أميرة عباسية تمتّعت بمكانة كبيرة خلال حياتها بفضل محبّة أبيها لها؛ الخليفة المهدي بن أبي جعفر المنصور. رغم هذه المكانة التي تحاكت كُتب التاريخ عنها إلا أنها لم تلعب دوراً مؤثراً طيلة حياتها.
فقرةٌ واحدة في تاريخ الطبري سلّطت الأضواء على تلك الأميرة وسلوكياتها التي تسرّبت عبر مرويات التاريخ ما يكفي من معلومات لتؤكد تشبهها بالرجال حتى أصبحت على رأس طيف من النساء اشتهرن طيلة العصر العباسي بلقب "الغلاميات"؛ إنها البانوكة (البانوقة) بنت الخليفة محمد المهدي وأخت ابنه الخليفة الشهير هارون الرشيد.
بنات المهدي
حسبما أورد علي الخربوطلي في كتابه "المهدي العباسي: ثالث الخلفاء العباسيين"، فلقد كان للخليفة المهدي العباسي ثلاث أميرات، وفي بعض التقديرات الأقل الشهرة وصل العدد إلى أربع، كما ذكر محمود شاكر في كتابه "هارون الرشيد وأسرته".
فقرةٌ واحدة في تاريخ الطبري سلّطت الأضواء على تلك الأميرة وسلوكياتها التي تسرّبت عبر مرويات التاريخ ما يكفي من معلومات لتؤكد تشبهها بالرجال حتى أصبحت على رأس طيف من النساء اشتهرن طيلة العصر العباسي بلقب "الغلاميات"
هؤلاء الفتيات هن: العباسة (أمها أم ولد لم يُعرف اسمها) التي ارتبطت بشكلٍ غير مباشر بواحدة من أكثر مآسي التاريخ العباسي وهي نكبة البرامكة بعدما برّر بعض المؤرخين -مثل ابن كثير- أن السبب الرئيسي الذي دفع هارون الرشيد للتنكيل بجعفر بن يحيى البرمكي هو قصة الحب التي جمعته بأخته العباسة، وهو قولٌ انتقده مؤرخون آخرون على رأسهم ابن خلدون.
الفتاة الأخرى هي علية (أمها البحترية بنت الأصبهبذ) التي عُرفت بحُب الغناء والشعر والموسيقى والملابس الجميلة ووسائل الزينة حتى أنها كانت ترتدي غطاء رأس مرصّعاً بالذهب والجواهر؛ سلوك قلّدتها فيه كثيرٌ من فتيات الطبقة الراقية.
والثالثة المُختلف على وجودها من عدمه هي سُلَيمة.
على عكس علية تماماً اشتهرت أختها البانوقة بأنها "تحب ارتداء ملابس الغلمان وتتقلد السيف"!
في كتابيهما "دليل خارطة بغداد المفصل" فسّر مصطفى جواد وأحمد سوسة اسمها بأنه صيغة تصغير مشتقة من لقب "بانو" الذي كان كلمة احترام تُطلق على السيدات النبيلات في بلاد فارس وتعني سيدة المنزل أو الملكة، وكأنها تصف ابنة الخليفة بـ"الأميرة الصغيرة".
المهدي: أب شرقي متفتح
على الرغم من تعدد زيجات المهدي، فإن الخيزران كانت امرأته المفضّلة التي منحها مكانة لم تبلغها أيٌّ من زوجاته حتى أن زوجة المهدي الأولى ريطة بنت أبي العباس السفاح كانت تتقرب إليها بالهدايا. للمهدي أنجبت الخيزران 3 أبناء جميعهم تمتعوا بمكانة استثنائية في حياة المهدي، هم: موسى الهادي (الخليفة بعد المهدي)، هارون الرشيد (ولي عهد الهادي والخليفة من بعده)، اليانوقة.
وَصَفَ المستشرق البريطاني جي لسترانج (Guy Le Strange) اليانوقة في كتاب "بغداد في عهد الخلافة العباسية" بأنها "ذات شعر فاحم وقوام رشيق وجسم بض تشف ثيابها عنه"!
وصفٌ أثار اعتراض رياض عبدالله محمد في كتابه "العراق وبلدان الخلافة الشرقية في مؤلفات المستشرق البريطاني كي لسترنج: دراسة تحليلية"، فكتب: "لا نعرف كيف يتمشى هذا الوصف مع فتاة صغيرة السن، كما أن لسترانج لم يشر إلى المصادر التي استقى منها هذه المعلومة، ولنفرض أن هذا الوصف موجود فعلاً في مصادره ألا يستحق أن يُناقش مع العقل حتى نتأكد أنه يتماشى مع فتاة كاملة بالغة لا صغيرة السن".
في معرض حماسه للاعتراض على لسترنج لم يذكر رياض أن المستشرق الإنجليزي اعتمد في تكوين هذه الرؤية على ما ذكره الطبري في تاريخه بأن المهدي قدم إلى البصرة فرآه البعض في شوارعها وهو "يسير أمامه في يده الحربة، وابنته البانوقة تسير بينه وبين يديه وبين صاحب الشرطة في هيئة الفتيان، عليها قباء أسود متقلدة السيف، وإني لأرى ثدييها قد رفعا القباء لنهودهما".
حسبما ورد في كتاب "النساء الحاكمات من الجواري والملكات" ليحيى الجبوري، فإن الخليفة المهدي أظهر ميلاً كبيرًا لأبناء الخيزران فبعدما عيّن ابنها هارون الرشيد وليًا لعهده أظهر اهتمامًا كبيرًا بأخته البانوكة التي "بلغ شغفه بها إلى حدِّ أنه لم يكن يفارقها"، كانت البانوكة تلبس زي الرجال وتصاحبه في أسفاره.
لذا اعتبرت أمل محي الدين الكردي في كتابها "دور النساء في الخلافة العباسية"، أن المهدي كان من الخلفاء القلائل الذين حرروا المرأة من ثنائية الحصر والقصر مستدلة بذلك بمساحة الحرية التي أعطاها لابنته البانوقة.
ويضيف عبدالجبار الجومرد في كتابه "هارون الرشيد: حقائق عن عهده وخلافته"، أن المهدي أظهر رغبة مبكرة في تثقيف بنيه ثقافة عسكرية ورياضية وتدريبهم على المخاطر، وفي هذا الشأن لم يفرّق بين هارون الرشيد وبين أخته البانوقة.
أرجع جواد ميول المهدي "التحررية" إلى ما رآه من أمه أروى الحميرية من قوة شخصية بعدما اشترطت على والده أبي جعفر المنصور ألا يتزوج عليها ولا يتخذ لنفسه سرية وكتبت عليه بذلك كتاباً. بعد مرور سنوات على تلك الزيجة حاول أبو جعفر الفكاك من هذا الكتاب فراح يستفتي الفقهاء لكيفية التملّص مما عقده على نفسه من شرط حرّم عليه باقي النساء إلا أن أحدًا لم يُجبه لطلبه وبقي وفياً لها مجبراً طيلة حياتها.
ويزيد جواد أن المرأة القحطانية الحميرية كانت أكثر حرية واستقلالاً من المرأة العدنانية سواءً في الجاهلية أو الإسلام، لذ فإنه ليس من العجيب، بحسبه، أن يربّي المهدي بناته تربية متحررة أظهرت فيها إحدى بناته (علية) حُبًا للأنوثة والغناء بينما أظهرت أختها اتجاهاً معاكساً تماماً تقبله الخليفة بصدرٍ رحب حتى أنه لم يعترض على مجاهرتها به أمام الناس.
هل كانت من الغلاميات؟
في كتابها "المرأة في أدب العصر العباسي" وصفت واجدة الأطرقجي سلوكيات الأميرة العباسية بـ"الغريبة"، معربةً عن تفهمها لانتشار ظاهرة "الغلاميات" في العصر العباسي وهن جواري سكنَّ القصور لخدمة عِلية القوم وهن يرتدين ملابس الغلمان ويتشبهن بهم في كل شيء بما فيها ارتداء عمامة الرأس، لكن أن تحذو ابنة الخليفة نفس الدرب فهو أمر غريب فشلت الكاتبة في معرفة أسبابه.
دُفنت البانوكة في موضع مقابر كانت للمجوس قبل بناء بغداد بعدها اتّخذت ذات المنطقة مثوى أخير للمسلمين وكانت أول مَن دُفن من العباسيين في تلك المقبرة. عندما أتى الخليفة خبر وفاتها حزن عليها هو وأمها الخيزران حزناً شديداً وزهد الخليفة عن الطعام والشراب مُدة طويلة
في البداية إذا حاولنا نفي تُهمة "الغلمنة" عن البانوكة لسبب هام وهي أنه وفقاً للراجح في مرويات التاريخ فإن السيدة زبيدة هي أول مَن اتخذت الجواري الغلاميات لابنها الأمين الذي لم يتولّ الخلافة إلا بعد هارون الرشيد.
يضحد هذا التبرير رواية غير شائعة بأنه "كان لهارون الرشيد جارية غلامية"، حسبما نقل محمد مصطفى هدارة في كتابه "المأمون: الخليفة العالم"، وهو ما يعني أن الأمين لم يستحدث الغلاميات كما هو شائع بل وجدن قبله بكثير، وهو ما يعني أن أخته كان لديها ما يكفي للاطلاع على مثل هذه التجارب وتقليدها لو شاءت.
الوفاة المبكرة
وفقًا لما ورد في كتاب "مرآة الزمان في تواريخ الأعيان"، فإن البانوقة توفيت بشكلٍ مباغت في بغداد سنة 165هـ خلال حياة أبيها.
دُفنت البانوكة في موضع مقابر كانت للمجوس قبل بناء بغداد بعدها اتّخذت ذات المنطقة مثوى أخير للمسلمين وكانت أول مَن دُفن من العباسيين في تلك المقبرة. عندما أتى الخليفة خبر وفاتها حزن عليها هو وأمها الخيزران حزناً شديداً وزهد الخليفة عن الطعام والشراب مُدة طويلة.
وبحسب الطبري "أظهر عليها المهدي جزعًا لم يُسمع بمثله فجلس للناس يعزونه، وأمَرَ ألا يُحجب عنه أحد فأكثر الناس من التعازي واجتهدوا في البلاغة".
هذه الحالة المأساوية دفعت العديد من الأعيان وموظفي القصر للتماهي معها وباتوا مُجبرين على تقديم أخلص التعازي إلى الخليفة، من بينهم شاعر البلاط سَلمُ الخاسر الذي قال: (أودى ببانوكة ريب الزمان/ مؤنسة المهدي والخيزران... لم تنطو الأرض على مثلها/ مولودة حن لها الوالدان... باوك يا بنت إمام الهدى/ أصبحت من زينة أهل الجنان).
بينما قال الأديب الخطيب شبيب بن شيبة: "يا أمير المؤمنين، الله خير لها منك وثواب الله خير لك منهاـ وأنا أسأل الله ألا يحزنك ولا يفتنك".
أيضاً رُوي عن الشاعر أبي العتاهية أنه دخل على المهدي بعد وقتٍ وجيزٍ من وفاة البانوكة فأشعر له عنها قائلاً: (يا من سلا عن حبيبٍ بعد ميتته/ كم بعد موتك أيضاً عنك من سأل.. كأن كل نعيم أنت ذائقه/ من لذة العيش يحكي لمعة الآل)، حسبما ورد في كتاب الأغاني.
هذه "الكربلائيات" التي استضافتها بلاط الخليفة أثارت اعتراض بعض رجال الدين الذين رأوا كل ذلك مبالغاً فيه حتى لو كانت الراحلة أميرة عباسية، بحسب الجبوري.
بعدها لحقت بها أمها بعدما تُوفيت سنة 173هـ ودُفنت بجوارها في المقبرة العباسية التي اشتهرت لاحقاً بِاسم "مقبرة الخيزران" وهي الأصل الذي قامت حوله بلدة الأعظمية، حسبما ذكر مصطفى جواد في كتابه "سيدات البلاط العباسي". بعدها لحق بهما الإمام أبو حنيفة النعمان ومحمد بن إسحاق صاحب كتاب المغازي وغيرهما الكثيرون.
بعد الرحيل المفاجئ للأميرة العباسية الصغيرة فإن ما تبقى من إرثها هو بناية عظيمة اشتهرت في بغداد العباسية عُرفت بـ"دار البانوكة"، لا نعلم إن كان الخليفة وهبها لها في حياتها أو قرر بعد رحيلها تخليد اسمها بإطلاقها عليها، مثلما فعل مع المقبرة الأخرى التي منحها اسم ابنته العباسة بجانب ما عُرف بـ"سويقة العباسة" و"دار العباسة" بالمخرم. لكن المؤكد أن "دار البانوكية" كانت بناءً فارهاً حتى أن كثيراً من المؤرخين العباسيين عدّوها من معالم بغداد الكبرى.
في كتابها "البيت العربي في العراق في الإسلامي" منحتنا فريال خضير المزيد من التفاصيل عن هذه الدار قائلة إنها "كانت تقع في محلة المخرم على أحد فروع نهر موسى في الجانب الشرقي".
عقب رحيل البانوكة والخيزران وقعت نكبة البرامكة التي شهدت انقلاب هارون الرشيد على يحيى البرمكي وابنه الفضل رغم نشأتها في كنفهما. في محاولةٍ منها للإفراج عن عائلتها لجأت أم جعفر بن يحيى البرمكي إلى بيت البانوكة ومنه أرسلت تطلب زيارة هارون في قصره فلم يأذن لها لكنها لم تستسلم للانتظار فسارت حافية تجاه قصر الرشيد، أمام الباب طلبت لقاءه فتحرّج منها وقابلها إلا أنه رفض طلبها بالعفو عن البرامكة.أميرة عباسية تمتّعت بمكانة كبيرة خلال حياتها بفضل محبّة أبيها لها؛ الخليفة المهدي بن أبي جعفر المنصور. رغم هذه المكانة التي تحاكت كُتب التاريخ عنها إلا أنها لم تلعب دوراً مؤثراً طيلة حياتها.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.