بخفة يدفع الكرة، وبقدم واحدة، وطرف صناعي، يركض المُدرِّب الإيرلندي سيمون بيكر، في ملاعب قطاع غزة، حاملاً على عاتقه تدريب أول فريق للناشئين في رياضة كرة القدم من ذوي البتر.
يقول بيكر (57 عاماً) لرصيف22: "عندما فقدتُ قدمي اليمنى خلال عملي في البناء، اتجهتُ لطريق لم أكن اعرف ما هو! تحوَّلتُ من شخص طموح إلى آخر مدمن على الكحول، مُحبَط، وحاولت الانتحار".
لحظة الانتحار كانت أشد اللحظات إثارة في حياته، ودفعته لتغيير اتجاه حياته، يقول بيكر: "عندما حاولتُ الانتحار، استيقظتُ في المستشفى قائلاً لنفسي: إنَّ الأمر عائد لي لتغيير وجهة نظر الناس، لأنَّ الحياة لا تدين لي بشيء، ولكن يجب عليّ أن أحاول قدر المستطاع أن أصنع من نفسي شيئاً، لذلك تجاوبتُ مع علاجي، ومع ممارسة الأنشطة الجسدية، واستعدتُ إحساسي بالفخر، واحترام الذات، ومن ثم شاركت في ركض الماراثون، حتى حققت رقماً قياسياً في موسوعة جينيس، كأسرع عداء بساق واحدة".
ويحكي بيكر قصته مع الماراثون: "في السنة التالية ركضت 275 كيلو متر، لماذا فعلت ذلك؟ لأنني أردتُ تغيير وجهة نظرة العالم، إذ لمجرد أنه لدي ساق واحدة يعني أن يقوم شخص آخر بالأدوار نيابة عني، هذا لطف منه وأقدّره، ولكن لا تحكم على الكتاب من غلافه، وهذه كانت الطريقة الوحيدة، وإلا سوف يعتبرون أني صاحب إعاقة، ولن يحتاجوني، ولن يتقبلوني، لذلك أردت تغيير وجهة النظر هذه، وعندما راجعت نفسي أدركت أني لم أكن مريضاً في يوم من الأيام، لقد كنت شخصاً طموحاً مُحلِّقاً".
"علاجنا الخروج إلى العالم"
يقول بيكر: "إن بعض الأشخاص يصرفون الملايين على الأدوية والمخدرات حتى يشعروا بالسعادة، ولكن أنا سأقول لك كيف تجعل من نفسك شخصاً سعيداً، انهض من كرسيك، اخرج للعالم، أو اذهب للعمل، افعل شيئاً، اجعل نفسك نشيطاً، وهذه الحقيقة التي سرت بها".
كيف ترى هذا الملعب؟ كيف تصفه؟
يجيب بيكر: " لأي شخص يرى هذه الصور ليقل لنا كيف يرى هذا المكان؟ نريد أن نلهم الناس، هل تعرفون أن كل شيء ممكن! ولكن أول شيء يجب أن تقوم بعمله هو البدء بالإيمان بنفسك، وانظروا للموضوع بأنه ليس له علاقة بالتفوّق أو بكونك الأفضل أو الفائز بالماراثون، هؤلاء الأطفال جاؤوا اليوم إلى هنا لأنهم يعرفون أنهم المستقبل، بعض الشباب لديهم خيار أن يبقوا في المنزل ويبددوا حياتهم أو أن يتسولوا في الشوارع ويجعلوا الناس تشعر بالأسى لأجلهم، ولكن عرفت شيئاً واحداً في غزة، وهو أن الشباب الفلسطينيين ليسوا هكذا أبداً، فهم لا يحتاجون أي شيء من أحد إلا الدعم المعنوي وتشجيع مواهبهم.
"بعض الأشخاص يصرفون الملايين على الأدوية والمخدرات حتى يشعروا بالسعادة، ولكن أنا سأقول لك كيف تجعل من نفسك شخصاً سعيداً، انهض من كرسيك، اخرج للعالم، اجعل نفسك نشيطاً، هذه الحقيقة التي سرت بها" مدرب إيرلندي لفريق ذوي القدرات الخاصة في غزة
"عرفت شيئاً واحداً في غزة، وهو أن الشباب الفلسطينيين ليسوا هكذا أبداً، فهم لا يحتاجون أي شيء من أحد إلا الدعم المعنوي وتشجيع مواهبهم"
يتحدث بيكر عن شباب وبنات غزة قائلاً: "الشباب والفتيات في غزة رائعون، وأتمنى لو أستطيع جمع الحماس الذي لديهم لأضعه في زجاجة، وإذا قمت ببيعها سوف أصبح مليارديراً، فهم يسقطون ومن ثم ينهضون ويكملون المسير في رحلتهم، رأيت هذا عندما قمت بزيارة غزة مرتين، ولم يصدف أن تحدث معي شخص وقال إنه بحاجة لمساعدة أو شفقة، مع أني لا أعرف اللغة العربية لكنني أفهم اللاعبين، والانطباع الذي وصلني من غزة هو أنهم لا يريدون مني مساعدة أو تعاطف، إنهم يريدون أن يقفوا على أرجلهم ويكونوا فخورين بأنفسهم.
ولكن ماذا عن ذوي القدرات الخاصة الباقيين؟
محمد النجار (13 عاماً) وهو عضو في فريق الناشئين لكرة القدم، يقول لرصيف22 عن تجربته: "في بداية إصابتي، وعند بتر ساقي اليمنى، إثر حادث مررت به منذ ثلاث سنوات، قلت بيني وبين نفسي: لقد انتهت حياتي، ولا أستطيع أن أخطو خطوة إلى الأمام".
يتذكر النجار تلك اللحظة الفارقة في حياته: "في هذا الوقت أصابني الاكتئاب، وشعرت بالعجز وأنا في بداية عمري، لكن عندما شاركت مع فريق مبتوري القدم، وقابلت الكابتن سيمون، شعرت حينها أن الحياة بدأت تبتسم من جديد، والطموح الذي يراودني هو أن أشارك في دوريات خاصة بلعبة كرم القدم، والفوز بميداليات وكأس العالم، وأن أرفع علم فلسطين، وأكون نموذجاً من أبطال غزة الذين يتفوقون على إصابتهم بالإرادة والعزيمة وحب الحياة".
الدمج الاجتماعي عبر الرياضة
تتبنى اللجنة الدولية للصليب الأحمر في غزة عملية "دمج ذوي الاحتياجات الخاصة مع المجتمع عبر الرياضة"، باعتبارها "نافذة" لهذا الدمج، بحسب سهير زقوت، المتحدثة باسم اللجنة لرصيف22.
تكمل زقوت فكرة المشروع قائلة: "نشجع المجتمعات لدمج ذوي الاحتياجات ليلعبوا، ويمثِّلوا بلادهم في البطولات، ويحصلوا على ميداليات وألقاب، فهذا يشجع المجتمعات على منح الأشخاص ذوي الإعاقة، فرصة أخرى في الحياة الاجتماعية والرياضية والثقافية والاقتصادية".
وعن المدرب الإيرلندي ودوره في هذا المشروع، تقول زقوت: "جاء المدرب الإيرلندي سيمون بيكر، الذي أنشأ في بلده الجمعية الإيرلندية لكرة القدم لذوي البتر، واحتل منصب الأمين العام للاتحاد الدولي لكرة القدم لذوي البتر في قطاع غزة إبريل الماضي، بعد أن تعاقدت معه اللجنة الدولية للصليب الأحمر لتشكيل وتأهيل أول فريق لكرة القدم من الأطفال مبتوري الأطراف في غزة، من خلال دعم الأطفال والشباب لإرساء رياضة كرة القدم لذوي البتر".
"نجح بيكر في إنشاء 5 فرق رياضية، ووصل عدد لاعبي كرة القدم من ذوي البتر في قطاع غزة إلى 60 لاعباً".
توضح زقوت إنجازات بيكر أكثر: "نجح بيكر في إنشاء 5 فرق رياضية ووصل عدد لاعبي كرة القدم من ذوي البتر في قطاع غزة إلى 60 لاعباً، حيث قدم المساعدة والتدريبات للفرق الخمسة على مدار6 شهور، من أجل الانضمام للاتحاد الدولي لكرة القدم لذوي البتر، للمشاركة في مباريات كأس العالم لكرة القدم مستقبلاً لعام 2020، آملين بالرجوع مرة أخرى إلى غزة ليتمكن من تدريب فرق أخرى".
وتكمل زقوت: "كما عاد فريق كرة السلة للكراسي المتحركة عام 2015 إلى غزة بعد فوزه بالميدالية البرونزية، في أول مشاركة له في بطولة حنا لحود الدولية التي نُفِّذَت في لبنان، والتي كانت من فريق واحد لكرة السلة من ذوي الاحتياجات الخاصة، فأصبحوا الآن 9 فرق، من ضمنهم 4 فرق للإناث، نأمل أن يفعل ذلك مع فريق كرة القدم لأن لديهم القدرة والموهبة".
"تعلمت الكرة وتصالحت مع جسدي"
لم يخلُ وجه الطفلة عائشة عبد الله (10 أعوام) والتي ولدت فاقدة يدها اليسرى، من السعادة، رغم أنها عاشت طفولة صعبة، لكنها اليوم باتت قادرة على ممارسة رياضة كرم القدم، من خلال مشاركتها في فريق لذوي الاحتياجات الخاصة في قطاع غزة.
تقول عائشة لرصيف22: "منذ سنتين اكتشفت الرياضة، وأحببت لعبة كرة القدم مثل أي شخص طبيعي يملك قدمين ويدين، والتحقت بجمعية فلسطين لكرة القدم عند زيارتي إلى مركز الأطراف الصناعية مع عائلتي، وسمعت عن تسجيل لفريق كرة القدم لذوي الاحتياجات الخاصة، وقررت أن أشارك بهذا الفريق".
وتتابع الطفلة عبد الله: "عندما قابلت المدرب سيمون تعلمت منه النشاط والقوة وممارسة جميع أنواع الرياضة وألا أستسلم لشيء، وعلمني أيضاً أن الإنسان لديه قوة كبيرة بداخله، ولا يفرط بها بسهولة".
"أن يتصالح المرء مع إصابته ويصنع من إعاقته تحدياً، ليفرض قاعدة المعاق: معاق العقل لا الجسد"، هذا ما حاول أن يثبته المدرب الإيرلندي سيمون بيكر، والذي نجح بتغير نظرة المجتمع إلى ذوي الاحتياجات الخاصة للأفضل، كانت في البداية نظرة شفقة وعدم مساواة، الآن نظرة تقدير وتشجيع لهم، فليست الكرة ما جمعهم، بل إيمانهم بقدرتهم على تَخَطِّي ما أصابهم.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يوممتى سوف تحصل النساء في إيران على حقوقهم ؟!
مستخدم مجهول -
منذ يومينفاشيه دينيه التقدم عندهم هو التمسك بالتخلف
مستخدم مجهول -
منذ يومينعظيم
Tester WhiteBeard -
منذ يومينtester.whitebeard@gmail.com
مستخدم مجهول -
منذ يومينعبث عبث
مقال عبث من صحفي المفروض في جريدة او موقع المفروض محايد يعني مش مكان لعرض الآراء...
مستخدم مجهول -
منذ 6 أيامرائع