زياد لم يكن مغنّياً، ولا ملحناً فحسب. زياد كان "غرفةً". نعم، غرفة كاملة عشنا فيها نحن الذين وُلدنا في آخر خراب القرن العشرين، وربما أول خراب الحادي والعشرين.
زياد ليس صوتاً في الراديو. كان شقّةً كاملةً في رؤوسنا. فيها موقد صغير، سجائر كثيرة، مقعد وحيد فيه انحناءة رجل متعب. شباك نصف مفتوح يطلّ على شارع لم يعد يمرّ به أحد، وآلة تسجيل فيها شريط قديم يقول: "بعرف إنك عَ اليمين، بس أنا قلبي عاليسار".
نحن جيل ما بعد الهزيمة ومحاولة الانتفاضة من داخل الوعي المرتجف، الذين وُلدنا في ظلّ أشباه جمهوريات وأرض محتلة، تربّينا على نثار من ذائقة. لم نرَ الحرب تلك، لكننا سمعناها في حنجرة فيروز. أما زياد، فقد سلخ تلك الحنجرة النقية، وركّبها على جسد يرتجف من السهر والكحول والشك.
قال لنا ببساطة: "اسمعوا، ليس كل شيء جميلاً. حتى الجمال، مريب!".
كنا نسمع فيروز في الصباح، وهي تقول: "زهرة المدائن"، ثم يجيء الليل، ونسمع زياد يقول: "شو عملتلي بالبيت؟".
البيت هو بيتنا. و"شو عملتلي؟" هي صرختنا.
نحن جيل ما بعد الهزيمة ومحاولة الانتفاضة من داخل الوعي المرتجف، الذين وُلدنا في ظلّ أشباه جمهوريات وأرض محتلة، تربّينا على نثار من ذائقة. لم نرَ الحرب تلك، لكننا سمعناها في حنجرة فيروز. أما زياد، فقد سلخ تلك الحنجرة النقية، وركّبها على جسد يرتجف من السهر والكحول والشك.
زياد ابن بيتٍ موسيقيّ مقدّس. لكنه سرق مفاتيح المعبد، وعاد إلينا بوردة ذابلة، وقال: خذوها، هذه الحقيقة.
وردة، لكنها وردة من ورق.
كان يقول: مش ضروري كل شي يلمع! وكانت ألحانه تقول الشيء ذاته. بيانو كسلان، كمنجة تمشي حافيةً على بلاط بارد، وجملة موسيقية تتعثر مثل من يمشي على درج وهو سكران.
ولم تكن المسألة فقط موسيقى. كان يسرد. كانت أغانيه قصصاً. أحياناً فيها شخصية واحدة تتكلم مع نفسها، أو مع أحد لا يردّ، أو مع جدار.
لم تكن المسألة فقط موسيقى. كان يسرد. كانت أغانيه قصصاً. أحياناً فيها شخصية واحدة تتكلم مع نفسها، أو مع أحد لا يردّ، أو مع جدار.
تماماً كما نفعل نحن، في ليالي العزلة الطويلة، حين نجلس على حافة السرير ونقول: "عم فكّر أعمل شي… بس شو؟!".
يحب الشباب زياد لأنّهم يشعرون أنه يشبههم، وأنه لا يضحك عليهم.
نحن الجيل الذي سمع من آبائه خطابات القومية، والوحدة، والتحرير، ثم وجد نفسه في عمل بلا معنى، في غرفة بلا شباك، وفي بلدٍ نصفه سجن ونصفه منفى. جاء زياد وقال: نعم، هذه هي الحقيقة، وأنا أيضاً مثلكم.
في "شو بخاف"، يقول: "مش ناوي أتغيّر، مش ناوي أتحسّن".
ونحن صدّقناه. وأحببناه أكثر لأنه لا يريد التحسّن!
زياد لا يعطيك وصفةً. لا يدّعي الحكمة. لا يمسك بيدك ويقودك إلى النور. إنه يجلس بجانبك في الظلمة، ويفتح علبة البيرة ويشعل السيجارة!
في حفلة بعلبك، يقول زياد بين الأغاني:
"ما بدّي أحكي سياسة... بس خلّوني أحكي".
ويضحك الناس.
ثم يتكلم كصديق لديه غضب خفيف، ساخر، يمضغه بأسنانه مثل لبان قديم.
هذا هو زياد. يعرف أنّ العالم خربان، لكنه لا يصرخ. يهمس فقط!
وهمسه كان أبلغ من صراخ كثيرين.
أما الشعر… فليس شعراً بالمعنى المتداول، إنما كلام مطحون بالحياة.
"أنا مش كافر، بس الجوع كافر، والذلّ كافر، والمرض كافر".
كل كلمة فيها شظيّة.
نسمعه، فنشعر أنّ أحدهم قال أخيراً ما كنا نخجل من أن نقوله، أو لا نعرف كيف.
نحن الجيل الذي سمع من آبائه خطابات القومية، والوحدة، والتحرير، ثم وجد نفسه في عمل بلا معنى، في غرفة بلا شباك، وفي بلدٍ نصفه سجن ونصفه منفى. جاء زياد وقال: نعم، هذه هي الحقيقة، وأنا أيضاً مثلكم.
أغانٍ مثل "بالنسبة لبكرا شو؟"، أو "اسمع يا رضا"، هي في حقيقتها مشاهد من مسرحية، أو صفحات من يوميات مكتوبة على هوامش دفتر مدرسة قديم.
في "بما إنّو"، يقول:
"بما إنو اللي صار صار،
ما بقا شي ينقال.
بلا ما نتذكر مبارح،
خلينا ننسى اللي جايي!".
كم مرةً تمنينا أن نقول ذلك، ولم نعرف كيف؟
أو ربما قلناه، لكن دون بيانو.
زياد قدّم لنا ما هو "مش مريح"، لكن حقيقي.
نحن الذين مللنا الأغاني المعلّبة، والكلام المجازف بالفرح الزائف، وجدنا فيه ملاذاً.
صوته لا يطربك، ولكنه يوقظك.
كأنّك تنام على حجر، ثم يجيء زياد ليقول: "قوم، في شي غلط".
ولا يشرح لك أين الغلط، بل يتركك تتقلب في فراشك.
حين نسمع زياد، نعود إلى أماكن لا نعرفها، لكنها تشبه بيت الجدّة.
تفوح منها رائحة المازوت والزعتر، وتخرج منها أصوات خفيفة:
ضحكة، صراخ، نقاش سياسي عقيم، بكاء مراهقة خلف الباب.
هو ليس موسيقياً فحسب. إنه مؤرّخ عائلي. كتب ذاكرة بيتٍ عربيّ، على وشك الانهيار.
الذين يحبّون "زياد"، غالباً ما يبدون غريبين في محيطهم.
لأنهم لا يحبّون الموسيقى من أجل الرقص، إنها وصفة من أجل البقاء، من أجل ترميم الروح!
أغاني زياد لا تشغّلها في فرح، بل حين تنكسر.
حين تمشي وحدك تحت المطر، وتقول في قلبك:
"ليش كل شي هيك؟"...
فيجيبك زياد من السماعة:
"مش قادر أقنع حالي، إنّو خلصت الحكاية".
حين نسمع زياد، نعود إلى أماكن لا نعرفها، لكنها تشبه بيت الجدّة. تفوح منها رائحة المازوت والزعتر، وتخرج منها أصوات خفيفة: ضحكة، صراخ، نقاش سياسي عقيم، بكاء مراهقة خلف الباب. هو ليس موسيقياً فحسب. إنه مؤرّخ عائلي. كتب ذاكرة بيتٍ عربيّ، على وشك الانهيار.
زياد سيبقى حيّاً. لكننا نشعر أنه توقف في مكان ما من التسعينيات.
ربما تعب، أو ملّ، أو رأى أننا لا نستحق أكثر.
لكنه ترك لنا ما يكفي.
أغانٍ تشبه مرايا مكسورةً، نرى فيها أنفسنا بالتشويش الضروري.
فنحن لا نحب الحقيقة الصافية المدعاة. نحبّ الحقيقة المعطوبة، كما هي!
والحقيقة المعطوبة، كانت دائماً لحناً من زياد.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.