بعد أن كتب مرثيّةً للـ"رفيق صبحي الجيج"، ها هو ذا اليوم زياد الرحباني يرحل، ملقياً المكنسة التي أورثه إيّاها القدر، كأنّه قرر أن يتخلّى عنها في لحظة تمرد أخيرة.
يرحل تاركاً وراءه بيتاً فوضوياً، وآلات موسيقيةً وأجهزةً صوتيةً أفسدتها الكهرباء المتقطعة في بلد خرّبه الوقت والحرب.
يرحل تاركاً تفاصيل عاشها مع رفاقه من أجيال مختلفة، أولئك الذين علّمهم كيف يتذوّقون الموسيقى، لا كمجرد أصوات، بل كأسلوب حياة.
رحل وترك مسرحاً مهجوراً، بارداً، مشرّع الستائر، وبلا جمهور.
رحل دون أن يودّع البزق الذي عشقه، ودون أن يقبل العلاج، في تمرّد جديد على المرض، وعلى القدر، وعلى منطق الانصياع.
أطفأ زياد "الضوّ" للمرة الأخيرة،
وأشعل في قلوب محبّيه ورفاقه لعنة الفقد.
ذاك الفقد الذي لطالما تحدّث عنه، وعرفه، وسخر منه، وها هو ذا يُخلّفه فينا اليوم بكل ثقله.
على ظهر القدر، فرض زياد نفسه كثائر مرن، شديد الحضور، وعبقريّ لا يتكرر.
من دفاتر المخابرات إلى كواليس البيوت
من المسرح إلى الموسيقى، ومن البرامج إلى المقابلات، كان دائماً يتحرك بين رفض السائد وصناعة الذائقة. أعاد للكلمة بساطتها، وللّحن عمقه، وللتوزيع الموسيقي عبثه الخلّاق.
كان زياد حالةً فنيةً ومعرفيةً لا تشبه إلا نفسها. زياد لم يكن مجرد فنان، بل كان مشروع وعي كاملاً.
قدّم كوميديا سوداء نُقلت من الشارع إلى الخشبة، ومن دفاتر المخابرات إلى كواليس البيوت، وكان صوته بمثابة نشرة أخبار بديلة لعصر طويل من التعتيم والانحلال. أعماله لم تكن فقط فنّاً بل وثائق حيّة، تسجّل تحوّلات المجتمع اللبناني والعربي، وتحفر في ذاكرة المدن المهزومة، من بيروت إلى دمشق، ومن الضواحي إلى قلب العالم العربي المنكسر
كان امتداداً لتجربة سياسية وجمالية حاولت أن تُمسك بلبّ الواقع، لا لتزيّنه، بل لتفككه وتواجهه.
في زمن تماهت فيه الموسيقى مع الاستعراض، وقف زياد وحده، مستفزاً، مزعجاً، مشاكساً، وضرورياً.
قدّم كوميديا سوداء نُقلت من الشارع إلى الخشبة، ومن دفاتر المخابرات إلى كواليس البيوت، وكان صوته بمثابة نشرة أخبار بديلة لعصر طويل من التعتيم والانحلال.
أعماله لم تكن فقط فنّاً بل وثائق حيّة، تسجّل تحوّلات المجتمع اللبناني والعربي، وتحفر في ذاكرة المدن المهزومة، من بيروت إلى دمشق، ومن الضواحي إلى قلب العالم العربي المنكسر.
الصوت الأجش الذي ودعناه
كان يكتب عن الحب والفقر والانهيار بلغة لا يمكن تقليدها، ويصنع من الغضب لحناً، ومن السخرية سلاحاً، ومن الإحباط نبضاً حقيقياً.
حرّر صورة الفنان من قفص الترفيه الرومانسي، وحوّله إلى صانع رأي، ناقد اجتماعي، ومثقف متمرّد، سواء في أعماله أو في تصريحاته. لم يهادن ولم يُجامل.
فرض احترامه بصوته الأجشّ وكلماته الحادّة، وأجبر محبّيه على رفع معاييرهم، فرفع معهم الذوق، ورفع من فكرة الفنّ نفسها. وبرغم اختلافي مع كثير من توجهاته السياسية، إلا أنني لا أستطيع تجاوز تأثيره في فكري، وفي نظرتي إلى الحياة، وللآخر، والفن، والموسيقى.
ما دور الفنّان؟ وما حدود الفن؟ في قلب هذا العدم، وفي زمن يهيمن فيه الإحباط، أقف اليوم أمامك أستاذاً ومعلماً ورفيقاً، لا لأرثيك فحسب، بل لأتعلّم منك من جديد، وأعدك أن أستمع إليك كل يوم، في أغنية، أو تسجيل، أو حوار… لتخبرني "شو بقدر أعمل لملايين المساكين"
لقد ترك أثراً عميقاً فيّ، سواء شئت أم أبيت، وكان لا بدّ أن أمرّ به كي أفهم شيئاً جديداً عن ذاتي، وعن العالم.
بعيداً عن التقديس
ليس من السهل أن تحبّ "زياد"، ولا أن تكرهه. هو من أولئك الذين يربكون تصنيفاتنا الجاهزة، ويهزّون يقيننا، ويجبروننا على إعادة النظر في كل شيء: الفن، السياسة، الحب، الناس، وأنفسنا.
يقول ما لا يُقال، ويضحك حيث لا يُضحك، ويبكي بين السطور دون أن يلين. لهذا لم يكن فناناً للراحة، بل فناناً للمواجهة.
حتى بعد رحيله، تبقى "حالة زياد" حالةً استثنائيةً، تستحق أن تُفكّك، أن تُدرَّس، أن يُنظر إليها بعمق، بعيداً عن التقديس، وبعيداً عن النكران.
ففيها من التناقض ما يكفي لتكوين مدرسةً، وفيها من الصدق ما يكفي لإعادة طرح السؤال القديم:
ما دور الفنّان؟ وما حدود الفن؟ في قلب هذا العدم، وفي زمن يهيمن فيه الإحباط، أقف اليوم أمامك أستاذاً ومعلماً ورفيقاً، لا لأرثيك فحسب، بل لأتعلّم منك من جديد، وأعدك أن أستمع إليك كل يوم، في أغنية، أو تسجيل، أو حوار… لتخبرني "شو بقدر أعمل لملايين المساكين".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.