في كتاب الفن الشعري "ون فو" اعترف لو جي بسطوة الحرير: "في متر من الحرير يوجد فضاء لا منتهٍ"، وسينتيا مرهج عارفة بلا شك، تعرف الحرير طيلة حياتها. نراه في أزيائها، أبيض كالثلج وزهر الليس ومصابيح إيكيا المتأرجحة، أزرق كانعكاس السماء على البحيرات والبحار أو أخضر كأيقونات الجدران الرطبة. دائماً ما يثير الحرير الوهم بفراغ مفعم بالاحتمالات، إنه مُعَد لتلقي الفضاء اللامنتهي واحتوائه وثنيه كشريط. لكن كيف تكون البداية؟ الإلهام؟ أسلوب العثور على شكل يستطيع أيضاً أن يكون شكلاً شِعرياً؟
هي ليست مصادفة بلا شك أن تصبح مصممة الأزياء اللبنانية سينتيا مرهج أوّل امرأة عربية تتأهل إلى الدور نصف النهائي لجائزة لويس فويتون LVMH الفرنسية العريقة لهذا العام لمصممي الأزياء الشباب، فمن يتتبع إنتاجها يلاحظ تجدداً وتوسيعاً مستمراً لحلقات هويتها الفنية. المحترف الصغير الذي فتحته في بيروت عام 2016، بعد الانتهاء من دراستها في مجال التواصل البصري في جامعة "سنترال سانت مارتنز" في لندن، تحوّل إلى دار موضة وعلامة بارزة لها وزنها تحمل اسم "Renaissance Renaissance".
وليس سهلاً على مصمّم أزياء عربي أن يشق طريقه في فرنسا، لكن سينتيا مرهج لم تأت من رحلتها الدراسية مُبشّرة كغيرها من المصممين، بل حملت فنّها إلى العالم، تاركة للآخرين أن يتأثروا بها لا العكس. لذلك يُنظر إلى عملها اليوم بالكثير من الاهتمام والترحيب، وتُسلّط الأضواء على تصاميم توسّع انطباعاتنا الجاهزة عن الموضة، لأنها مزيج بين الكوتور وكل أنواع الفنون، إذ غالباً ما ترتبط القطع بنسيج من العلاقات التي تقيمها مرهج بين عناصر ومرجعيات ثقافية متداخلة.
ليست مصادفة أن تصبح مصممة الأزياء اللبنانية سينتيا مرهج أوّل امرأة عربية تتأهل إلى الدور نصف النهائي لجائزة لويس فويتون الفرنسية العريقة لهذا العام لمصممي الأزياء الشباب، فمن يتتبع إنتاجها يلاحظ تجدداً وتوسيعاً مستمراً لحلقات هويتها الفنية
فهي لا تتردد في صنع التئامات غريبة بين لوحة "رقصة الموت" لميكائيل فولغيمون، فن التانترا في راجستان، الملهى الليلي الأسطوريle palace في باريس خلال السبعينيات والطقوس الصوفية والرسومات الطبيعية بالأكواريل لكلّ من جورجيا أوكيف وباربارا ريجينا دييتش، ليخلق الدمج والنقل والتحريف تشكيلة حيوية ومرحة، وتحضر مواد وعناصر غير متجانسة تحتفي بالمرأة المعاصرة ويومياتها المزاجية.
ولا تكتفي مرهج بالمراهنة على المغايرة على صعيد التصاميم الفنية، عبر قصّات مصقولة مُلاصقة لتضاريس الجسم على طراز الكورسيه أحياناً وأخرى فضفاضة مُبالَغ بحجمها ذات ثنيات متموّجة، لكن تجازف أيضاً على صعيد اختيار عارضاتها، اللواتي تصرّ أن يكنّ أقرب إلى النساء العاديات في تفاصيل إطلالاتهن ومقاساتهن. ما يشكّك في فكرة عالم الأزياء المتمثلة في أن الترويج للملابس حكرٌ على الأشخاص ذوي الأجسام "المثالية".
تصف مرهج عملها بأنه "استكشاف معاصر لتراث الأزياء النسائية "، هي التي سارت على خطى والدتها لورا التي لطالما سحرتها حركاتها الدقيقة وهي تطلب من زبائنها أن يرتدوا الباترون لتعدّله على أجسادهم مباشرة بكثير من الصنعة والانتباه. كما تأثرت بجدتها لوريس سروجي، التي اشتهرت منذ أكثر من نصف قرن في حيفا بتصميمها أزياء نساء المجتمع الفلسطيني. تقول: "اقتداء بها ابتعدت عن تصميم أزياء الهوت كوتور، وفضّلت عليها أزياء بسيطة تناسب إيقاع المرأة العصرية"
تشكُّل الذوق
لكن ألا تعيدنا هذه الرؤية إلى عام 1926 حين صمّمت كوكو شانيل "الفستان الأسود الصغير" بخطوط بسيطة، وفقاً لإيمانها بأن "الموضة تمرّ وتبقى الأناقة"، وأصبح سلاح المرأة المناسب لكل الأغراض والإجابة على سؤال: "ماذا ينبغي أن أرتدي؟"، بدءاً من حفلات الكوكتيل وحتى اجتماعات العمل؟
ليس سهلاً على مصمّم أزياء عربي أن يشق طريقه في فرنسا، لكن سينتيا مرهج لم تأت من رحلتها الدراسية في لندن مُبشّرة كغيرها من المصممين، بل حملت فنّها إلى العالم، تاركة للآخرين أن يتأثروا بها لا العكس
كانت صناعة الأزياء الراقية آنذاك في أيدي الرجال، بداية من نجاح تصاميم كريستيان ديور الهندسية التي عُرفت بـ"New Look" وتميزت بالخصر المُحكَم النحيل وحمالات الصدر المبطنة والأكتاف المستديرة الضخمة، واعتبرتها شانيل تُعبّر عن خيال ذكوري يقيّد النساء ويحدّ من حريتهن. لذلك تميزت تصميماتها بالبساطة والعملية والأقمشة المريحة، مثل الجيرسي التي تمنح حرية كبيرة وراحة مقارنة بالمشدّات الضيقة والحشوات والكورسيهات التي سبقتها.
ولا ننسى أن مسار الأزياء كان قد تغير بشكل درامي بعد الحرب العالمية الأولى، حين اختلف دور النساء في المجتمع وتولّين الوظائف التي كان يشغلها الرجال في المزارع والمصانع والتمريض، كما أثرت الحرب بشدة على توفر المواد اللازمة لتصنيع الملابس المدنية؛ حيث كانت أغلب هذه المواد تُخصص للاستخدام العسكري كأولوية، وهكذا اتجه مصممو الأزياء للاقتصاد في الأقمشة اللازمة لحياكة الملابس، ما أدى لاستبدال الفساتين الطويلة ذات الطبقات المتعددة، والتي أصبحت عائقاً للحركة والعمل، بتنانير مستقيمة وقصيرة.
خفتت الزركشة المبهجة أيضاً لصالح ألوان أكثر قتامة ورصانة، واتخذ الناس أسلوب حياة أكثر بساطة، ما دفع النساء لتقليل المجوهرات والتخلي عن الملابس الفخمة المزينة لصالح تلك الأكثر عملية. لكن ماذا نعني اليوم في 2021 حين نصف الملابس الأنثوية بأنها أصبحت سهلة ومريحة، بسيطة وعملية؟ على ماذا يتمرّد المصمم بالضبط؟
بطانة "سوسيولوجية" للتصميمات
تقول مرهج: "لا تهمني التصاميم التقليدية المثقلة بالزخارف والتطريزات البرّاقة، التي تحاول أن تجعل المرأة تبدو كالأميرات أو رمزاً للأغراء. في المقابل أدرس ما يناسب طبيعتها وشخصيتها لأقدّم لها بلغة سلسة وسهلة ما يخدمها في كل مناسباتها اليومية. ولهذا السبب غالباً ما تكون ثيابي مصنوعة من الجينز أو الكتّان أو الحرير، أقمشة خفيفة الوزن أجلبها عادة من البرتغال".
الجديد هو تجديد ما هو موجود إذن، ومحاولة تطويره وتعديله واكتشاف مناطق غير مستعملة فيه. بهذه الطريقة، تتسرب ميول طفولية إلى المجموعة ككلّ. هناك لعب واضح ومباشر على زحزحة الأشكال عن نسختها الأصلية ومقاييسها الواقعية، وهناك استثمارٌ لهذا اللعب وسعيٌ لتحويله إلى منجز شخصي.
ويمكننا سحب هذه الملاحظة على قطع مثل جاكيت "قمر" ذي الثنيات الناعمة، الذي استوحته المصممة من "ملابس الفضاء" في مخطوطات تعود إلى الحقبة العثمانية. نجد أيضاً طباعة إيروتيكية مستلهمة من نقوش فرنسية تعود إلى القرن ال 17، وحقائب يد على شكل كعك الشارع اللبناني.
بهذا النوع من الأفكار تصنع المصممة خلفية أو بطانة ثقافية وتاريخية وسوسيولوجية لتصميماتها. ونذكر أن سينتيا مرهج جاءت متأخراً إلى عالم الأزياء بعدما عملت على مشاريع مختلفة، من التصميم الغرافيكي للمجلات إلى تصميم الأغلفة ورسم الجداريات، وتبدو دائماً شغوفة بالمراجع التاريخية، تعمل من منظور مُضمَر وتأويلي يعيد قراءة الواقع والأفكار.
أثر الوباء
ولعل القصّات والأقمشة المستوحاة من الأزياء سهلة الارتداء تُناسب هذه الأوقات، فليس من المبكر التحدث عن تأثير فيروس كوفيد-19 على الموضة والملابس، فمع جولات الحجر المتعاقبة فقَد الكثيرون اهتمامهم بالملابس وتخلّوا على كل ما هو زائد عن الحاجة، مثل الملابس المزخرفة والمكياج الثقيل ووصلات الشعر والأظافر الصناعية.
وفي الوقت الحالي يواجه صُنّاع الموضة تحدي صناعة ملابس مريحة وعملية وأنيقة بعدما اعتاد الكثير من الناس استعمال ملابس البيت أو الملابس الرياضية لفترات طويلة، في حين قلّ الإقبال على الأكسسوارات ومكملات الملابس نتيجة الاحتياج المستمر للتعقيم.
في الوقت الحالي يواجه صُنّاع الموضة تحدي صناعة ملابس مريحة وعملية وأنيقة بعدما اعتاد الكثير من الناس استعمال ملابس البيت أو الملابس الرياضية لفترات طويلة
ولاحظنا خلال أسابيع الأزياء في كل من ميلانو ولندن، أن تصميمات الموضة الجديدة أصبحت تركّز على ملاءمة الملابس لمحادثات الفيديو، وحرصت بعض العلامات على وضع شعارها قريباً من الياقة، كما اهتمت أكثر بالجزء العلوي من الجسم الذي يظهر في محادثات "زووم".
لكن علينا ألا ننسى أن على الموضة أن تتطلع دائماً إلى الأمام، وأن تكون مُتنفّساً بعيداً عن الرتابة لا أن تكرّسها. يقول المصمم ألكسندر ماكوين "الموضة يجب أن تكون شكلاً من أشكال الهروب، وليس شكلاً من أشكال السجن".
ونحن المحجورين لا نحلم بملابس مونوكروم تذكرنا بجدراننا الباهتة ولا بالبيجاما كزيّ عسكري مُوَحّد، وإنما نتوق لمن يخرجنا من هذا الإحساس بعدم الرغبة في شيء إلى حيث الألوان... الأخضر والذهبي والفوشيا والنيلي المتماوج مع الأزرق، والفساتين التي تُصَب في قوالب انسيابية على أقمشة من الشيفون والحرير والتول والكريب والموسلين.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
Ahmad Tanany -
منذ يومينتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ 3 أياملا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ 6 أيامأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ أسبوعمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...
Nahidh Al-Rawi -
منذ أسبوعتقول الزهراء كان الامام علي متنمرا في ذات الله ابحث عن المعلومه