يعتقد البعض أن ذوي الاحتياجات الخاصة يفتقدون الكفاءة والمهارات اللازمة لمزاولة مهن وأعمال جيّدة. إلا أن بعض التجارب في لبنان تثبت أن النظرة السائدة خاطئة وأنهم يمكنهم أن يكونوا مبدعين وناجحين إنْ أتيحت لهم الفرص.
حسين جمعة: لا تيأس ما دمت حيّاً
الدكتور حسين جمعة، 64 عاماً، هو أستاذ في معهد الفنون الجميلة في قسم العمارة ومحاضر حول المدارس الفنية في العالم. شجّعه زملاؤه وأساتذته في المدرسة على تنمية موهبة الرسم فنما معه الشغف بالفن التشكيلي، وخاض منذ خمسين عاماً "معركة من أجل رسم لوحة أفضل للحياة"، بحسب تعبيره. صمّم جمعة على إكمال دراسته وحصل على شهادة الدكتوراه برغم الصعوبات الاجتماعية الناتجة عن بيئة كانت تعتبر ممارسة الفنّ التشكيلي مهنة غير ذات أهمية. وروى لرصيف22 كيف كان والده يجبره على القيام بأعمال عدّة كي لا يشعر بالنقص لأنه تعرض في سن الرابعة عشرة لحروق بالغة تسببت بتشوّه في أصابع يده اليمنى. وتابع: "حين أرسم أنسى كل العوائق"، مضيفاً أن الإنسان يجب أن يعشق عمله وأن يتفاءل بالحياة وألا ييأس. راكم جمعة خبرة أربعين عاماً في تدريس الرسم، وكل سنة تقتني وزارة الثقافة اللبنانية لوحة من لوحاته. "كنت أتنافس مع زملائي في ميدان الفن التشكيلي ولم أشعر بفروق تعوق مساري، وما زلت أعتبر أنني لن أصل أبداً إلى القمة، فكل خطوة هي الخطوة الأولى بالنسبة إلي، ولا يأس مع الحياة وهذا سر نجاحي"، قال. ينصح جمعة كل شخص مهما كان وضعه أو العقبات التي تعترضه بأن يثق بنفسه وألا يتكاسل ويتكل على غيره وأن يبذل كل ما في وسعه لتحقيق أحلامه. ويرى أن الإنسان لديه أعضاء مزدوجة فإن تعطلت يد فبإمكانه الاستعانة بالأخرى أو المشي بقدم واحدة وممارسة حياته بشكل طبيعي فلا عائق أمام النجاح سوى التشاؤم والانهزام. ويعترف بأن المعاناة جزء من النجاح وبأنه لا يمكن للإنسان أن ينجح دون النضال والكفاح. ويطالب بتنمية المواهب الفكرية لذوي الحاجات الخاصة كي يشقوا طريقهم بنجاح في الحياة. ويشير إلى أن قدرات الدولة اللبنانية محدودة في هذا المجال والواسطة تلعب دوراً في توظيف ذوي الحاجات الخاصة مما يراكم أعباءً ثقيلة على عائلاتهم.ناصر بلوط: يمكن أن تكون صحافياً يرى بغير عينيه
"اتصلت بي إدارة قناة الجديد وطلبت منّي العمل معها كمراسل صحافي. وفي العادة تضع القنوات المعوّقين خلف الشاشة وتمنحهم وظائف في السنترال أو توكلهم بأعمال تتناسب مع إعاقتهم دون إفساح المجال أمامهم لتجربة فرص أفضل وأكثر تعقيداً"، قال الإعلامي الشاب ناصر بلوط، 24 عاماً، والحاصل على إجازة جامعية في الإعلام من جامعة بيروت العربية. سمحت له تجربته في "الجديد" ليكون أمام الكاميرا على الأرض ولإجراء تحقيقات إخبارية، وأعطته مساحة في نشرتها الإخبارية. لم تواجه ناصر أيّة صعوبات في الفترة المدرسية، وكان أول طالب يدخل في تجربة الدمج الاجتماعي والمدرسي الكلي في المدرسة الأهلية في بيروت مع زملائه المبصرين، وكانت هذه التجربة بدعم من جمعية الشبيبة للمكفوفين، وهي جمعية تعنى بدمج الأشخاص من ذوي الاحتياجات الخاصة في الحياة العامة بشكل كامل، ضمن إطار مبادرة فريدة بدأت في تسعينيات القرن الماضي. وكانت الجمعية تشرف على دورات تدريبية للأساتذة حول كيفية التعاطي مع ذوي الحاجات الخاصة وتؤمّن وسائل التعلم لجهة شرح المواد التعليمية وكيفية المشاركة في الأنشطة الفنية والرياضية وكيفية إجراء الاختبارات، وهذا ما يندرج ضمن حق ذوي الاحتياجات الخاصة في التعلم وتجهيز المنشآت بشكل يتناسب مع حالتهم. يأسف ناصر لأن لبنان لم يوقّع على "الاتفاقية الدولية لحقوق الأشخاص ذوي الإعاقة" بسبب الخلافات السياسية بين المكونات الحزبية في لبنان. وروى لرصيف22: "استمررت في الدمج طوال سنوات المدرسة، وفضلت في المرحلة الجامعية أن أعتمد على نفسي دون مساعدة جمعية الشبيبة حتى لا أتعبها ولأن غيري بحاجة إلى المساعدة وقررت التصرف بمفردي فكانت علاقتي مباشرة مع أساتذتي في الجامعة ومع أصدقائي". ويتذكر صديقه المقرّب منه عبد المنعم ويقول: "كان عبد المنعم يقرأ النص مرتين أو ثلاث مرّات فتترسخ الفكرة في ذهني، وهكذا نستفيد كلينا من الدرس في الوقت نفسه". يرى ناصر أن الحياة صارت أسهل من قبل لذوي الحاجات الخاصة بفضل التطور التكنولوجي. "الآن توجد برامج تكنولوجية عديدة منها ما يُسمّى "قارئ الشاشة" تساعدني على كتابة وقراءة المعلومات عن الهاتف الذكي والكومبيوتر. وبإمكاني الآن النشر على فيسبوك وتويتر وقراءة المنشورات والتعليقات في مواقع التواصل الإجتماعي"، قال. وتساءل: "ما الذي يفعله الصحافي ولا أستطيع فعله؟ أنا أمارس مهنة الصحافة بسهولة كبيرة. أولاً أنا بحاجة إلى فكرة وبالنسبة إليّ أستطيع خلق فكرة كما الشخص المبصر... ثم أتصل وأحجز مواعيد مقابلاتي وبعدها أتنقل بمساعدة المصوّر، وبرأيي المصور هو نصف التحقيق. بعد ذلك تبدأ عملية المونتاج في استديو القناة ويقوم بها الشخص المسؤول عن المونتاج ثم أقوم بكتابة النص وتسجيله بصوتي. إنه عمل جميل وبسيط". يطمح ناصر إلى تأسيس استديو خاص بالميكساج الصوتي ولديه هواية وحلم بتلحين الأغاني خاصة أنه تدرّب على الموسيقى في معهد موسيقي ست سنوات. ويؤكد أن نجاحه يرجع بالدرجة الأولى إلى دعم أهله المعنوي والمادي وخاصة أمه التي رفضت رفضاً قاطعاً وجوده في مؤسسة لذوي الاحتياجات الخاصة وأصرّت على دمجه بشكل طبيعي في مدرسة عادية مع المبصرين لمواجهة الحياة. برأيه، على صاحب الاحتياجات الخاصة أن يدفع قدراته ومهاراته إلى المرحلة القصوى. "لماذا يجب أن ترتبط صورة صاحب الاحتياجات الخاصة بالأعمال البسيطة"، يتساءل ناصحاً ذوي الحاجات الخاصة بالانفتاح على الحياة والتخلي عن اليأس ونسيان إعاقتهم. وقال: "أنا أؤمن بأن كل إنسان يستطيع أن يبني نفسه، والشخص صاحب الاحتياجات الخاصة يجب أن يبدأ بالعمل لتحقيق ذاته، لا انتظار الدولة لتؤمن له حياة أفضل أو المؤسسة الرعائية حتى تسمح له بذلك".غسان حنا: أكثر من عشر شهادات جامعية
حاز غسان حنا عشر شهادات في مسيرة أكاديمية طويلة استمرت واحداً وعشرين عاماً. حصّل ثلاث إجازات جامعية وسبع شهادات في الدراسات العليا (الماسترز)، في الديبلوماسية والتفاوض الاستراتيجي من جامعة ساكل في فرنسا، وفي العائلة والزواج والعقيدة الاجتماعية الكنسية والعلوم الكنسية من جامعة الحكمة في لبنان، وفي الفلسفة واللاهوت والعلوم الاجتماعية وعلم النفس من الجامعة اللبنانية، وفي الحوار الإسلامي المسيحي من جامعة القديس يوسف في بيروت. وحالياً يتأهب لتقديم شهادة الدكتوراه في العلوم السياسية والعلاقات الاجتماعية لتكون بذلك الشهادة الرقم 11. حنا لديه أربعة مؤلفات هي "رجاء جديد لعالم موحد" وفيه يضع الإنسان كمحور أساسي لكل النشاط البشري سواء أكان نشاطاً سياسياً أو اقتصادياً أو اجتماعياً أو ثقافياً أو دينياً، مؤكداً أن لا قيمة للنشاط البشري سوى خدمة الإنسان. وفي كتابه الثاني بعنوان "السلام على الأرض حضارة وثقافة"، يعتبر أن أبعاد السلام موجودة في كل ميادين الحياة. وفي كتابه الثالث "وطن الرسالة، رسالة وطن"، يستعرض المخزون الثقافي الموجود في لبنان محللاً التنوع الديني والدستور والتشريعات في لبنان. أما كتابه الرابع فهو قيد الإنجاز ويسلط الضوء من خلاله على نظرة الأديان السماوية الثلاث إلى الله. "فقدت نظري عندما كنت في السنة الجامعية الثانية وذلك بسبب انفصال الشبكية، ولم تكن إمكانية المعالجة متاحة لي آنذاك، ثم عادت وانفصلت الشبكية الثانية ولم تنجح عشر عمليات في معالجتها فانطفأ بصري كلياً"، قال لرصيف22. وتابع: "لم أجد أفضل من التعلم ونيل الشهادات لذا قررت متابعة الدراسة وظننت بأن الشهادات قد تخلق لي مزيداً من فرص العمل لكن منطق الأمور كان مغايراً فكانت تزداد العراقيل أكثر". حالياً، يقدّم حنّا فقرة تلفزيونية على شاشة قناة المستقبل اللبنانية بعنوان "كتير صعبة" وبرنامجاً على قناة Tele Lumiere، كما يحاضر في العديد من الجمعيات وورش العمل. يؤكّد أنه "لا يوجد في المجتمع تناسب بين القدرات التي يمتلكها ذوي الحاجات الخاصة وما يقدَّم إليهم من قبل المجتمع بجميع مؤسساته"، ويعتبر أن دور الأهل أساسي في تشجيع أبنائهم "ويجب أن يفتخروا بهم لأن من حق كل إنسان أن يحظى بفرصة في الحياة". تتلخص الوصفة السحرية للنجاح برأي حنا بثلاثة أمور "المبادرة والمثابرة والانفتاح". برأيه، على الإنسان تخطي كل العراقيل، وعدم الإنصات إلى مَن يقولون له "مكانك هنا، قف لا تتقدم أكثر، هذه حدودك وأنت غير مخول لأكثر من ذلك". وقال: "لا أحد يملك الحق في أن يحدد لنا مكاننا المناسب وأن يختار عنّا ويجب تحويل الحجر الذي نُرمى به إلى فرصة، وتحويل السلبي إلى إيجابي من أجل البناء لما هو أفضل".أمال شريف: تحدّت السلطة على لائحة "بيروت مدينتي"
عام 1989، سافرت أمال إلى ألمانيا حيث عاشت خمس سنوات درست خلالها برمجة الكومبيوتر. وتعتبر أن تلك التجربة أهم تجربة مرّت بها لأنها عاشت في بلد مجهز بكل وسائل الراحة لذوي الاحتياجات الخاصة. هنالك "اكتشفت ماذا تعني كلمة حقوق الإنسان"، قالت مشيرةً إلى أن الدولة الألمانية تكفّلت بكل احتياجاتها السكنية والتعليمية. أصيبت أمال بشلل الأطفال في عمر السنة وثلاثة أشهر، وذلك بسبب عدم إعطائها اللقاح. واجهت صعوبات في المدارس اللبنانية غير المجهزة لاستقبال حالات خاصة، فكانت تضطر إلى الصعود على الدرج أربعة طوابق في كل يوم بمساعدة أصدقائها، ولم تكن تستطيع كبقية زملائها الخروج إلى الفرصة لصعوبة تنقلها. تتذكر بألم شديد الإحباط الذي يعانيه ذوو الحاجات الخاصة بسبب تفاصيل صغيرة، فهي مثلاً علقت مرّة في المصعد في الطابق السادس لمدة سبع ساعات بسبب انقطاع التيار الكهربائي. أمال الشريف، 45 عاماً، تعمل حالياً مخرجة ومصممة في مجال الغرافيك ديزاين. وقالت لرصيف22: "كل أزمة في لبنان يواجهها ذوو الاحتياجات الخاصة بصعوبة مضاعفة. فتراكم النفايات يشكل عائقاً أمام تنقل المقعدين والمكفوفين وأغلبيتهم يعانون من ضيق التنفس والحساسية. وفي حالة الخلل الأمني والأزمات الاجتماعية والحياتية يصاب ذوو الحاجات الخاصة بأذى معنوي وربما جسدي بسبب ضعف مقدرتهم على التعامل مع هذه الأزمات". عملت أمال في العديد من مراكز الأبحاث والجمعيات ودور النشر كمصممة لأغلفة الكتب في لبنان والسعودية والدوحة. وقالت: "تجربتي في ألمانيا جعلتني أكثر شجاعة وثقة بنفسي لأنني تعلّمت أن أرى الحياة من زاوية أخرى مليئة بالأمل". وشرحت أن "القطاع الخاص في لبنان متعاون في بعض الأحيان ولكن القطاع الحكومي يعاني من التقصير الشديد بحقنا، فأقل حقوقنا غير متوفرة، فمثلاً لا توجد أرصفة لتساعدنا على المشي بسلامة". ولفتت إلى أن أغلبية اللبنانيين مستعدون للمبادرة والمساعدة ولكن، برأيها، "هذا لا يكفي فالمجتمع بحاجة إلى وعي أكبر لكيفية التعاطي السليم معنا. إننا بحاجة إلى الدعم المعنوي والعلمي وتنمية المهارات والتوظيف. فأغلبية ذوي الحاجات الخاصة تُهدَر طاقاتهم. وبحسب إحصاءات منظمة الصحة العالمية، يوجد ملايين الأشخاص الذين يعانون من إعاقات في العالم العربي وأثرهم سلبي على الاقتصاد لأنهم غير منتجين". تقول أمال إنها نجحت وحققت حلمها في الحياة ولكنها تستطرد: "ماذا عن الآخرين؟ ماذا سيفعل مَن لا قدرة له على التعلّم وتنمية مهاراته وتأمين فرصة عمل؟". وبسبب وعيها لكل هذه المشاكل وتيقّنها من عجز السلطة عن حلّ أبسط مشاكل المواطنين، ترشّحت لانتخابات بلدية بيروت على لائحة "بيروت مدينتي"، معتبرةً أن خطوتها هي ترشيح لكل ذوي الحاجات الخاصة الذين يحتاجون إلى خدمات وإلى تأمين ظروف راحتهم واندماجهم في المجتمع. وتؤكد الشريف أن النساء يواجهن صعوبات مضاعفة، فيُنظر إليهنّ بعين الشفقة على أنهنّ غير منتجات وغير منجبات بينما يتقبّل المجتمع الرجل المعوّق بشكل أكبر. وتدعو الناس إلى أن يجرّبوا تمضية يوم واحد معصوبي الأعين أو مربوطي اليدين أو القدمين للشعور بما يواجه ذوو الاحتياجات الخاصة.رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
Ahmad Tanany -
منذ يومينتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ 4 أياملا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ 6 أيامأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ أسبوعمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...
Nahidh Al-Rawi -
منذ أسبوعتقول الزهراء كان الامام علي متنمرا في ذات الله ابحث عن المعلومه