يجلس الطفل على أرضية المطبخ محاطاً بألعابه، يُمسك السيارة الصفراء ويحرّك دواليبها، وحين تكف عن الدوران يعيد الكرّة. تستمر هذه الحركة بضع دقائق إلى أن تقرّر والدته أخذ السيارة منه وتقديم لعبة ثانية إليه. هذا ما طلبته المُعالِجة منها.
الطفل لا ينطق، وهذا ما جعل والدته تقصد طبيباً مختصاً بتشخيص مرض التوحّد لدى الأطفال، وتعرض حالة ابنها البالغ من العمر ثلاث سنوات.
قبل أشهر ظنّت نائلة، التي تفضّل عدم الكشف عن اسمها الحقيقي تجنّباً للمشاكل العائلية، أن ابنها يعاني تأخّراً في النطق، لكن قبل عيد ميلاده الثالث بحسب قولها، قبلت أن الحقيقة لا تقتصر على هذه المشكلة، وأن هناك مشكلة أكبر حاولت أن تتجنّبها.
بعد تشخيص ابنهما بمرض التوحّد، قرّر الوالد أن ينفصل عن الأم وألقى اللوم عليها، إذ اعتبر أنها لم تحسن تربيته
“لم أكن أن أريد أن أسمع كلمة توحّد، فبالنسبة لي هذا المرض يعني أن طفلي لن يحظى بحياة طبيعية لأنه غير قادر على الاندماج في الحياة العادية. لكن بحسب كل التشخيصات تبين أن ابني مُصاب بمرض التوحّد”.
بعد التشخيص، قرّر الوالد أن ينفصل عن نائلة وألقى اللوم عليها، إذ اعتبر أنها لم تحسن تربية ابنهما في السنوات السابقة، وبالتالي أدى إهمالها إلى انفصال الطفل عن الواقع. هذا التحليل يُضحك نائلة التي تعلم جيّداً أن لا علاقة لها بالأمر، وأن طليقها يسعى للتهرّب من مسؤولياته ويهمّه أن يحظى بعائلة “طبيعية”، وبالتالي اقتنص توحّد طفلهما لينسحب من حياتهما بهدف بناء حياة جديدة.
مدرسة مختصّة بالتوحّد تُقفل أبوابها
في سياق منفصل، أعلنت مدرسة 123 Autism School وهي المدرسة الوحيدة في لبنان التي أنشئت لاستقبال الأطفال المصابين بالتوحّد، عن إقفال أبوابها في الأسابيع الماضية، بسبب تداعيات الانهيار الاقتصادي من كل النواحي ولعدم قدرة الإدارة على تأمين الوقود لإضاءة الصفوف والمكاتب.
في لبنان عدّة مدارس معنية بدمج التلامذة ذوي الاحتياجات الخاصّة في جميع الصفوف، أو تأمين صفوف خاصّة لهم، لكن مدرسة 123 Autism School هي الوحيدة التي وُجدت لاستقبال التلامذة المصابين بالتوحّد وتعليمهم.
"الكارثة ستحل علينا جميعاً"
“كيف سيكون الجيل المقبل؟”، تسأل كاتبة الصغار والناشئة رنا حاف وهي أم لطفل مُصاب بالتوحّد يبلغ من العمر 12 عاماً.
مع بدء تفشّي وباء كورونا لجأت رنا للتعليم المنزلي الذي بحسب تجربتها يفيد طفلها بالتعامل مع يومياته عبر اكتسابه المزيد من المهارات.
تقول رنا لرصيف22 إن المدرسة التي أقفلت أبوابها تمس “نخبة النُخب”، فالأهالي الذين ينتمون للطبقة المتوسطة لم يكن بمقدورهم دفع تكلفة التسجيل قبل الانهيار الاقتصادي. لكنها تعتبر أيضاً أنّ إقفال المدرسة، بغض النظر عن القدرة المادية، خسارة للأطفال في لبنان الذين يعانون من التوحّد.
ماذا سيحدث لو استيقظ ابني دون أن يكون بمقدرته تلقّي أي جرعة من الدواء؟ في هذا اليوم ستحل الكارثة علينا جميعاً
ترى رنا أن الحياة كما هي اليوم صعبة على كل الأطفال، فهؤلاء حين يخرجون إلى يومياتهم بعد حجر استمرّ أكثر من عام، وبعد انهيار اقتصادي شامل، وانفجار، وغياب تام عن التواصل الاجتماعي، يعانون من ناحية التأقلم، وبالتالي فإن معاناة الأطفال المصابين بالتوحّد تتضاعف في لبنان، وتقول: “منذ سنوات وأنا أرفع صوتي وأكتب عن الإهمال الموجّه نحو أطفال التوحّد من قبل المعنيين، هل لأن هؤلاء لا صوت لهم وليس بإمكانهم التكلّم، يتم تهميشهم أكثر فأكثر؟”.
وتضيف: “أنا ضد ابتياع عدد كبير من الأدوية، لكنّ الوضع الحالي أجبرني على تخزين أدوية ابني لأضمن حمايته في الأشهر القادمة، ففي الأيام العادية حين نسعى إلى تخفيف جرعة دوائه تكون النتيجة أنه يعاني ويُصبح غير مرتاح، وبالتالي لا يمكنني أن أتخيل ماذا سيحدث لو استيقظ في يوم من الأيام دون أن يكون بمقدرته تلقّي أي جرعة من الدواء، في هذا اليوم ستحل الكارثة علينا جميعاً، وهؤلاء الأطفال سيفقدون قدرتهم على الهدوء وعلى التعلّم، ولن يتمكنوا من احتمال اليوميات، وبالتالي سيصبح الوضع خطراً جداً”.
وتختم: ”الأطفال المتوحّدون يعانون في الأصل بهدف الاندماج في المجتمع، واليوم صاروا يعانون من تغييرات يومية فُرضت عليهم، مثل سفر الأهل أو بقائهم في المنزل، والتداعيات الاقتصادية التي قد تمنعهم من الخروج. هذه التغييرات جذرية وحادّة وستلعب دوراً سلبياً في مسار تأقلمهم وستؤدي إلى تراجع إنجازاتهم اليومية. ولذلك أتساءل عمّا سيحل بهم حين يكبرون. ففي الأساس هناك وصمة حول أطفال التوحّد، لأنهم بحالة اختباء دائم بحسب المجتمع، ومع المشاكل القادمة في لبنان سيعانون أكثر فأكثر، وسيخبّئهم المجتمع أكثر فأكثر”.
الانهيار يؤخّر علاج ابني
استأجرت نائلة منزلاً صغيراً في منطقة البسطة في بيروت، وانتقلت للعيش فيه مع ابنها بعد طلاقها.
هناك بدأت المعلمة المختصّة بالقدوم ثلاث مرّات في الأسبوع، وتقديم جلسات خاصّة معنية بالنطق والحركة، مدّة كل جلسة ساعتان. لكن إذا ما بقي الوضع الاقتصادي كما هو، فقد تضطر نائلة إلى إيقاف هذه الجلسات أو تقليص عددها، وتشرح: “بحسب ما اكتشفته، فإن متطلبات متابعة تفاصيل مرض التوحّد مكلفة جداً. سعر الساعة الواحدة من الجلسة مع المعالجة يبدأ بـ 50 ألف ليرة لبنانية، بالإضافة إلى جلسات أخرى متنوعّة بين نفسية وجسدية وحسيّة، تختلف بحسب حالة كل طفل وقدراته. صار علاج ابني الذي لا يزال في بدايته يكلّفني حوالى أربعة ملايين ليرة لبنانية شهرياً، في الوقت الذي لا يتخطى فيه راتبي ثلاثة ملايين. أستخدم في الوقت الحالي مدخّراتي لكن بعد فترة سألجأ إلى عائلتي لطلب المساعدة، لأن علاج ابني يجب أن يستمر، وإلا فسيفقد كل قدراته على التحسن في المستقبل، ونحن سندفع الثمن".
هناك وصمة حول أطفال التوحّد، لأنهم بحالة اختباء بحسب المجتمع، ومع المشاكل القادمة في لبنان سيعانون أكثر فأكثر، وسيخبّئهم المجتمع أكثر فأكثر
وتختم: "العام القادم، في حال استمرار الانهيار، لن أتمكّن من إرسال ابني إلى المدرسة، وذلك بسبب عدم توفّر مادّة البنزين وانقطاع الكهرباء الدائم، وعدم قدرتي على تكليف معلمة ظل لمتابعته أثناء فترة دمجه في الصفوف خلال ساعات الدراسة. الوضع صعب جداً، ويؤثّر مباشرة على حالة ابني وأشعر أنّني مكبّلة. لكن عليّ واجب بأن أتحمل مسؤولية معالجته بإمكانيات شبه معدومة، وفي بلد يقف أمامي كعائق عند كل خطوة أسعى لاتخاذها من أجل مصلحته”.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...