في أيار/ مايو 2024، أعلنت النرويج اعترافها الرسمي بدولة فلسطين، وتبعتها أيرلندا وإسبانيا، وقد بدا الأمر حينها وكأنه بادرة شجاعة في وجه صمتٍ دولي طال أمده. وفي تموز/ يوليو الجاري، أعلنت فرنسا نيتها الاعتراف بفلسطين رسمياً خلال جلسة الجمعية العامة للأمم المتحدة في أيلول/ سبتمبر المقبل، ولحقتها بريطانيا بخطوة مشابهة، مشروطة بوقف إطلاق النار ودفع عجلة حلّ الدولتين.
بدا هذا التبدّل في المواقف الدبلوماسية الأوروبية كأنه يتصاعد ببطء، ويتناسب طرداً مع حجم المجازر في غزة، وهو ما يطرح سؤالاً مريراً: هل كان على الفلسطينيين أن يُبادوا حتى يتم الاعتراف بدولتهم؟
بدا هذا التبدّل في المواقف الدبلوماسية الأوروبية كأنه يتصاعد ببطء، ويتناسب طرداً مع حجم المجازر في غزة، وهو ما يطرح سؤالاً مريراً: هل كان على الفلسطينيين أن يُبادوا حتى يتم الاعتراف بدولتهم؟
تناقض المعايير الأوروبية في حق تقرير المصير
تتباهى الدول الأوروبية، في خطابها السياسي، بدعمها حق الشعوب في تقرير مصيرها، غير أنّ هذا المبدأ، عند تطبيقه على الحالة الفلسطينية، غالباً ما يتعثّر في دهاليز الحسابات الجيوسياسية والمصالح الغربية.
حين انفصلت كوسوفو عن صربيا، عام 2008، سارعت معظم الدول الأوروبية إلى الاعتراف بها، استناداً إلى مبدأ "حق تقرير المصير"، وعندما غزت روسيا أوكرانيا عام 2022، وقفت أوروبا صفّاً واحداً للدفاع عن سيادة كييف وحقّها في الاستقلال.
لكن فلسطين، هذه الكلمة، ظلّت مشوبةً بالتحفّظ، وكأنّ الاعتراف بها تهديد للميزان الأخلاقي، وليس تصحيحاً له. وعلى الرغم من أنّ الاحتلال الإسرائيلي لم يتوقف عن التوسّع والبطش، بقي الاعتراف الأوروبي حبيس الشعارات، وفقط حين تصاعدت المجازر في غزة إلى درجة الإبادة، بدأ بعض الأوروبيين يستيقظون.
السلطة الفلسطينية ومسار 2011
ليست هذه المرة الأولى التي يسعى فيها الفلسطينيون للحصول على الاعتراف الدولي؛ ففي عام 2011، تقدّمت السلطة الفلسطينية بطلب للحصول على عضوية كاملة في الأمم المتحدة، لكن المساعي اصطدمت بالفيتو الأمريكي في مجلس الأمن، ما دفع الفلسطينيين إلى تعديل إستراتيجيتهم والتوجّه إلى الجمعية العامة.
وفي 29 تشرين الثاني/ نوفمبر 2012، اعترفت الجمعية العامة بفلسطين كـ"دولة غير عضو بصفة مراقب"، بأغلبية 138 صوتاً. كان هذا الاعتراف خطوةً معنويةً كبيرةً، لكنه لم يُترجَم إلى أي التزام سياسي فعلي من أغلب الدول الأوروبية، التي امتنعت غالبيتها عن التصويت لصالح القرار.
وبرغم الجهود الدبلوماسية التي بذلتها السلطة الفلسطينية على مدار عقود، للحصول على اعتراف بدولة فلسطينية على حدود ما قبل حزيران/ يونيو 1967، ظلّ الاعتراف الأوروبي الكامل مؤجّلاً، وبدا وكأنّ الفلسطينيين بحاجة إلى تقديم شيء أكبر من الدبلوماسية؛ دماء، وأنقاض، وتجويع، كي يلتفت إليهم الضمير الأوروبي.
لكن فلسطين، هذه الكلمة، ظلّت مشوبةً بالتحفّظ، وكأنّ الاعتراف بها تهديد للميزان الأخلاقي، وليس تصحيحاً له. وعلى الرغم من أنّ الاحتلال الإسرائيلي لم يتوقف عن التوسّع والبطش، بقي الاعتراف الأوروبي حبيس الشعارات، وفقط حين تصاعدت المجازر في غزة إلى درجة الإبادة، بدأ بعض الأوروبيين يستيقظون
لماذا تفعل الإبادة ما لا تفعله السياسة؟
منذ بداية الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة، في تشرين الأول/ أكتوبر 2023، تصاعدت التقارير الأممية والحقوقية التي وثّقت ما يجري في القطاع من عمليات قتل جماعي، وتجويع ممنهج، وتدمير واسع للبنية التحتية، وتشريد قسري، وعزل كامل للسكان عن العالم الخارجي، وقد خلص عدد من هذه التقارير إلى أنّ الانتهاكات المستمرة هناك ترقى إلى مستوى الإبادة الجماعية، وفق معايير القانون الدولي.
فقط بعد هذا التوصيف الصادم، الصادر عن جهات دولية وحقوقية ذات مصداقية، وبعد ضغط شعبي احتجاجي شهدته العديد من المدن الأوروبية؛ بدأت أوروبا، أو بعض أطرافها، تُظهر صحوةً سياسيةً وأخلاقيةً تجاه فلسطين، حيث أخذت القضية الفلسطينية تتحوّل من ملف إنساني هامشي إلى عنوان سياسي ملحّ، وبات الاعتراف بالدولة الفلسطينية يُطرَح في برلمانات أوروبا، ويُناقش في أروقة القرار، لا كخيار دبلوماسي فحسب، بل كردّ فعل متأخر على كارثة كبرى.
يبدو أنّ الصمت الأوروبي الطويل لم يهتزّ إلا أمام مشاهد الدم، فالاعتراف بفلسطين لم يأتِ استجابةً لحق قانوني أو تاريخي، بل ردّاً على صور المذبحة، كأنّما الإبادة، بكل وحشيتها، تملك من القدرة على الإقناع ما لا تملكه المرافعات الدبلوماسية.
يبرز هنا سؤال أخلاقي عميق حول واقع التعاطي الدولي والأوروبي مع قضايا الشعوب، إذ يبدو أنّ العالم بحاجة إلى رؤية شعب يُباد، حتى يتذكّر وجوده وحقوقه في الحياة والكرامة.
يبدو أنّ الصمت الأوروبي الطويل لم يهتزّ إلا أمام مشاهد الدم، فالاعتراف بفلسطين لم يأتِ استجابةً لحق قانوني أو تاريخي، بل ردّاً على صور المذبحة، كأنّما الإبادة، بكل وحشيتها، تملك من القدرة على الإقناع ما لا تملكه المرافعات الدبلوماسية.
دماء الفلسطينيين.. الوثيقة الوحيدة لاختراق جدران الصمت الأوروبي
مسار الاعتراف الأوروبي بفلسطين، وإن بدا انتصاراً رمزياً، إلا أنه جاء متأخراً إلى حدّ الفجيعة. فحين يتحوّل الاعتراف بالحق إلى نتيجةٍ للإبادة، لا أداة لمنعها، نكون أمام خللٍ أخلاقي لا يُغتفر.
لم يكن على الفلسطينيين أن يُبادوا كي يُعترف بهم، كان يكفي أن يؤمن العالم بعدالة قضيتهم منذ البداية، لكن ما جرى هو أنّ دماءهم أصبحت الوثيقة الوحيدة التي استطاعت اختراق جدران الصمت الأوروبي، ولو بعد حين.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.