حددت الأمم المتحدة عام 2011، يوم 30 تموز / يوليو من كل سنة، يوماً دولياً للصداقة، مع العلم أنه قبل هذا التاريخ كان هناك من يحتفل بيوم الصداقة في بعض الدول. فمثلاً، تحتفل الأرجنتين بيوم الصداقة في 20 تموز /يوليو، أي في اليوم نفسه الذي هبط فيه الإنسان على القمر عام 1969. أما أنا، فأعدّ هذا اليوم أجمل من اليوم الذي حددته الأمم المتحدة مُطلقةً عليه اسم اليوم الدولي للصداقة، خاصةً أنّ كلمة "دولي" تبدو لي جامدةً وبلا روح ولا تنسجم مع كلمة صداقة.
الحياة تقدّم لنا المفاجآت من دون مقدمات أكثر الأحيان، ولا تهتم إن كنا مستعدين لها أو لا. هذا تماماً ما فعلته معي يوم السبت 30 أيلول/ سبتمر 2023. ففي تلك الليلة، كان هناك لقاءٌ سيجريه معي الروائي اللبناني سليم بطي، بالصوت والصورة، عبر موقع "زووم"، ما دفعني لأذهب إلى منزل صديقي ماهر راعي، الذي يملك حساباً على هذا الموقع. ولأنّ قريته مرتفعة عن سطح البحر مقارنةً بقريتي، فهذا يجعل الإنترنت عبر بيانات الموبايل أفضل.
ثم سألني عن الأصدقاء والغربة، وتحدثت مطولاً عن ذلك، وكيف أن الغربة ليست مرتبطةً بمغادرة الوطن فقط، وإنما قد نشعر بها أحياناً ونحن في الوطن وبين أهلنا، مستشهداً بما قاله عباس بيضون: "أعيش محاطاً بكل هؤلاء الذين جعلوني وحيداً"
خلال اللقاء تحدثتُ عن عدد من الأمور من بينها الأصدقاء. قرأ سليم لي مقطعاً من أحد نصوصي التي كتبتها، يقول: "الأصدقاء غرفتك المزدحمة بالذكريات والضحك، والذكريات كالمجازر لا تُنسى، في غيابهم تدرك تماماً معنى الغربة وأنت في منزلك". ثم سألني عن الأصدقاء والغربة، وتحدثت مطولاً عن ذلك، وكيف أن الغربة ليست مرتبطةً بمغادرة الوطن فقط، وإنما قد نشعر بها أحياناً ونحن في الوطن وبين أهلنا، مستشهداً بما قاله عباس بيضون: "أعيش محاطاً بكل هؤلاء الذين جعلوني وحيداً". وتحدثت عن أهمية الأصدقاء، وكيف أعدّ وجودهم في حياتي شيئاً جوهرياً ومهماً للغاية، وفقدانهم بالنسبة لي كارثة على الصعيد العاطفي لأنني أحبهم، وعلى الصعيد النفسي لأنهم السّند والأمان والفرح والراحة، وقلت إنّ اختياري لأصدقائي المقرّبين ليس اعتباطياً، ويعتمد بالدرجة الأولى على مشاعري تجاه الآخر وإحساسي بالراحة والحبّ تجاهه، وبرغبتي في أن أقف بجانبه وأدعمه في الأوقات الصعبة من دون التفكير في أيّ مقابل… وقبل أن ينتهي اللقاء، خرج صديقي ماهر راعي من غرفته ليخبرني بأنّ خالد خليفة مات!
في عام 2011، اختبرت لأول مرة أول فقدان لأعزّ أصدقائي حين خرج من البلاد لأنه تم استدعاؤه إلى الخدمة الاحتياطية. كان خروجه صادماً ومؤلماً بالنسبة لي، لكنني كنت أواسي نفسي بأنه لا يزال على قيد الحياة، ولا بد أن يأتي يوم ونلتقي. بعد ذلك تتالت حالات فقدان الأصدقاء؛ فمعظمهم هاجروا خارج البلاد، كما مات عدد من معارفي وجيراني وأقاربي خلال هذه الحرب. برغم ذلك، ظللتُ أعدّ نفسي محظوظاً مقارنةً بغيري من السوريين الذين مات أصدقاؤهم وأهلهم من الدائرة القريبة.
كل حالات الفقدان وأشكاله التي مررت بها خلال الحرب السورية جعلتني أظنّ أنني أصبحت أكثر قدرةً على تحمّل موت الأصدقاء، لكن موت خالد جعلني أكتشف أنني كنت مخطئاً. خالد كان من دائرة الأصدقاء المقربين، وكانت هذه المرة الأولى التي أختبر فيها موت صديقٍ مقرّب إلى هذه الدرجة، ومما لا شكّ فيه أنّ أيّ شيء نختبره لأول مرة نختبر معه مجموعةً من المشاعر والأحاسيس والأفكار التي تحفر فينا عميقاً، سواء سلباً أو إيجاباً.
في عام 2011، اختبرت لأول مرة أول فقدان لأعزّ أصدقائي حين خرج من البلاد لأنه تم استدعاؤه إلى الخدمة الاحتياطية. كان خروجه صادماً ومؤلماً بالنسبة لي، لكنني كنت أواسي نفسي بأنه لا يزال على قيد الحياة، ولا بد أن يأتي يوم ونلتقي
من الصعب قبول فكرة موت شخصٍ عزيزٍ علينا ببساطة، ومن المؤلم قبول فكرة أن يغيب الأحبّة إلى الأبد. أظنّ أنّ جزءاً من حزننا وألمنا على موت من نحبّ فيه نوع من الأنانية وحبّنا لذواتنا؛ لأننا حين نفقد شخصاً عزيزاً على قلوبنا نفقد الوقت الجميل والممتع الذي كنا نتقاسمه معه.
حين غادرت منزل ماهر بعد منتصف الليل، وبينما كنت أقود السيارة وحدي عائداً إلى منزلي، تذكرت الزير سالم حين سمع بخبر موت كليب، فقال: كليب كلّه مات!
تذكّرت ما كتبه خالد ذات مرة على حسابه في فيسبوك: "أنا رجلٌ معطوبٌ أحتاج إلى أصدقائي وصديقاتي بقربي دوماً كي أستمر بالعيش". بعدها أخذت نفساً عميقاً وقلت بصوتٍ مسموعٍ: أبو الخلّ لقد عطبتني بموتك.
أعرف خالداً منذ عام 2008، حين كان يرتاد مقهى "قصيدة نثر" الذي أملكه، وكانت له طاولة مخصصة له يفتح عليها لابتوبه ويبدأ بالكتابة. لم أكن أتخيّل أننا سنصبح أصدقاء، ولكنّ خالداً له سحرٌ خاصٌّ، فمن يجلس ويتواصل معه لفترة من الزمن لا بد أن يحبه ويرغب في صداقته، ومن يجلس معه لأول مرة يمكنه ببساطة أن يلتمس لطفه وطاقة المحبة والمرح التي يملكها.
يملك خالد "شاليه" في اللاذقية أطلق عليه اسم "شاليه الندم"، وحين سألته لماذا أطلقت هذا الاسم، أجابني: لأنّ كلَّ من سيأتي إليه سيندم، وكل من لا يأتي إليه سيندم أيضاً. ثم ضحك وتركني أفكر كيف سيندم الشخص في الحالتين. قبل سنة من وفاته، خصص ركناً صغيراً في الشاليه يتسع لثلاثة أشخاصٍ أسماه: ركن النميمة. وحين قلت له: النميمة لتكون في أبهى وأعلى درجاتها يجب أن تكون بين شخصين لا ثلاثة، فضحك وقال: "أبو الرام إذا كانوا تلاتة بيكون في زخم وأكشن أكتر".
تذكّرت ما كتبه خالد خليفة ذات مرة على حسابه في فيسبوك: "أنا رجلٌ معطوبٌ أحتاج إلى أصدقائي وصديقاتي بقربي دوماً كي أستمر بالعيش". بعدها أخذت نفساً عميقاً وقلت بصوتٍ مسموعٍ: أبو الخلّ لقد عطبتني بموتك
هكذا كان خالد يطلق مسميات غريبةً لمعظم الأشياء بدايةً من رواياته مروراً بالشاليه وانتهاءً بالطبخات التي يعدّها للأصدقاء، وبالطبع لا يهتم بشرح هذه المسمّيات أو بكونها منطقيةً أو لا. فمثلاً لديه طبخة باسم "عجل يطير كالفراشات"، وطبخة أخرى اسمها "حين كنت أسير وحيداً نحو البحر". وفي كل مرة كنت أثني على طبخه اللذيذ فيها كان يقول لي: "ولو أبو الرام أنا خرّيج المطبخ الحلبي، ومتل ما بتعرف هيدا المطبخ الأول في العالم وبعده بيجي المطبخ الصيني". كنت أختلف معه حول هذا التصنيف، ولكنه كان يصرّ على أنني مخطئ، ويختم النقاش ضاحكاً وهو يقول: "كرمالك أبو الرام رح اعترف إنو المطبخ الحلبي هو تاني مطبخ بالعالم".
حين سقط النظام في سوريا، شعرت بالحزن لأنّ خالداً مات قبل أن يشهد هذا اليوم الذي كان يؤكد دوماً أنه سيأتي لا محالة، وأنه من المستحيل لهذا النظام أن يستمر. وفي الوقت نفسه فرحت لأنّ الشاعر منذر المصري بقي على قيد الحياة ليشهد هذه اللحظة؛ منذر الذي طلبت في أحد حواراتي معه أن يعلّق بجملٍ قصيرةٍ على بعض الأسماء، وحين ذكرت اسم خالد خليفة قال: أخاف أن يموت قبلي! لقد صدقت نبوءة منذر وفُجع بموت صديقه أيضاً.
قبل موت خالد ببضعة أيام، اتصل بي قائلاً: "أبو الرام أنا طلعت ع الشام وراجع بـ12 الشهر، حضّر حالك جاي حسام وألمى من أمريكا وبدنا نعمل سهرة عظيمة بشاليه الندم". بعد وفاته، اكتشفت أنّ عشرات الأصدقاء في اللاذقية أخبرهم خالد بأنه سيعود في 12 الشهر؛ أي قبل وفاته بأسبوعين تقريباً، وكانت هذه المرة الأولى التي لم يصدق فيها بوعده لأصدقائه.
خالد مات ومات معه بالنسبة لي جزء من حياتي الجميلة والرائعة والممتعة. لقد عطبني موته بمكان ما على الصعيدين النفسي والعاطفي، وبقيت لبضعة أشهر تؤرقني قبل أن أغفو فكرة أن أستيقظ على خبر موت أحد أصدقائي.
بعد موته، خطر في بالي أن أتصل بمن تبقّى لي من أصدقاء وأقول لهم: لا تتصلوا بي، لا تتواصلوا معي، لأنني لا أريد أن أُفجع بخبر موتكم، لكنني تراجعت لأنّ حجم السعادة والراحة معهم يستحق أن أدفع ثمنه الكثير من الألم والحزن على فراقهم.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.