منذ عصر الفوازير، الذي مرّت عليه سنوات بدت دهراً، افتقد فن الاستعراض تجارب فنّية حقيقية، بعيداً عن المسرح الراقص الذي اعتمدته فترةً، فنانات مثل دينا، وفيفي عبده، فيما اعتيد إدراج تلك الأعمال، تحت بنود العروض المسرحية الغنائية، وهي الوجهة التي تحولت عنها الفنانة شريهان تماماً، وقدّمت آنذاك عروضاً استعراضية بحقّ، لا يخلو بعضها من خلطة تجارية، لكنها تمسّكت بشدة بالحبكات، والمشاهد الدرامية، وصارت أقرب إلى صورة محلّية لعروض "برودواي" المبهرة، ونتذكر منها "علشان خاطر عيونك"، على سبيل المثال لا الحصر، الذي أضاف وجود "الأستاذ" إليها ثِقلاً درامياً، وخفّة، والخلطة "المهندسية" المعروفة.
تعود شريهان اليوم بعمل استعراضي جديد، أراد صنّاعه استثمار فكرة "عودة النجمة"، وتاريخها المسرحي، لكن الخلطة ارتبكت قليلاً، إذ تعددت الرؤى في ما يبدو، فجاءت التجربة، وإن كانت مفاجئة، مصحوبة بقليل من الإحباط.
شريهان... شانيل
غابرييل بونور شانيل، السيدة الفرنسية التي صارت أيقونة للموضة، ليس في باريس وحدها، بل في أنحاء العالم كلها، اعتماداً على ذوقها الشخصي، وحسها الفنّي الشامل، الذي بدأ بالغناء في الملاهي الشعبية في العاصمة الفرنسية، ولم ينتهِ عند حدود صناعة العطور المميزة. عاصرت شانيل ملكاتٍ، وزوجات رؤساء، وفنانين من شتى بقاع الأرض، وكانت لها دائماً نظرتها الخاصة، وحسها الفنّي الذي اهتم بالفخامة في أبسط التفاصيل، والرقي، والابتعاد عن التفخيم.
ارتبكت خلطة "كوكو شانيل" قليلاً، إذ تعددت الرؤى في ما يبدو، فجاءت التجربة، وإن كانت مفاجئة، مصحوبة بقليل من الإحباط.
في تشابه لا يمكنك إغفاله، يمكنك أن ترى شريهان ذاتها في بعض اللمحات من حياة شانيل الصعبة، والمضطهدة أحياناً، أسيرة النظرة العامة، وانطباعات الآخرين، وربما هذا ما حفّز النجمة للعب هذا الدور في المسرحية التي بدأ عرضها منذ أسابيع، على منصة "شاهد"، وتصدرت "الترند" على مختلف مواقع التواصل.
تبدأ المسرحية، وهي من تأليف مدحت العدل، وإخراج هادي الباجوري، بلمحة عن ماضي شانيل، التي تركها والدها في الملجأ على وعد بالعودة إليها لم تتم، ما عدّته الفتاة خطيئةً لم تغفرها للرجال كلهم، في حياتها، من بعده. وببعض اللمحات من الحوار، ندرك كم كانت التجربة قاسيةً، ونعرف أكثر عن النبتة التي أزهرت وسط الصخور. في اسكتشات سريعة متتالية، نجدنا أمام شانيل الشابة، والقائدة بالفطرة، التي مرّت بمراحل الإلهام الفنّي كلها، وطاوعتها، من غناءٍ، وتصميمٍ، وتنفيذ أزياء.
تَعبّر شانيل، بمواهبها الفطرية، عن عالم الموضة، وصراعاتها، ويحكي العرض عما عدّوه حينها "شطحات"، بدءاً من ارتداء السيدات السراويل، عوضاً عن الفساتين المنفوشة التي تحدّ من الحركة، وانتهاءً بـ"The little black dress"، الصيحة الأكثر أناقة في حينها، على بساطة الفكرة، بلا بهرجات، وزينات كثيرة. كان مبدأ شانيل الرسمي يعتمد على الأناقة، من دون التخلي عن العملية.
تتوسط رحلتها قصص الحبّ، بخذلان الحبيب الأول، الثري الذي، وإن كان مبهوراً بالشخصية القوية، والموهبة الفكرية، إلا أنه لم يستطع مواجهة المجتمع بصحبتها، فتخلّى عنها، مروراً بالضابط الألماني -العدو- الذي استطاع اختراق القلب الحديدي الذي عادى الرجال دهراً، طلباً للأمان، وبقصّة تدخّل المجتمع أيضاً، واتهامها بالجاسوسية. وكانت تلك ضربة شانيل القاضية. نُبذت الملهَمة الأيقونة، وأُرسلت إلى المنفى، وزهدت في الحياة، وعافت الناس، وهجرتها موهبتها. فهل تحاول النهوض كما فعلت دائماً؟ أم هل يجافيها الأمل، أو يخدعها؟
تداخل المسرح والتلفزيون
جهد مبذول لا يمكننا الإشارة إليه بأقل من الروعة، وتفاصيل دقيقة، حتى في الأزياء التي من المفترض أن تؤدي أكثر من غرض، في مشاهد متتابعة، كأن تمزّق شريهان بعضها، بينما تقف على المسرح لتناسب النسخة المعدّلة المشهد التالي.
تداخلت الديكورات في سلاسة منطقية لتغيير المشهد، كأنك تسير وراء الأبطال، بينما يمارسون حياتهم العادية. ولم تخذلنا الصورة إلا في الجزء الذي اضطر فيه المنفذون إلى استخدام الغرافيك، للتعبير عن حالة الحب التي تعيشها البطلة، بطيران الأبطال مثلاً. صورة مبتذلة، ولكن على الرغم من التدريب الذي جعل الأبطال يتحركون في الهواء بخفّة، إلا أن المونتاج كان معيباً، وطالت الفقرة، بينما كان يمكن إيصال المعنى بطريقة مختلفة وقصيرة الأجل، لا تُخرج المشاهد من جو العمل، خاصةً وأننا نعلم أن العرض مسجّل، أي أنه ليس عرضاً مسرحياً يومياً معتاداً، كما المتعارف، وذلك لعِظَم التكاليف، وبالطبع مراعاةً للبطلة التي لن تتمكن من أداء يتطلب هذا القدر العظيم جداً من المجهود، في عرض حي، ويومي.
هذه العناصر كلها، تدفعنا إلى أن نطلق عليه -إن جازت التسمية- عرضاً مسرحياً تلفزيونياً، فالعامل الأهم في العرض المسرحي، وهو الجمهور الحي، غير متوافر هنا، فلا تفاعلاً مباشراً مع الجمهور، ولهذا شاب أداء الأبطال بعض الجمود، فالمردود هنا من ضحك الجمهور، وتصفيقه، لا نعرف كنههما حقاً، فبدا كالضحكات المسجّلة في خلفية مسلسلات "السيت كوم"، أو كوميديا الموقف.
العامل الأهم في العرض المسرحي، وهو الجمهور الحي، غير متوافر هنا، فلا تفاعلاً مباشراً مع الجمهور، ولهذا شاب أداء الأبطال بعض الجمود، فالمردود هنا من ضحك الجمهور، وتصفيقه، لا نعرف كنههما حقاً، فبدا كالضحكات المسجّلة في خلفية مسلسلات "السيت كوم"
انتهى تصوير العرض، وتسجيله، عام 2019، حسب تصريحات منفّذيه، وقد أقيم على منصة مسرحية ثابتة، بينما كانت كاميرا تسجيل العرض تقف من الأبطال موقف المتفرج، فلا تتنقّل كما يجب، بالقرب المطلوب، لنرى وجوه الأبطال، وانفعالاتهم، وهم يواجهون بعضهم البعض في كثير من الأحيان، تماماً كالمسلسلات الدرامية، ولا يظهر منهم سوى "البروفايل"، أو جانب الوجه، بينما يفترض أن تكون وجوههم شاخصة إلى حيث الجمهور، كما في العرض المسرحي.
تبقى الإشارة إلى نقطة مهمة، فبالرجوع إلى عودة شريهان الأخيرة في الإعلان الرمضاني، يمكننا ملاحظة الصورة القاتمة نفسها في عموم العرض، وفكرة الاسكتشات المتتابعة، والتي إن يربطها موضوع واحد أصيل، فكل فقرة منها مستقلة بذاتها؛ مشاهد مطوّلة منفصلة ومتّصلة، كالعروض الإعلانية تماماً.
طابع غربي
أما عن السيناريو، فالجُمل المستخدمة برّاقة للغاية، وعلى الرغم من المحتوى الكوميدي المقصود، والذي أصاب مرّات، إلا أن بعض الجمل جاءت وعظية جداً، في حين كان يمكن الاستعاضة عن المغزى، والهدف، بأغنية في الخلفية، خاصةً وأن العرض بالأصل استعراضي، أو بالموقف الدرامي نفسه، الذي إن تم بناؤه جيداً، فسيؤدي الغرض منه، حتى ولو كان الأبطال صامتين.
كانت الاستعراضات من أعظم لحظات العرض، وتضافرت جهود مصممها مع جهود مصمم الديكور، فخلقت صورة بديعة.
ومن ذلك أيضاً، انهيار الإيقاع في لحظات طويلة بدت مملة، ومكررة المحتوى، حتى مع محاولات الاستعانة بنجوم ذوي طلّة، واهتمام إعلامي حديث، مثل آسر ياسين، الذي ظهر قبل نهاية العرض، لتحكي شانيل في الحوار بينهما عن بعض مبادئها، ونظرياتها في الحياة، والتصميم. حوار بجمل مباشرة كان يمكن أن يوظف في مشهد درامي، لا أن يقال كمعلومات تبدو مقتطعة من صفحة ويكيبيديا، للتعريف بغابرييل شانيل.
أضاف ذاك الطابع الجامد إلى الحوار وجهاً غربياً على روح العمل نفسه، فبدت المسرحية كإحدى السهرات التلفزيونية القديمة المأخوذة عن أعمال مترجمة، وبدت الجُمل نفسها كما لو كانت مترجمة، لا مكتوبة بلغة عربية أصيلة. مناظرات، وجدالات، واسكتشات سريعة، ينقصها الإيقاع الدرامي، الذي لم يتحقق سوى في المشاهد الاستعراضية المبهرة، نعمة للعين حقاً، وبلا جدال.
خلطة غير مفلترة
كانت الاستعراضات من أعظم لحظات العرض، وتضافرت جهود مصممها مع جهود مصمم الديكور، فخلقت صورة بديعة، كمشهد محاكمة شانيل التي وقعت في حب ضابط ألماني، ما جعل القوم في فرنسا يعدّونها خائنةً لقضية وطنها، إبان الحرب العالمية، والاحتلال الألماني، وهو المشهد الوحيد الذي كان الحوار فيه أصيلاً، وأدت مشاهده الدرامية الغرض منها كما يجب، إذ استطاع "ميزان العدل" الذي كان يميل تارة لصالحها، وتارة ضدها، أن يوصل المعنى بمجرد الحركة، واستطاعت شريهان ببراعة، ومعجزة جسدية، وتدريبات لا بد أنها طالت، أن تؤديه بسلاسة، وتمازج غريب، مع الجموع، فكل عضلة كانت في مكانها.
بدت المسرحية كإحدى السهرات التلفزيونية القديمة المأخوذة عن أعمال مترجمة، وبدت الجُمل نفسها كما لو كانت مترجمة، لا مكتوبة بلغة عربية أصيلة. مناظرات، وجدالات، واسكتشات سريعة، ينقصها الإيقاع الدرامي، الذي لم يتحقق سوى في المشاهد الاستعراضية المبهرة
أما المأساة الأهم، فكانت في استغلال قدرات شريهان، أو العمل على الصورة النمطية المأخوذة عنها، وعن مجمل أعمالها الاستعراضية السابقة، والتي تضمّنت رقصات استعراضية من خلفيات عالمية مختلفة، واعتادت أن تختتمها بالرقص الشرقي. في بدايات العرض، ومن متابعة قريبة، تجد بعض الحركات الشرقية تتسرّب بالفعل إلى الاستعراض، ولا يمكنك إلا أن تتجاهلها، ظناً منّك أنها غير واضحة بما يكفي، وربما تندرج تحت بند تشابه بعض حركات تراث الاستعراض في العموم، حتى تأتي الخاتمة، والاستعراض النهائي، وتنفرد البطلة برقصة شرقية "بلدية" واضحة، تقتطع فترة كبيرة لا تخطئها العين، بلا تمهيد بالطبع، ولا أصل في محتوى العمل.
ختاماً، وبتتبع أخبار الإعلان عن عودة شريهان المسرحية التي امتدت لسنوات مضت، ارتفعت التوقعات والطموحات في ما أكّدته الدعاية، واهتمّت كثيراً بالإشارة إلى فكرة "العودة"، وذلك في ظنّي هو ما جعل الأمر يستقر على كونها تجارب مسرحية، بالنظر إلى تاريخ شريهان في المسرح، بينما كان يمكننا، بتلك التكاليف، و ذلك الاهتمام بالتفاصيل، أن نصنع عملاً درامياً مميّزاً، يستقطب ملايين المشاهدين، بدلاً من ذاك الذي بدا إعلاناً أنيقاً طويلاً جداً.
وإن كان لنا أن نحكم، فلنسمِّ شريهان بمسمّاها الحقيقي، بطلةً استعراضية، وأيقونةً مصرية، بالنظر إلى تاريخها مع الأزمات، وإلى تقدمها في العمر، إذ ما تزال فراشةً، لا تُعدم اللياقة أبداً، ولا تتجاوزها الطلّة المبهرة في أي حال.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 18 ساعةرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ يومحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ يومينمقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ 5 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون
Ayman Badawy -
منذ أسبوعخليك في نفسك وملكش دعوه بحريه الاخرين