تراجع إصدار الصحف المطبوعة بشكل ملحوظ، في اليمن، خلال الحرب. إلا أن ذلك لم يمنع انتشار فن الكاريكاتير عبر المواقع الإلكترونية، وحتى على جدران العاصمة صنعاء، وتصدرت المشهد العديد من الرسومات الساخرة من الحرب، ورموزها.
ولعل أبرز تلك الرسومات، تمثلت في شخصية "عقلان" التي ابتكرها رسام الكاريكاتير رشاد السامعي، وقد أحدثت صدى كبيراً على مواقع التواصل الاجتماعي، إذ تفاعل اليمنيون معها، نتيجة مواكبتها لمختلف الأحداث في البلاد، بطريقة ساخرة، رأوا فيها انعكاساً لمأساتهم المستمرة.
وعقلان، هو أحد مشرّدي الشوارع، أسمر البشرة، كثيف شعر الرأس واللحية، حافي القدمين، لا يرتدى سوى الإزار، ويحمل بيده علبة مخصصة لشرب الشاي، يطلق عليها اسم "القوطي". كانت بداية ظهوره في شهر تموز/ يوليو عام 2020، بعد اشتباكات بين مسلحين، وسط مدينة تعز، ساخراً من الانفلات الأمني الذي شهدته المدينة في تلك الفترة، ومن ثم بات يواكب معظم الأحداث الدائرة في البلاد، من خلال رؤيته النقدية الخاصة بالقضايا السياسية والاجتماعية، وانحيازه الدائم للمواطنين، وما يعانونه من تبعات الحرب والانقسام السياسي المخيّم على البلاد، ما يفسر اهتمام اليمنيين الكبير بهذه الشخصية الخيالية، وانتظارهم لأي ظهور جديد لها، عند كل حدث يعيشونه، وتعايشه هي معهم.
وقد استطاع الفنان أن يجعل من شخصية "عقلان"، نموذجاً للمواطن المسكين، أو الفئة الصامتة، من خلال مواقفه من الأحداث بشكل عام، إذ لا يوجد من يتبنى وجهة نظر هذه الفئة المغيبة، أو رأيها، غيره.والسامعي (46 عاماً)، وهو من محافظة تعز، يعمل رئيساً لتحرير مجلة المثقف الصغير، ورسام كاريكاتير لصحيفة الجمهورية، وعدد من المواقع العربية، كما يهتم بمجالات التصوير الفوتوغرافي، والفن التشكيلي، وتصميم الغرافيك، وحصل على جوائز محلية ودولية عدة.
يواكب "عقلان" الأحداث الدائرة في اليمن، من خلال رؤيته النقدية الخاصة بالقضايا السياسية والاجتماعية، وانحيازه الدائم للمواطنين.
عقلان... الناصح الأمين
لاختيار شخصية "عقلان" دلالات عدة، كما يوضح الكاتب الصحافي محمد المقرمي، لرصيف22: "عقلان الفاقد للوعي، أصبح، من مأسوية المشهد، واضمحلال الوعي المجتمعي، هو الناصح، ليس خشية منه من أن يمتلئ الرصيف بالمجانين مثله، كنتاج طبيعي للحرب المدمرة، وعجز اليمنيين عن تدبير أمور حياتهم اليومية، مع انهيار الخدمات الأساسية، وغلاء المعيشة، والانهيار المريع للاقتصاد، بل لإنقاذ الوطن الذي تتهاوى مؤسساته، ويتمزق نسيجه المجتمعي".ويرى المقرمي أن شخصية عقلان، برزت بصورة المنظّر والمفكر، والموجه في اتخاذ القرارات الصحيحة، والناصح الأمين في ظل غياب المسؤولين، وتخبط صناع القرار، وصراعات الأحزاب، والمحاصصة التي غيّبت الكفاءات، وجاءت بالفاسدين، واستغلال الوظيفة العامة من قبل المسؤولين لمصالح خاصة.
وبيّن المقرمي مدى تأثير هذه الشخصية على الرأي العام، واستطاعتها جذب اهتمام شريحة واسعه من الناس، إذ تمكّن السامعي من توظيفها في قضايا الشأن العام، ومساعي التغيير، في محاولة منه لإيقاظ الضمائر التي تتابع الأحداث بصمت مطبق، في ظل الانهيار الكبير الذي يحدث لليمن، من النواحي الاقتصادية والإنسانية والسياسية كلها، وفي ظل الجرائم التي ترتكبها أطراف الحرب في حق المدنيين، والانفلات الأمني الذي روّع حياة الناس.
"أجد نفسي مكان عقلان"
منذ ظهورها، تعلّق الصحافي اليمني طه صالح بشخصية عقلان، ويتحدث عن ذلك لرصيف22، بقوله: "الشخصية شدت انتباهي منذ وقت مبكر. في البداية، كان لدينا فضول لنعرف من المقصود بها، لنكتشف لاحقاً أنها من خيال الفنان. حاول السامعي أن يجعل عقلان في المكان الإيجابي دائماً، وكنت أجد نفسي في مكان عقلان في غالبية الرسوم".وجاء انعكاس تأثير شخصية عقلان على كثيرين، من كونه يتبنى وجهة نظرهم، كما يبيّن طه: "في موقفه من السلطة المحلية في تعز، أو من خلال دعمه للجيش، وانتقاده للانفلات الأمني في المحافظة. عند كل قضية رأي عام، كنت أتوقع ماذا سيكون موقف عقلان منها، قبل أن يرسمها السامعي، ودائماً كان في الجانب الذي يمثل المواطنين".
ويرى طه أن احتفاء الناس بالشخصية، جاء لأنها فكاهية، وليست حقيقية، كما أن العلاقة بين عقلان وصديقه القط "جلجل"، خلقت جواً من الألفة، والحوار الشيق: "أتذكر حين عبّر الناس عن تعاطفهم واستيائهم، عندما حاول الفنان دفن شخصية القط، مما اضطره إلى إعادة المشهد. وبقدر ما أصبحت شخصية عقلان رمزاً للسامعي، باتت أيضاً تمثل ضغطاً عليه، كونه لم يعد قادراً على التخلص منها، بسبب شعبيتها الكبيرة".
"وُجدت الحفاوة بهذه الشخصية، لأنها تمثل اليمنيين كلهم، وتعبّر عن آرائهم. ربما عقلان هو الشخص الوحيد الذي لديه الحرية المطلقة للإدلاء برأيه، ومواجهة قمع السلطات، والقادر على قول ‘لا’، والتحدث عنا في المحافل، والدخول إلى أماكن لم نتمكن من دخولها"
وتقول المذيعة آية خالد، لرصيف22: "منذ أن بدأ رشاد برسم الشخصية، وأنا أتابعها. شعرت بأنها تتحدث بلساننا جميعاً، وأنها تقول ما لم نستطع قوله للجهات المختصة والرأي العام، سواء في تعز، أو في غيرها من المدن اليمنية".
"شخصية عقلان تمثلني، وتمثل كل مواطن يمني مغلوب على أمره، وكل مواطن فقد ثقته بالحكومة، والسلطات المحلية"، تضيف.
ومع تجاوز السامعي الرسم الكاريكاتوري، والانتقال إلى إدخال عقلان، من خلال صور معدلة لاجتماعات السلطات المحلية في تعز، واحتفالات الحوثيين في صنعاء، تقول آية: "وُجدت الحفاوة بهذه الشخصية، لأنها تمثل اليمنيين كلهم، وتعبّر عن آرائهم، ولأنها لا ترضى بالباطل. ربما عقلان هو الشخص الوحيد الذي لديه الحرية المطلقة للإدلاء برأيه، ومواجهة قمع السلطات، والقادر على قول ‘لا’ في المجتمع، والتحدث عنا في المحافل والاجتماعات، والدخول إلى أماكن لم نتمكن نحن من دخولها".
يضيف المقرمي بأن حفاوة اليمنيين بعقلان، جاءت لبساطته ومصداقيته، فهي شخصية وُلدت من رحم المعاناة التي يعيشها اليمنيون، وتحمل رسالة واضحة عن حاجتهم إلى قيادات تستشعر مآسيهم، وتشبههم، وتعايش قضاياهم وهمومهم، في منأى عمن يتحكمون بالمشهد من بروجهم العاجية البعيدة عن واقع الناس.الكاريكاتير والتأثير
يشير أستاذ الصحافة في كلية الإعلام في جامعة صنعاء، علي العمار، إلى التأثير الكبير لفن الكاريكاتير على الناس، كون الصورة تغني عن ألف كلمة، ويضيف في حديثه لرصيف22: "إذا كانت فكرة الكاريكاتير متميزة، نرى القراء يحرصون على متابعة كل جديد لها، نظراً إلى الرسالة الإعلامية التي يسعى الفنان إلى إيصالها، والتي تختصر معانٍ كثيرة في مضمونها".ويكمل شارحاً: "لعل ما حدث لكثير من رسامي الكاريكاتير في العالم، مثل اغتيال الفنان الفلسطيني ناجي العلي، دليل على قوة هذا الفن، وتأثيره".
يحمل "عقلان" رسالة واضحة عن حاجة اليمنيين إلى قيادات تستشعر مآسيهم، وتشبههم، وتعايش قضاياهم وهمومهم.
ويرى العمار أن رسام الكاريكاتير الجيد، هو المتابع للأحداث والقضايا، والذي تحمل رسوماته أفكاراً تهم المتابعين، فهي العمود الفقري في هذا الفن، وتكمن قوة تأثير الكاريكاتير في قوتها.
وعن تأثير النزاعات على فن الكاريكاتير، يقول العمار: "تؤثر النزاعات على الإعلام بشكل عام، خصوصاً في البلدان التي لا توجد فيها مساحة من الحرية، فلا تتيح مناقشة القضايا الحساسة في أيام السلم، فكيف الحال في أوقات النزاعات، إذ لا يتجاوز النقد ذلك التناول البسيط للقضايا السطحية، ولا تستطيع أن تتناول قضايا حساسة، كالانتهاكات، والقمع، والظلم، والمخالفات الدستورية، ما يؤثر على مضمون الكاريكاتير. في اليمن، توقفت صحف كثيرة عن الصدور، منها صحف أهلية وحزبية، ولم يبقَ إلا اتجاه واحد، وهنا نلحظ أهمية الكاريكاتير لتقديم وجهات نظر أخرى".
ويتحدث الفنان سامر الشميري، لرصيف22، عن بداية ظهور فن الكاريكاتير اليمني، والتي تعود إلى أواخر السبعينيات وبداية الثمانينيات من القرن الماضي، على يد مجموعة من الفنانين، منهم عارف البدوي، ومحمد الشيباني الذي أعطى الطابع المميز لرسم الكاريكاتير اليمني، بالإضافة إلى عدنان جمن، ويتابع: "انتشر الكاريكاتير بشكل خاص في بداية التسعينيات، مع ظهور الصحافة الساخرة المتمثلة في صحيفة ‘صم بم’، التي ضمت مجموعة رسامين منهم أحمد الحامد. ومع منتصف التسعينيات وبداية الألفية، خرج الجيل الجديد، ومنهم أسامه طالب، ورشاد السامعي، ومازن شجاع الدين، وكمال شرف"."شخصية عقلان جاءت محملة بالذاكرة الجماعية، ولا أعتقد أن أي يمني يمكن أن يعرف هذه الشخصية، ولا يجد نفسه فيها. عقلان هو صورتنا الجماعية، وصوتنا الذي نفتقده. صوتنا الساخط، والساخر، والباكي"
وكان لظهور صحيفة الكاريكاتورية الساخرة "الرعية"، في مطلع العام 2011، والشميري أحد مؤسسيها، تأثير كبير في أحداث اليمن، وبرزت رسوماتها بشكل واضح في ساحات الاعتصام.
مع ذلك، يبقى فن الكاريكاتير اليمني عشوائياً، كما يوضح الشميري، إذ لا يوجد تكتل يجمع رسامي الكاريكاتير اليمنيين، على الرغم من محاولات إنشاء جمعية خاصة بهم عام 2012، إلا أن الحرب، والميول السياسية للرسامين، أفشلتا هذه المحاولة.
صورة جماعية
وعقلان...يبحثُ عن رأسه
بعد كل قذيفة...
ويبحث في نفسه
عن وطن...
وعن أغنيات لطيفة...
ويكسرُ في كل يوم صنمْ...
وعقلانُ مُتهمٌ مُتهمْ...
وعقلان أكبر عاصمةٍ للألمْ...
وعقلانُ في كل شيءٍ عدمْ...
وعقلانُ آخرُ ساريةٍ للعلمْ...
وعقلان ليس أحدْ...
وعقلان صورة هذا البلدْ...
يقول زهير الطاهري، كاتب هذه القصيدة التي لاقت رواجاً كبيراً في مواقع التواصل، وتحمل عنوان "عقلان... نبيُّ الشوارعْ"، في حديثه لرصيف22: "أحببت هذه الشخصية، لأنها تمثل اليمنيين جميعهم. من أول كاريكاتير لعقلان، كنت من الذين اقترحوا على الفنان تحويلها إلى توقيع دائم. وبعدها، كنت أراقب الرسومات كلها التي تحمل توقيع عقلان. وأعترف بأنني في لحظة ما، تمنيت لو كنت رشاد السامعي، لأكون صاحب عقلان فحسب".ويرى الشاعر الشاب أن شخصية عقلان "جاءت محملة بالذاكرة الجماعية، ولا أعتقد أن أي يمني يمكن أن يعرف هذه الشخصية، ولا يجد نفسه فيها. عقلان هو صورتنا الجماعية، وصوتنا الذي نفتقده. صوتنا الساخط، والساخر، والباكي".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينرائع
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعربما نشهد خلال السنوات القادمة بدء منافسة بين تلك المؤسسات التعليمية الاهلية للوصول الى المراتب...
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحرفيا هذا المقال قال كل اللي في قلبي
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعبكيت كثيرا وانا اقرأ المقال وبالذات ان هذا تماما ماحصل معي واطفالي بعد الانفصال , بكيت كانه...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ اسبوعينحبيت اللغة.