بينما تهزّ صرخاتُ المتظاهرين المطالِبين بوقف الإبادة الإسرائيلية في غزة أرجاءَ الشارع خارجَ المبنى، يجري خلفَ الجدرانِ الهادئة لأروقة الأمم المتحدة في نيويورك حِراك دبلوماسيّ كثيف، فقد بدا مؤتمر "حلّ الدولتين"، الذي ترعاه الرياض وباريس، لحظةً ساخنةً في دبلوماسية الصيف: غيابٌ أمريكي‑إسرائيلي مُعلن، حضورٌ أوروبي‑عربي كثيف، ونبرة إنسانية تنزع الشرعية الأخلاقية عن حرب الإبادة الإسرائيلية المستمرة في غزة منذ نحو عامَين.
أطلق المؤتمر الدولي الذي عُقد يومَي 28 و29 تموز/ يوليو 2025، في مقرّ الأمم المتحدة في نيويورك، ما سُمّي "إعلان نيويورك"، الداعي إلى وقف فوري للحرب في غزة وإحياء حلّ الدولتين، ضمن الهدف الأكبر للحدث، وهو حشد اعتراف واسع بدولة فلسطينية مستقلة قبل انعقاد الجمعية العامة في أيلول/ سبتمبر المقبل، مع اشتراط تمكين السلطة الفلسطينية وإصلاحها لتتسلّم غزة بعد وقف القتال.
انقلاب أوروبي… لكن على من؟
جاء "إعلان نيويورك" في سبع صفحات، حيث وقّعت عليه 5 دول سبق لها الاعتراف رسميّاً بدولة فلسطين هي آيسلندا وأيرلندا والنرويج وسلوفينيا وإسبانيا، إلى جانب 8 دول تعهّدت بالنظر إيجابيّاً في الاعتراف قريباً هي آندورا وأستراليا وفنلندا ولوكسمبورغ ومالطا ونيوزيلندا والبرتغال وسان مارينو. بينما حسمت كندا أمرها وأعلنت أنها ستعترف بدولة فلسطين، ليتحول البيان إلى كتلة ضغط دبلوماسية تجمع بين دول معترفة وأخرى على أعتاب الاعتراف.
التوصيات دعت إلى وقف فوري لإطلاق النار، ونشر بعثة استقرار دولية، وتمكين السلطة الفلسطينية بانتخابات وإصلاحات حوكمة؛ صيغة وصفتها "هيومن رايتس ووتش" بأنها "أوّل جسر جديّ بين حقوق الإنسان والسياسة الواقعية منذ اندلاع الحرب". ومما جاء فيه: "في سياق إنهاء الحرب في غزة، يجب على حماس إنهاء حكمها في غزة وتسليم أسلحتها إلى السلطة الفلسطينية، بدعم ومشاركة دولية، بما يتماشى مع هدف إقامة دولة فلسطينية مستقلة ذات سيادة".
وتبع ذلك نداء من الوفد الفلسطيني في الأمم المتحدة، الإثنين الماضي، لكلّ من إسرائيل وحماس لمغادرة غزة، والسماح للسلطة الفلسطينية بإدارة القطاع الساحلي. كما نص الإعلان على إدانة هجمات 7 تشرين الأول/ أكتوبر 2023، التي شنّتها حماس ضد إسرائيل.
في قلب الأمم المتحدة، جمّع "إعلان نيويورك" في سبع صفحات لا أكثر، خلاصات مؤتمر 28‑29 تموز: وقفٌ فوريٌ للنار في غزة، لجنة استقرار دولية، تفويضٌ للسلطة الفلسطينية بعد إصلاحها، وحملة دبلوماسية لحشد اعتراف بدولة فلسطينية قبل أيلول/ سبتمبر القادم
وصفت فرنسا، التي شاركت السعودية في رئاسة المؤتمر، الإعلان بأنه "تاريخي وغير مسبوق". وقال وزير الخارجية الفرنسي جان-نويل بارو: "للمرة الأولى، تدين الدول العربية ودول الشرق الأوسط حماس، وتدين أحداث 7 تشرين الأول/ أكتوبر، وتدعو إلى نزع سلاح حماس، وإقصائها عن الحكم الفلسطيني، وتعبّر بوضوح عن نيتها تطبيع العلاقات مع إسرائيل في المستقبل".
في باريس، كان الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، قد استبق نتائج المؤتمر بإعلان اعتزام بلاده الاعتراف رسميّاً بدولة فلسطين في أيلول/ سبتمبر المقبل، خلال انعقاد الجمعية العامة. مصادر الإليزيه تُرجع التحوّل إلى ثلاثة متغيّرات: ضغط الشارع الفرنسي بعد مشاهد المجاعة في غزة، استفحال الاستيطان الذي "يدفن أيّ أفق لدولة قابلة للحياة"، وشعور متنامٍ في أوروبا بازدواجية معايير الغرب الذي يدين غزو أوكرانيا ويتجاهل القانون الدولي في فلسطين.
بريطانيا: "هذا ليس وعد بلفور"
وبعد أقلّ من 24 ساعةً، أعلن رئيس وزراء المملكة المتحدة كير ستارمر، عن الخطوة نفسها -لكن الاعتراف البريطاني قابل للتراجع في حال وقف القتال وفتح المعابر ومنع الضمّ- مُلبّياً غضباً شعبياً مماثلاً وضغوط 230 نائباً في مجلس العموم. ومن ثم التحقت مالطا بهما لتؤكّد أنّ المسار ليس نزوةً فرنسيةً بل "تجمّع ثقل أوروبي جديد".
لكن اللافت هو تصريح وزير الخارجية البريطاني ديفيد لامي، في كلمته أمام مؤتمر "حلّ الدولتين"، حين قال: "سلفي في هذا المنصب، آرثر بلفور، وقّع قبل 108 أعوام إعلاناً وعدَ بحقّ اليهود في وطن، لكنّه اشترط ألا يمسَّ بالحقوق المدنية والدينية للشعب الفلسطيني… وهذا الشرط لم يُحترم؛ إنها مظلمة تاريخية ما زالت تتفاقم".
بتذكيره بوعد بلفور، ربط لامي اعتزام حكومته الاعتراف بدولة فلسطين في أيلول/ سبتمبر المقبل، بمسؤوليةٍ بريطانيةٍ قديمة: إنصاف الجانب الفلسطيني الذي غُيِّب عن الشقّ الثاني من الإعلان. ولعلّ المعنى العملي للحديث هو أنّ لندن تريد تحويل الاعتراف المرتقب إلى تصحيح تاريخي يضغط على الحكومة الإسرائيلية -لا على إسرائيل كدولة- ويُثبت في الوقت نفسه أنّ الفلسطينيين ليسوا حماس، بل هم شعب صاحب حقّ وكيانٍ سياسي مستقل ينبغي الاعتراف به، بحسب التصريح.
يقرأ محلّلون في باريس ولندن التحوّل بوصفه انقلاباً على "عقيدة إدارة الأزمة" التي هيمنت على السياسة الأوروبية تجاه السلطة الفلسطينية منذ فشل أوسلو. في معهد مونتان الفرنسي، ترى الباحثة آن‑لور مايي، أنّ الاعتراف هو "ردّ حقوقي على كارثة إنسانية، ورسالة انتخابية لماكرون مفادها: فرنسا ليست رهينةً للبيت الأبيض".
حوّلت السعودية مبادرةَ السلام العربية إلى رافعة سياسية دولية، لتشكّل كتلة تصويتية عربية‑إسلامية، وعُملة نفوذ في مفاوضات الطاقة والأمن البحري مع الغرب، والأهم لتُثبِّت موقعَها في هندسة بعد الحرب.
وبحسب التقرير المنشور في "تايمز أوف إسرائيل"، ترى رئيسة تحرير مدوّنة "ستراتيجيك يوروب" التابعة لمركز كارنيغي أوروبا، ريم ممتاز، أنّ "ماكرون هنا يعمل كمحفز لدفع الفلسطينيين لتنفيذ الإصلاحات المطلوبة، ودفع العرب للموافقة على نزع سلاح حماس". بينما يرى آخرون أنّ الاعتراف برغم قيمته الرمزية، لن يعني وجود دولة فلسطينية فعّالة حتى بعد انتهاء حرب غزة.
ويقول المحلل في مجموعة الأزمات الدولية، أمجد عراقي: "الاعتراف من قبل قوة أوروبية كبرى مثل فرنسا مؤشر على تزايد الإحباط من سياسات إسرائيل المتعنتة. لكن ما فائدة الاعتراف بدولة إذا كانوا لا يفعلون الكثير لمنع تحوّلها إلى أنقاض؟". ويشير المسؤولون الفرنسيون إلى أشهر من الضغوط الإسرائيلية المكثفة لمنع خطوة ماكرون، وانتقادات نتنياهو الشديدة لها، كدليل على أهميتها بالنسبة للقادة الإسرائيليين.
بينما تقول مصادر مطلعة إنّ التحذيرات الإسرائيلية لفرنسا تراوحت بين تقليص تبادل المعلومات الاستخباراتية وتعقيد مبادرات باريس الإقليمية، وصولاً إلى التلميح باحتمال ضم أجزاء من الضفة الغربية. لكن المسؤولين الفرنسيين استنتجوا أنّ نتنياهو سيفعل ما يراه في مصلحته في الضفة الغربية على أيّ حال، بغض النظر عن قرار فرنسا بشأن الاعتراف، وفقاً للتقرير نفسه.
وكان معهد "تشاتهام هاوس"، قد تنبأ باتخاذ بريطانيا خطوةً باتجاه الاعتراف بالدولة الفلسطينية في أيار/ مايو الماضي، ففي ورقة منشورة لبرونوين مادوكس، رأى أنّ بريطانيا تخوض "معركة سمعة" بعد اتهامات بالتواطؤ في مجاعة غزة، وأنّ الاعتراف، ولو رمزيّاً، يُعيد للندن صورتها كضامن للقانون الدولي، وأنّ "اعتراف المملكة المتحدة ودول أخرى بدولة فلسطين هو الأمل الأخير لفتح مسار نحو السلام".
أما في واشنطن، فيشير المحلل السياسي المختص بشؤون الشرق الأوسط مايكل أوهانلون، إلى بُعد إستراتيجي أعمق، فيقول في مقاله المنشور على موقع بروكينغز: "كلما زادت أوروبا جرأةً، ازدادت عزلة حكومة نتنياهو، وارتفع ثمن مواصلة الحرب بالنسبة للبيت الأبيض".
السعودية… العرّاب الصامت
المملكة العربية السعودية ظهرت عرّاباً صامتاً لكنه حيويّ: رعت المؤتمر، نسّقت مع باريس، وحرّكت شبكة اتصالاتها في العواصم العربية والإسلامية لإضفاء شرعية إقليمية على الاعترافات الأوروبية. وقد وصف دبلوماسي خليجي الدور السعودي بأنّه "إعادة تشغيل لمبادرة السلام العربية"، ووفقاً لتحليل "العرب ويكلي"، فالدور السعودي القيادي هو حجز مقعد قيادي في صياغة حلٍّ نهائي يكرّس الرياض كقوّة توازن بين طهران وتل أبيب.
فتَصدُّر الرياض لمؤتمر نيويورك ليس لفتةً إنسانيّةً عابرةً، بل جزء من إعادة تموضعٍ سعودي محسوب في خريطة الشرق الأوسط؛ فالمملكة أدركت أنّ "بطاقة الدخول" إلى الملفات الكبرى بعد اتفاق بكين الإيراني‑السعودي، هي إدارة المسار الفلسطيني، بطريقة تُرضي الغرب وتحفظ مكانتها العربية.
ومنذ خطابه في قاعة المجلس الاقتصادي‑الاجتماعي، شدّد الأمير فيصل بن فرحان، على أنّ "حلّ الدولتين مفتاح الاستقرار الإقليمي"، مُحدّداً وقف الحرب في غزة شرطاً لأيّ مسار تطبيع لاحق، فهل تُرسِل الرياض رسائل متوازية إلى واشنطن بأنّ شراكتها الأمنية تمرّ عبر الاعتراف بدورها ووزنها الإقليميين لا عبر الصفقات فحسب؟ أو أنها رسائل إلى الشعوب المسلمة التي تزورها طوال العام لأداء مناسك الحج والعمرة، بأنّ القيادة السعودية لم تُسلِّم مفاتيح القضية إلى الآخرين؟
الخطوة السعودية رُبطت علناً باعترافٍ أوروبي متدرّج بفلسطين. وزراء فرنسا وبريطانيا أوضحوا في المؤتمر أنّ تبنّيهم "إعلان نيويورك" ما كان ليتمّ لولا الجهد السعودي في بناء كتلة تصويتية عربية وإسلامية تُغطّيهم سياسياً أمام تل أبيب وواشنطن. هذا الانخراط يوفر للرياض رافعةً إضافيّةً في التفاوض على ملفات الطاقة والأمن البحري؛ فهي تُلوّح بأنها قادرة على تحريك -أو تهدئة- الساحة الفلسطينية، وهو ما تريده أوروبا لخفض تكلفة الحرب على أسواقها.
فرنساُ بماكرونها وبريطانيا بستارمرها انقلبتا على قاموس "إدارة الأزمة الأوروبي"، فالاعترافٌ المرتقب بدولة فلسطين يُقدَّم كمخرج أخلاقي من ازدواجية كييف‑غزة، ورسالة صريحة: المشكلة في حكومة نتنياهو لا في إسرائيل، والفلسطينيون شعب متحقق متنوّع، لا ملحق بحركة حماس
لكن ما الذي نقل المملكة من الدعم اللفظي إلى الرهان المباشر على دولة فلسطينية؟
أوّلاً، الضغوط الشعبية العربية بعد صور المجاعة والقصف، دفعت الرياض إلى احتواء غضب شارعٍ يَعدّها راعية المقدسات بما فيها ملف القدس. وثانياً، يرى محللون في "معهد واشنطن" أنّ السعودية تريد تفادي فراغ سياسي قد تملأه قطر أو تركيا إذا تُرك المسار الفلسطيني بلا رعاية خليجية؛ لذلك تطرح نفسها "وسيطاً حقوقياً" لا مالياً فحسب. ثالثاً، إعادة التموضع هذه تمنح وليّ العهد هامشاً تفاوضياً أكبر مع الإدارة الأمريكية الحالية أو أي إدارة مقبلة، لأنّ ملف حقوق الفلسطينيين بات معياراً أخلاقياً في العالم.
فإذا نجحت المملكة في نقل الورقة من الأمم المتحدة إلى طاولة تفاوض فعلي، فستكون قد رسخت موقعها كلاعب إقليمي لا يمكن تجاوزه في أيّ معادلة أمنية قادمة.
لكن هل يفيد الاعتراف؟
بحسب قراءة تحليلية لـ"فورين بوليسي" نُشرت في 15 تموز/ يوليو 2025، بعنوان الوعد والمخاطر في الاعتراف بفلسطين، يرى كلّ من مارك لينش وشبلي تلحمي، أنّ الاعتراف بدولة فلسطين في هذا التوقيت "قد يكون أداة ضغط سياسية ودبلوماسية أكثر من كونه خطوةً عمليةً لتطبيق حلّ الدولتين"، نظراً إلى أنّ الاعتراف سيغيّر الإطار القانوني الدولي، بحيث تتحول فلسطين من "كيان تحت الاحتلال" إلى "دولة معترف بها" تخضع للقانون الدولي كطرف مستقل.
ويشير التحليل إلى أنّ هذه الخطوة ستفرض تحديات جديدةً على إسرائيل، إذ لن تعود قادرةً على التذرع بعدم وجود طرف فلسطيني ذي صفة قانونية، كما ستجعل من الصعب على الدول الداعمة لإسرائيل المضي في علاقاتها الاقتصادية والعسكرية معها من دون مراعاة التزامات القانون الدولي.
لكن الخطر الأكبر، وفق المؤلفَين، هو أنّ الاعتراف قد يظلّ رمزياً في حال غياب آلية تنفيذية وضمانات سياسية، ما قد يؤدي إلى إحباط أكبر لدى الفلسطينيين إذا لم يُترجم على الأرض إلى وقف للاستيطان أو رفع للحصار عن غزة.
ويؤكد الكاتبان أنّ الطريق إلى حلّ الدولتين لم يعد يمرّ فقط عبر التفاهمات السياسية، بل عبر تغيير ميزان القوى والحقائق الميدانية التي جعلت "واقع الدولة الواحدة" أمراً شبه قائم. في ظلّ هذا الواقع، يصبح الاعتراف خطوةً مهمةً من الناحية الأخلاقية والسياسية، لكنها تحتاج إلى خطة متابعة تضمن ألا تتحول إلى "بيان حسن نوايا" من دون أثر عملي.
نتنياهو ليس إسرائيل و"حماس" ليست فلسطين
ردّ فعل تل أبيب جاء صاخباً، فاتهم رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو المطلوب للمحكمة الجنائية الدولية، الدول الأوروبية التي أعلنت نيتها الاعتراف بدولة فلسطين بأنها "تكافئ حماس" على أحداث 7 تشرين الأول/ أكتوبر. أما الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، فعلّق قائلاً إنّ رئيس الوزراء البريطاني كير ستارمر لم يناقش معه هذا القرار مسبقاً، مضيفاً أنه "ليس في معسكر الضغط على إسرائيل لإيجاد حلّ طويل الأمد"، في إشارة إلى أنه لا يعطي الأولوية للضغط على الحكومة الإسرائيلية في هذه المرحلة.
حماس بدورها لا تجد في الاعتراف ما تحتفي به: النصوص الأوروبية تشترط نزع سلاحها، وتسليم غزة إلى سلطة فلسطينية مُجدَّدة، وإجراء انتخابات عامة خلال عام.
يقع على عاتق السلطة الفلسطينية اليوم حمل ثقيل وواجب وطني بإصلاح مؤسساتها، فالاعتراف بدولة فلسطين مشروط بهذا الأمر، فهل تكون على قدر المسؤولية التاريخية؟
كذلك على السلطة الفلسطينية أن تتنبه إلى القادم، فقد صرّح مسؤول أوروبي مشارك في صياغة البيان لرويترز، بالقول إنّ "الاعتراف ليس شيكاً على بياض؛ هو عقد اجتماعي بين أوروبا والفلسطينيين، يمرّ عبر إصلاح السلطة لا عبر تكريس المقاومة المسلحة"، لذا يبدو أنّ السلطة الفلسطينية المُنهَكة بنقص الشرعية والمال سوف تُدفع إلى مسارين متلازمين: اجتثاث الفساد الذي أثبتته التقارير الرقابية الدولية في مؤسساتها، وإدماج الفصائل غير المصنَّفة إرهابيةً في هياكل قرار جديدة تحت رقابة دولية، بدلاً من احتكار مفاصل صنع القرار في كوادر حركة فتح.
التصريحاتٍ الأوروبية في نيويورك، تُظهر أنّ باريس ولندن والدول الموقعة على الإعلان، اختارت هذه المرّة الفصل علناً بين شعبٍ يعاني تحت القصف وحركةٍ مسلَّحة متَّهمة بالإرهاب.
تتجلى الفكرة السابقة في تصريح جان‑نويل بارو، وزير أوروبا والشؤون الخارجية الفرنسي لرويترز، بأنّ "الاعتراف لا يكافئ حماس بل يحرّر أربعة ملايين إنسان من وصمة جماعية"؛ التصريح جاء بعد ساعات من تأكيد قصر الإليزيه أنّ كارثة المجاعة في غزة "كشفت استحالة الاستمرار في النظر إلى الفلسطينيين من ثقب بندقية حماس". أما في لندن، فشدّد وزير النقل هايدي ألكسندر، على أنّ خطّة كير ستارمر "تستهدف الحكومة الإسرائيلية، لا حقّ إسرائيل في الوجود، وترسل إشارةً بأنّ الإنسان المدني ليس رهينة تعريف تل أبيب للإرهاب"، بحسب رويترز.
كذلك الأمر مع تحليل معهد "مونتان" المنشور في مجلة "بوليتوكو"، إذ يقرأ هذا الفصل بوصفه اختراقاً في الرواية السائدة منذ 7 تشرين الأول/ أكتوبر: "نجحت حملات منظمات حقوقية في نقل صورة الفلسطيني الجائع لا المقاتل، وأُحرجت الحكومتان الفرنسية والبريطانية أمام جمهورٍ يستشهد بأوكرانيا ليُطالب بمعيار واحد لحقوق المدنيين".
وفي استطلاع لمعهد "يوغوف" باريس، نُشر الأسبوع الماضي، قال 62% من الفرنسيين إنّ "المشكلة مع نتنياهو، لا مع إسرائيل كدولة"؛ والفارق هنا أنّ الخطاب الرسمي تبنّى هذا الفصل لأول مرة ليضع حكومة اليمين في مرمى النار السياسي بدلاً من المجتمع الإسرائيلي برمّته. وهو أمر أشار إليه الكاتب الإسرائيلي يوسي ميلمان، في مقاله في صحيفة هآرتس الإسرائيلية، حين قال: "المجتمع الدولي يميّز بوضوح بين إسرائيل ونتنياهو؛ من يعاقَب اليوم هي سياسات التطرّف، لا حق اليهود في وطن".
وبحسب رويترز، فالدور السعودي حاسم في تحويل النبرة الإنسانية إلى مبادرة سياسية: الرياض وفَّرت منصةً جامعةً للدول العربية، فرفعت الحرج عن الأوروبيين، وربطت الاعتراف بإصلاحات داخل السلطة الفلسطينية ونزع سلاح حماس. بهذا المعنى لا تُرى الخطوة كتخلٍّ عن الأمن الإسرائيلي بل كشرطٍ لسلامٍ متوازن تُشارِك فيه دول الخليج استثماراً وأمناً. مسؤول خليجي لخَّص الأمر بقوله: "من دون مظلّة سعودية سيُتَّهم الأوروبيون بالانحياز؛ ومعها يصبح الاعتراف ورقة ضغط مشروعة لوقف الحرب".
إبراز أنّ "الفلسطيني ليس حماس"، وكسر الصورة النمطية القديمة، جزءٌ أساسي من التحوّل الحالي، لأنه يسمح للدول الأوروبية بأن تضرب حكومة نتنياهو من دون أن تُتهَم بمعاداة إسرائيل، ويمنحها شرعيةً شعبيةً وحقوقيةً في آن معاً. هذه الإضافة مهمّة لأنّها تكشف منطق الضغط الجديد: استعادة معيار عالمي لحقوق الإنسان عبر استهداف من يخرقها، لا من يحمل جنسيةً بعينها.
ما الذي تغيّر فعلياً؟
أبعد من صور الجوع والأشلاء، هناك تبدّل ثانوي لكنه حاسم: الرأي العام الأوروبي بات يربط تصدير السلاح لإسرائيل بانتهاكات وثّقتها الأمم المتحدة، والشركات تواجه مخاطر تشويه سمعتها في ما يشبه متلازمة الأبارتيد. كذلك، يقول وزير خارجية النرويج إسبن بارث إيده، إنّ الغرب "يفقد مصداقيته الأخلاقية عالمياً إذا لم يطبّق المعايير نفسها على كييف والقدس"؛ كما رسّخ ضغط الجنوب العالمي على قمة سياتل الأخيرة هذه القناعة. أمام هذا التحوّل، وجدت باريس ولندن أنّ اعترافاً مشروطاً بفلسطين أقلّ تكلفةً من الدفاع اللانهائي عن حرب متهمة بخرق القانون الإنساني الدولي.
النتيجة المباشرة هي تهميش إضافي لحكومة نتنياهو واصطفاف أوروبا خلف صيغة تتبنّاها السعودية والأردن ومصر منذ سنوات. لكن النتيجة الأبعد لا تزال مفتوحةً: إذا فشلت السلطة الفلسطينية في إصلاح نفسها، أو إذا استمرت الحكومة الإسرائيلية في رفض مسار الدولتين، فإنّ اعترافات أيلول/ سبتمبر القادم قد تتحول إلى مجرّد "تصريح حسن نية"، بلا أثر على الأرض.
حتى ذلك الحين، يظلّ المؤتمر وما تبعه من اعترافاتٍ بمثابة ضرب عصفورين بحجر واحد، حماس ونتنياهو معاً، ومحاولة متأخرة لإعادة حقوق الإنسان إلى مركز الطاولة، ولو بـ"جواز سفر" أوروبي‑سعودي مشترك.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.