم تشبه أي مرض، كلما عالجته مبكراً، كلما حصلت على نتائج أفضل".
وهذا ما كانت والدة نجوى تشتغل عليه مع الأهالي. فمن خلال جلسات الدعم النفسي التي نظّمتها إحدى الجمعيات، استطاعت أن تنقل تجربتها، ونصائحها، إلى أمهات أطفال معوقين، حتى باتت تنظّم جلسة أسبوعية لتناقش فيها الصعوبات، وتتشارك معهن في البحث عن حلول.
تقول: "أكبر المشكلات التي تواجه هذه العائلات، هي إدخال أطفالهم إلى المدارس، وكذلك الحصول على الطبابة والدواء"، لذا تشجع أيوب الأمهات على تعليم أطفالهن ضمن أماكن السكن، كما اقترحت على إحداهن تعليم طفلها الزراعة والسقاية، فكانت النتيجة استقرار حالته النفسية.
رحلة شاقة
بطبيعة الحال، تتعاظم المشكلات المذكورة كلها بالنسبة إلى العائلات السورية اللاجئة في لبنان، فهي تعاني من ضغوط معيشية شاقة، لتوفير أبسط مقومات الحياة، ويصبح العبء أثقل في حال معاناة أحد أفرادها من إعاقة ذهنية، أو جسدية، فالخدمات المقدّمة من المنظمات الدولية، وغيرها، بالكاد تكفي الحاجة المطلوبة، خاصةً في المناطق المكتظة بمئات آلاف اللاجئين، بالإضافة إلى صعوبة التنقل والوصول إلى مراكز الخدمة البعيدة عن المخيمات، عموماً.يروي محمود الحلاق، لرصيف22، عن حالة ابنه عمرو المصاب بالتوحد، فالطفل الذي وُلد في حمص، قبل ثماني سنوات، اضطر أهله إلى النزوح إلى لبنان، حين كان عمره لا يتجاوز الشهرين. وبعد فترة، لاحظ الأهل عدم استجابة ابنهم وتفاعله معهم، لتبدأ رحلتهم الطويلة والشاقة في فهم حالته، وتقديم العلاج المناسب له، وزيارة عيادات ومراكز مختصة لم تحصد النتائج المرجوة.
يعتقد الأب الذي يعمل ناظراً لمدرسة في بلدة غزة البقاعية، أن حالة ابنه الصعبة، وطبيعة المرض الغامضة، جعلتا العديد من المختصين يواجهون صعوبة في تقديم العلاج المناسب له، فشعر وكأنه يدور في حلقة مفرغة من التشخيص والعلاج، تثقل كاهل العائلة، مع كل ما تتحمله من تبعات اللجوء. "نبحث عن طرف خيط يخفف علينا صعوبة التعامل مع حالة ابني، والأزمات العديدة التي يعاني منها فحسب، وهو حال العديد من العائلات هنا للأسف"، يضيف الرجل بنبرة لا تخلو من الأسى.
يعتقد الأب الذي يعمل ناظراً لمدرسة في البقاع، أن حالة ابنه الصعبة، وطبيعة المرض الغامضة، جعلتا العديد من المختصين يواجهون صعوبة في تقديم العلاج المناسب له، فشعر وكأنه يدور في حلقة مفرغة من التشخيص والعلاج، تثقل كاهل العائلة، مع كل ما تتحمله من تبعات اللجوء
مدارس غير دامجة
من شأن صعوبات التعلّم أن تكون مستمرة لدى من يعاني منها، ومع ذلك يمكن تعويضها من خلال التدخّل المناسب، لكن ما يعرقل ذلك في لبنان، هو عدم توافر مدارس دامجة، أو معلمين مدرَّبين تدريباً كافياً، وكذلك عدم وجود نهج فردي لتعليم الأطفال، بالإضافة إلى الرسوم التمييزية، ونفقات التنقل، والمباني غير المجهزة لأصحاب الإعاقات المتعددة.المسؤولة الإدارية في "مركز مهارات للحاجات الخاصة"، أصالة شحيمي، تروي لرصيف22، كيف أن إعادة الدمج في المدارس الرسمية والخاصة، ليست على المستوى المطلوب، "فالطالب الذي يتخرج من عندنا، يجد صعوبة في التأقلم داخل المدرسة العادية، لأن المرحلة الأولى من الدمج تتطلب وجود معلم/ ة خاص/ ة، لمتابعته داخل الصف، وهذا ما يترتب عليه زيادة في الأعباء المالية".
يقدّم مركز مهارات خدماته للأطفال الذين يعانون من صعوبات تعليمية، وتأخر عقلي خفيف ومتوسط، بالإضافة إلى دعم الأطفال المصابين بالتوحد، وتأهيلهم، كما يطوّع المناهج التعليمية لتكون مبسطة عن المناهج الأصلية، ومناسبة لهم. ويستقبل المركز الأطفال من مختلف الجنسيات، ليجري لهم اختباراً خاصاً معتمداً من وزارة الشؤون الاجتماعية، بهدف قياس الصعوبات التعليمية لديهم، ليتم وضعهم في الصف المناسب الذي يحوي من خمسة إلى ستة تلاميذ.
مركز مهارات للحاجات الخاصة في شتورا - تصوير أحمد الأشقر
وعند سؤالها عما إذا ما كان هناك زيادة في الإعاقات لدى الأطفال الجدد؟ تقول شحيمي: "قد لا تكون نسبة الإعاقات قد ازدادت، لكنها أصبحت مرئية أكثر، فسابقاً كان الأهل يخجلون بابنهم المعوق، أما الآن، فهناك وعي أكثر حول صعوبات التعلم، ولم يعد الموضوع أن الطفل ‘غير شاطر في المدرسة’، بل هو غير متمكن في هذه المادة تحديداً، ويحتاج إلى دعم خاص".
جمعيات خيرية "منسية"
على بعد 25 كم من منطقة شتورة، و68 كم من العاصمة بيروت، تقع قرية كامد اللوز في البقاع الغربي، والتي اتخذت منها جمعية "قلوب من نور" مقراً لها، لتقديم خدماتها للأطفال الذين يعانون من صعوبات تعلمية، وحالات توحد، وهي تشمل الأطفال المقيمين في المنطقة كافة، بغض النظر عن جنسياتهم.صعوبات التعلم تشبه أي مرض، كلما عالجته مبكراً، كلما حصلت على نتائج أفضل.
تأسست الجمعية، حسب مديرها خطار حمود، بتعاون مجموعة من الأشخاص ذوي الإعاقة، نتيجة حاجة المنطقة إلى وجود مؤسسة تعليمية مختصة؛ بعد أن "كان الأهالي يضطرون إلى إرسال أطفالهم إلى مناطق خارج البقاع لتعليمهم، وهذا خلق نوعاً من الشرخ بين الأطفال، وأهاليهم، ومجتمعهم".
تُجري الجمعية جلسات لتوعية الأهل بقدرات أبنائهم، ومدى إمكانية تحسن حالاتهم، كما تعمل مع الأطفال على مستويات عدة من الدعم النفسي، وتعزيز الثقة بالنفس، والتواصل الحسي الحركي، وتكوين اللغة في الدماغ.
تقول منال الشلبي، المختصة بعلاج التوحد في الجمعية: "معظم الأطفال يعيشون التهميش، والضغوط النفسية من المجتمع، فيرفض الطفل نفسه، ويشعر بوجود نقص لديه، لذا نحاول تعزيز ثقتهم بأنفسهم، ليحسنوا التعامل مع الآخرين، ويصبح لديهم استقلال ذاتي".
جمعية قلوب من نور في البقاع الغربي - تصوير أحمد الاشقر
وتشير إيمان مراد، معالجة اضطرابات النطق والتواصل في الجمعية، إلى أن "الأهل عموماً، لديهم إنكار للحالة لتخفيف الألم الذي يعيشونه، فالطفل الذي يعاني من التوحد، يدّعي الأهل أنه لا يشكو من شيء سوى صعوبة في النطق، في حين أنه يحتاج إلى الكثير من العلاج".
تنازع الجمعية اليوم، كغيرها من الجمعيات في لبنان، للاستمرار في تقديم خدماتها، فالأزمات المتلاحقة أثرت بشكل كبير على سير عملها. يقول حمود: "يؤرقني سماع خبر إغلاق جمعية خيرية، على الرغم من أننا لا زلنا مستمرين في العمل، لكننا دخلنا في مرحلة الخطر، ولدينا الكثير من المصاريف الواجب تأمينها".
تهميش الأطفال لا يقتصر على المدرسة، بل غالباً يبدأ من الأسرة، بسبب رفض الاعتراف بوجود صعوبات تعليمية لديهم، في سبيل تجنب وصمة الإعاقة، مما يؤثر على شخصياتهم، وثقتهم بأنفسهم. حينها، يختار الطفل الانزواء بعيداً عن محيطه/ ا، أو يزداد سلوكه/ ا العدواني
السعي نحو "الوصول"
ليست الصعوبات المالية هي العائق الوحيد أمام هذه المنظمات، بل يُعدّ تطبيق القوانين وتنفيذ التشريعات العامل الأساس في تأمين احتياجات ذوي الإعاقة وحقوقهم. فعلى الرغم من أن القانون اللبناني يحظر صراحة التمييز ضد الأطفال ذوي الإعاقة، في أثناء التسجيل في المدارس، إلا أن القبول في المدارس الرسمية والخاصة لا زال يعتمد على تقدير المعلمين والمدراء.يشرح بلال شحادة، مسؤول قسم المعينات الحركية في مركز "أركنسيال"، في منطقة تعنايل في البقاع الأوسط، كيف أن الأطفال الذين يجتازون المرحلة الابتدائية في المركز، لا يستطيعون الالتحاق بالمدارس، لعدم جهوزيتها، ولعدم توافر بنية تحتية تستوعب الأطفال المعوقين، مثل المصاعد الكهربائية، والمنحدرات، والحمامات المجهزة.
لذا تسعى "أركنسيال" لتكون جميع مراكزها مجهزة، وأنشطتها دامجة للأشخاص ذوي الإعاقة، بحيث تؤمّن أولاً بنية تحتية سهلة الوصول لأصحاب الإعاقات المختلفة، وكذلك مناهج تعليمية، ووسائل ترفيهية، وأنشطة دامجة، لمختلف الأطفال.
مركز أركنسيال في البقاع الأوسط - تصوير أحمد الأشقر
يأخذنا بلال في جولة في المركز، للاطلاع على الصفوف المعدّة للتعليم، وممارسة الأنشطة، مستذكراً الجهود الكبيرة التي قاموا بها لتوعية الأهالي؛ "ففي بداية الأمر، كانت هناك مخاوف واضحة من أهالي الأطفال غير المعوّقين من أن يتواجد طفلهم مع طفل معوّق في المكان ذاته، ما تطلّب منا تنظيم ورش وحملات توعوية لأولياء الأمور، والمجتمع ككل".
شهر التوعية بصعوبات التعلم
يصادف العاشر من شهر تشرين الأول/ أكتوبر، إطلاق الحملة السنوية الخاصة بـ"المركز اللبناني للتعليم المختص"، بهدف دعم الأطفال ذوي الصعوبات التعلمية، الذين يمكن أن يُساء فهمهم، ويتعرضون للتنمّر في المدرسة، وفي الحياة، مما يؤدي إلى زيادة تسربهم من التعليم، وتفهّمهم.تظهر المقاطع الترويجية للحملة، أطفالاً يشرحون عن معاناتهم بكلمات بسيطة: "بدّي أعرف إحكي، بدّي أعرف اقرأ... عنجد عم جرّب..."، في محاولة لتسليط الضوء، وخلق الوعي تجاه موضوع صعوبات التعلم.
المسؤولة الإدارية في مركز زحلة في البقاع اللبناني، شرحت لرصيف22، آلية عمل المركز القائمة على تقديم حصص ودروس تقوية للطلاب، بعد دوام المدرسة، بحيث تُخصَّص لكل طفل جلستان في الأسبوع، مع معلمة تساعده على تأهيل قدراته، وتنمية مهاراته.
يفتح المركز اللبناني أبوابه لمن يقصدونه كلهم، مقابل أجور رمزية (10 آلاف ل.ل شهرياً = 0.5$)، ولكن تبقى المعضلة الأساسية عند معظم الأهالي، متعلقةً بتكاليف النقل، لا سيما بعد رفع الدعم عن الوقود، وما رافقه من غلاء المعيشة، والمواصلات.
تعبّر عائلة نجوى عن خشيتهم من ضياع سنة تعليمية إضافية على ابنتهم، بسبب عدم قدرتهم على تسجيلها في المدارس المختصة هذا العام، بعد أن بلغ قسط الباص لوحده نصف مليون ليرة لبنانية، إذ إن الراتب التقاعدي لوالد نجوى، بالكاد يكفي مصاريف العائلة المؤلفة من خمسة أشخاص.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...