على واقع مثخن بجراحات الحرب، وما خلَّفته من دمار وشتات داخل الأسرة الواحدة، حيث بات الأخ يقاتل أخيه بسبب الاختلاف السياسي والمذهبي، يحاول الكثير من اليمنيين، إرساء مبادئ التعايش وتقبل الآخر.
في الوقت الذي شردت الحرب ملايين اليمنيين من منازلهم، في رحلة نزوح داخلية من مدينة إلى أخرى، بالإضافة إلى الهجرة العكسية لللقرى والأرياف، وباتت أسر يمنية عديدة ممَّن تعاني ويلات الحرب، لا تتقبَّل وجود النازحين، وتراهم دخلاء على مناطقهم، وارتفعت إيجارات المنازل بنسبة كبيرة في معظم محافظات البلاد، واستشرت نظرة دونية وعنصرية للنازحين.
وليس النازحون فقط من يواجه هذه العنصرية، فذوو المهن البسيطة، كالحلاقين والنجارين، وأصحاب البشرة السوداء، والمعاقون، وفئات أخرى، الأمر الذي حوَّل المعارض الفنية، ومنصات التواصل الاجتماعي الى منابر تدعو الى التعايش ووقف الحرب.
هذا ما جسدته مسرحية "متعايشين"، التي نظَّمها البيت اليمني للموسيقى، نهاية يناير الماضي في العاصمة صنعاء، ضمن مشروع "فننا تعايش"، من خلال ثلاثين شاباً وشابة من مختلف شرائح المجتمع، من معاقين ومهمشين، معمّرين وشباب، دمجهم المشروع في عمل مشترك كدعوة للتعايش، وبتمويل من منظمة giz في اليمن، لشباب كتبوا، لحنوا، غنوا ومثلوا هذه المسرحية.
"مجتمعنا يشبه وكر الذئاب"
"جاءت مسرحية "متعايشين" نتيجة للظروف الصعبة التي يعيشها المجتمع اليمني بسبب الحرب، والتي انعكست بشكل واضح على السلوك المجتمعي، حيث يظهر ذلك في عدم تحمل الناس لكل هذه الأعباء والهموم"، يقول فؤاد الشرجبي، مدير البيت اليمني للموسيقى والقائم على مشروع "فننا تعايش".
ويضيف فؤاد: "تغيرت أساليب الناس في التعامل مع الآخرين، وصاروا أكثر عدوانية وحذراً من الآخر، واختفت الكثير من قيم التعايش، والتعاون، وتقبل الآخر".
ليس النازحون فقط من يواجه هذه العنصرية، فذوو المهن البسيطة، وأصحاب البشرة السوداء، والمعاقون، وفئات أخرى، تواجه العنصرية أيضاً، ممَّا حوَّل المعارض الفنية، ومنصات التواصل الاجتماعي إلى منابر تدعو الى التعايش ووقف الحرب.
ويشير فؤاد في حديثه لرصيف22 إلى أن "الشباب هم الضحية الأكبر من هذا الدمار المجتمعي والنفسي".
"الشباب هم الضحية الأكبر من هذا الدمار المجتمعي والنفسي".
ثلاثون شاباً وشابة من مختلف شرائح المجتمع، نازحون، ومهمشون، وأيضاً خريجو جامعات، وعاطلون عن العمل، بالإضافة إلى مكفوفين، ومعاقين حركياً، جمعتهم ورشة عمل مكثفة للتعريف بمبادئ التعايش، تقبل الآخر وضرورة التعاون والعمل كفريق جماعي، ثم دُرِّبوا في مجموعات على الكتابة، والتمثيل، والعزف على الآلات الموسيقية، بحسب فؤاد.
في ذات السياق، يطلق يمنيون بين حين وآخر دعوات للتعايش وتقبل الآخر، في أغانٍ ورسومات فنية، وخُصِّصت صفحات على مواقع التواصل الاجتماعي لنبذ العنصرية وإشاعة الحب والإخاء.
في عام 2015 أطلقت الناشطة اليمنية المعروفة بلقب "ملكة المسؤولية الاجتماعية"، عبير الأمير، مبادرة "يمن التعايش" بعد أن بدأت تنتشر الأفكار العنصرية والمناطقية بين أبناء الشعب اليمني، جنوباً وشمالاً.
وكانت البداية بإنشاء "جروب" على موقع فيس بوك، بعد انتشار الترويج لمشروع الانفصال بين الشمال والجنوب، أطلقت عليه "يمن التعايش والسلام يمن المحبة والإخاء"، ثم اتجهت لإنشاء مشاريع عملية لتجسيد مبادرتها.
تسعى المبادرة لتقديم خدماتها للمحتاجين ومساندة المتضررين من الحرب، بغض النظر عن أصولهم ومناطقهم.
وبحسب عبير فإن المبادرة تعمل على التوعية حول أهمية نبذ العنصرية والطائفية، وترسيخ ثقافة التعايش واحترام الآخر رغم الاختلافات الفكرية، بالإضافة إلى نشر ثقافة العمل التوعوي والإنساني، من خلال إقامة ندوات خاصة بذلك، وفق حوار أجرته مع صحفية "26 سبتمبر" اليمنية.
ويرى الصحافي اليمني أكرم الحاج، أن المجتمع يحتاج إلى إرساء قيم التعايش، لبناء مجتمع متماسك يعطف على الصغير، ويرحم النازح والضعيف.
"عاش الكثير من اليمنيين مستضعفين خلال حكم الأنظمة السابقة، وحكم مشايخ القبائل، فبات يتجه إلى التسلط على من هو أضعف منه، فأصبح المجتمع أشبه بوكر للذئاب الوحشية"
ولفت الحاج، في حديثه لرصيف22، إلى أن دعوات التعايش مستمرة من قبل الحرب، لتقبل المهمشين و"ذوي الحرف المتدنية" على حد تعبيره.
ولفت الحاج إلى أن العنصرية في اليمن "متعمقة جداً، وليست محصورة باللون والعرق، بل أن المقيم في مدينته يرى أنه متميز على الوافد من منطقة أخرى، ما يجعله يتنمر على الوافدين والنازحين".
وقال الحاج: "عاش الكثير من اليمنيين مستضعفين خلال حكم الأنظمة السابقة، وحكم مشايخ القبائل، فيكون مستضعفاً مظلوماً، ويتجه إلى التسلط على من هو أضعف منه، فأصبح المجتمع أشبه بوكر للذئاب الوحشية".
"الحرب نشرت العنصرية والانقسامات السياسية والطائفية".
ولكن الناشطة الاجتماعية، فريال مجدي العبسي، العاملة بمنظمة "شباب بلا حدود" بالعاصمة صنعاء، ترى أن العنصرية استشرت في المجتمع اليمني بسبب الحرب التي أفرزت انقسامات سياسية وطائفية، بالإضافة إلى ما يعانيه اليمن من تمييز اجتماعي مبني على اللون والعرق والمنطقة والمهنة.
وبحسب العبسي فإن هناك أسباباً كثيرة أدت إلى تفشي العنصرية، منها قلة الوعي، عدم تقبل الآخر، بالإضافة الى الحرب القائمة.
ولفتت إلى أن "الحرب جعلت من كان لا يهتم بالتقسيم الطبقي يبحث عنه، وعما يميزه عن غيره ليحارب به في النقاشات والمجالس والتجمعات، وذلك لأن حديث هذه التجمعات أصبح محصوراً في هذا المجال".
وثمَّنت العبسي أهمية الأدب والفن في محاربة العنصرية، تقول: "المواطن اليمني أصبح لا يهتم بما يُقدم من كتب وروايات جديدة، أو أي أعمال فنية، ولا يبحث عن تراثه وقيمته الكبيرة، فإذا ما اتجه نحو الماضي، بحث عن الطبقات والسلالات وأصولها والمناطق التي تنحدر منها".
وتدعو فريال لمحاربة العنصرية وإرساء مبادئ التعايش من خلال الاهتمام بالجوانب المهملة من الفن والأدب، كالرسم، والكتابة، والغناءـ والمسرح وغير ذلك من الفنون، بحيث يجد اليمني في نهاية المطاق خيارات أخرى للتفكير بها، والحديث عنها مع أصدقائه وأقاربه في المجالس.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...