يجهز أحمد حسن الطعام، ويبيعه للمواطنين في أحد المطاعم الشعبية، وسط العاصمة اليمنية صنعاء، بعد استمرار انقطاع راتبه الحكومي للعام الخامس على التوالي، ويراوده شعور بالمرارة والقهر، مثل عشرات الآلاف من الموظفين الحكوميين في مناطق سيطرة الحوثيين.
يقول أحمد (46 عاماً)، موظف حكومي في التربية والتعليم، بمحافظة إب وسط اليمن: "اتصلت بأحد أصدقائي في صنعاء، أسأله عن فرصة للعمل، وقلت له ضاقت يا صاحبي، سأعمل في أي شيء. أهم شيء وجود العمل".
لماذا لا تصرف الرواتب؟
يتحسر أحمد على أيام الوظيفة، والرواتب الحكومية، عندما كان يستيقظ في الصباح الباكر للذهاب إلى المدرسة، متأنقاً ورائحة العطر تفوح منه إلى مسافات بعيدة، وكان راتبه الشهري يغطي احتياجات أفراد عائلته، أما اليوم فيعمل بمطعم، ويعجز عن شراء أبسط الاحتياجات. يقول: "أفراد أسرتي يختبرون أوضاعاً قاسية نتيجة انقطاع راتبي منذ أواخر عام 2016".
يعيش أكثر من نصف مليون موظف حكومي في العاصمة اليمنية صنعاء، ومناطق سيطرة الحوثيين، بدون رواتب منذ أيلول/ سبتمبر 2016، بعد إعلان الحكومة المعترف بها دولياً نقل البنك المركزي من صنعاء إلى مدينة عدن جنوب اليمن.
وكان لقرار نقل البنك المركزي إلى عدن تبعات كارثية على حياة الموظفين الحكوميين، الذين توقفت رواتبهم، مصدر دخلهم الوحيد الذي يعتمدون عليه في تأمين احتياجاتهم الأساسية، في بلد تعصف به الحرب منذ أكثر من ست سنوات.
كان يستيقظ في الصباح الباكر للذهاب إلى المدرسة، متأنقاً ورائحة العطر تفوح منه إلى مسافات بعيدة، وكان راتبه الشهري يغطي احتياجات عائلته، أما اليوم فيعمل بمطعم، ويعجز عن شراء أبسط الاحتياجات
ينفي الباحث في الشؤون الاقتصادية عبدالواحد العوبلي وجود علاقة بين نقل البنك المركزي إلى عدن وعدم صرف المرتبات الحكومية في مناطق سيطرة الحوثيين، لافتاً إلى أن رواتب الموظفين بعد عام 2016 كانت تصرفها الحكومة الشرعية.
وحمّل العوبلي في تصريح لرصيف22 الحوثيين مسؤولية استمرار انقطاع رواتب الموظفين في مناطق سيطرتهم، وذلك لأنهم سبق أن استولوا على الاحتياطي النقدي للدولة إبان السيطرة على العاصمة اليمنية صنعاء في خريف 2014، والذي كان يبلغ نحو خمسة مليارات دولار، حسب العوبلي.
"استيلاء الحوثيين على مبالغ جمارك المشتقات النفطية، التي كانت تودع في حساب بنكي خاضع لإشراف الأمم المتحدة، عطل الموارد التي كانت تغذي البنك المركزي، وبالتالي خسرت الحكومة كل تلك الأموال، وكانت قادرة على أن تدفع رواتب الموظفين لولا استيلاء الحوثيين عليها"، يقول العوبلي.
وتسببت أزمة انقطاع الرواتب الحكومية بصدمة كبيرة للكثير من الموظفين، الذين ساءت أحوالهم بعد أن كانوا يعيشون حياة كريمة، ومستقرة، خصوصاً المعلمين، والأكاديميين الذين كانت الوظيفة مصدر اعتمادهم الوحيد لتصريف شؤون حياتهم.
تقول رئيسة قسم الصحافة بكلية الإعلام بجامعة صنعاء، الدكتورة سامية الاغبري: "شكّل انقطاع الرواتب الحكومية أواخر العام 2016 صدمة موجعة للكثير من الأكاديميين، إذ انقلبت حياتهم في الجامعات اليمنية رأساً على عقب، وساءت أحوالهم المعيشية والصحية والنفسية".
"أثر انقطاع الرواتب على أدائهم التدريسي، وإنتاجهم العلمي، وهاجر البعض ممن حالفهم الحظ، والبعض اﻵخر مكث، وبحث عن أعمال لا تتناسب مع وضعه الاجتماعي والعلمي، واستهلك فيها قدراً من طاقته الجسدية والنفسية"، تقول سامية.
المهنة دكتور وسائق
أكاديمية من كلية الإعلام حوّلت بيتها إلى مطعم تعدّ فيه وجبات متنوعة، وأنشأت مجموعة على تطبيق واتسآب باسم "طلبك عندي"، وبدأت بالتسويق لمنتجاتها الغذائية، كي تتمكن من دفع بدل الإيجار، وتعليم أولادها، وسد رمقهم.
بعض الأكاديميين لجأوا إلى التدريس في جامعات خاصة، بمبالغ زهيدة، وآخرون يعملون سائقين لسيارات الأجرة، وآخرون في المحال التجارية، وأكاديميات اتجهن للعمل في مجال الإكسسوارات والخياطة.
كل تلك الحكايات سمعتها سامية، وتصدمها، أما عن نفسها فتقول: "انقطاع الراتب جعلني أفقد الأمان، ولا أجد متعة للحياة، حتى العلاج أصبح من الكماليات في حياة الأكاديميين، ويصعب عليهم متابعة الأطباء، ويلجؤون للتداوي بالطب الشعبي أو يصابون بمضاعفات خطيرة تؤدي إلى الوفاة".
يتحسر محمد العماد (40 عاماً)، موظف حكومي، هو الآخر على أيام الوظيفة والرواتب الحكومية، يردد: "رعى الله هاذك الأيام، مفيش وجه للمقارنة بين الأعوام الماضية التي كنا نستلم فيها رواتب شهرية بانتظام، والتي كانت تتراوح ما بين 40 ألف ريال لأصغر موظف و400 ألف ريال لأكبر موظف".
ويشير عماد إلى تغير نظرة المجتمع للوظيفة في ظل انقطاع الرواتب، يقول: "الناس تقول من ادبره الله توظف، لأن وظيفة بدون راتب ما تأكل عيش، أيش الفائدة منها؟ بعد أن كانت للموظف قيمة مرموقة في المجتمع، وكانت الوظيفة محط أنظار الجميع".
مقارنة بالوضع الراهن، والحالة المعيشية المتدنية التي يعيشونها، يقول العماد: "كنا نستلم رواتبنا من دون علاوات وترقيات، ونحسبها قليلة، وعاد سعر صرف الدولار الأمريكي ما يقارب 200 ريال يمني، وكانت أسعار السلع منخفضة، فكيس القمح بـ 2500 ريال (أي ما يعادل نحو 10 دولارات) بينما كان البترول سعة 20 لتراً بـ 1500 ريال أي ما يعادل نحو سبعة دولارات، وكان سعر اسطوانة الغاز المنزلي بـ 700 ريال أي ما يعادل نحو أربعة دولارات ، ناهيك بانخفاض غالبية أسعار السلع الاستهلاكية والخدمات الأساسية".
بالنسبة لعماد، يفسر الوضع كالآتي: "حكومة الشرعية بعدن صرفت للموظفين في الجنوب، وتنصلت بتمييز عنصري عن دفع رواتب الموظفين في 13 محافظة شمالية".
منذ انقطاع الرواتب الحكومية في أواخر العام 2016 تصرف سلطات الحوثيين للمواطنين في صنعاء، ومناطق سيطرتها نصف راتب كل ستة أشهر، وفي المناسبات الدينية مثل رمضان وعيد الفطر والأضحى.
"أكاديميون لجؤوا إلى التداوي بالطب الشعبي، لإن العلاج بات من الكماليات"، "أسر موظفين يتناولون الخبز والماء كوجبة يومية"
يتساءل العماد: "ما يعمل لك نصف راتب وسعر الدولار الأمريكي الواحد أكثر من 600 ريال يمني، وفي ظل ارتفاع أسعار السلع الاستهلاكية، التي بدورها تشهد ارتفاعاً غير مسبوق".
ويتابع: "هناك العديد من أسر الموظفين يتناولون الخبز والماء كوجبة يومية، ولا يجدون غيرهما حتى في الأعياد، نسوا شيئاً اسمه العيد لأنهم غير قادرين على شراء الملابس وجعالة العيد" .
"أمراض نفسية"
ويقول العماد إن الموظفين الذين لم يتمكنوا من الحصول على فرصة للعمل والإنفاق على أسرهم تعرضوا للإصابة بأمراض نفسية وعقلية، ويتذكر أكاديمياً بجامعة صنعاء أغلق عليه بيته الى أن مات داخل شقته، ولم يعثر عليه جيرانه إلا بعد أيام.
ويرى العوبلي أن بإمكان الحكومة المعترف بها دولياً التخفيف من معاناة الموظفين الحكوميين، وصرف رواتبهم من خلال العمل على استعادة الموانئ اليمنية، مثل ميناء "بلحاف"، واستئناف تصدير الغاز الطبيعي المنتج في مأرب، وحل المشاكل في القطاع النفطي نتيجة الإهمال الذي أصاب الآبار بسبب انعدام الصيانة، بالإضافة إلى ضمان توريد مبالغ إيرادات النفط إلى البنك المركزي اليمني.
وشدد العوبلي على أن تقوم الحكومة بتوريد مبالغ المساعدات الإنسانية بشكل كامل إلى البنك المركزي اليمني، ومن ثم الإنفاق على المشاريع والأنشطة بالريال اليمني، بالإضافة إلى إعادة تشغيل مصافي عدن، والتوقف عن دفع رواتب المسؤولين في الخارج بالعملة الصعبة، وتطبيق الكادر الوظيفي للحكومة اليمنية، ليتقاضوا رواتبهم بالعملة المحلية.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...