كغيري، كنت متلهفاً لمشاهدة عمل شريهان الجديد. التحدي ليس سهلاً أمامها. فكرت بأنه لن يكون أصعب من التحديات السابقة التي واجهتها؛ حادث سير كاد يفقدها حياتها بعد أحاديث عن ارتباط عاطفي بعلاء مبارك؛ نجل الرئيس المصري الأسبق حسني مبارك، سبقه مقتل شقيقها عمر خورشيد في ظروف غامضة (في حادث سير أيضاً)، وأخيراً السرطان الذي غزا غددها اللعابية، لتخضع، وفق وسائل إعلام مصرية، لما يقارب 100 عملية جراحية، عدا عن قضية إثبات نسبها، وهي لم تتعدَ الـ16 عاماً.
عادت الفنانة الاستعراضية "بما لا يطلبه المشاهدون". منذ سنوات، تتردد هذه العبارة على ألسنة فنانين، ونقاد، وصحافيين، للإجابة عن تردي مستويات الأعمال الفنية العربية
قال لي أبي يوماً، إن شريهان وجهت دعوة شخصية لطبيبها المعالج بعد الحادث، ليشاهد المعجزة بأم عينيه. وقفت على المسرح، وأدت الاستعراضات؛ قفزت، ورقصت، وضحكت، وأضحكت، وأمتعت جمهورها. هذا كله، كان قبل أشهر مستحيلاً تماماً. لم يكن هذا كافياً كي أعرف شريهان، في ظل غياب وسائل المعرفة قبل انتشار الإنترنت، حتى حل عام 2006. كنت أعيش وحدي في مدينة حمص، بهدف الدراسة. لا أملك تلفازاً، ولا أصدقاء. لكنني كنت أملك مسجل صوت "سي دي". مررت على أحد المحال التي تبيع الأعمال الفنية المقرصنة. لعب المنطق دوره في اختيار مسرحية "سك على بناتك"، وهو عمل طويل مدته تناهز الثلاث ساعات، لقتل الوقت. بطله فؤاد المهندس الكوميديان العملاق.
إذاً، كان الموعد الأول مع شريهان صوتياً، "والأذن تعشق قبل العين أحيانا"، كانت الأكثر إشراقاً في تلك المسرحية، التي ساهم فيها المهندس بتوجيه الأضواء نحو شريهان، وغيرها، عن طيب خاطر. ومرت سنوات قبل أن أكتشف أن المشاهد البصرية كانت أجمل مما تخيلته، لتحتل شريهان لاحقاً مكانتها عندي، كما الملايين غيري، مع اكتشاف أعمالها في مرحلة دراستي السينمائية. بعد غياب سنوات طويلة، عادت شريهان عبر مسرحية "كوكو شانيل"، المقتبسة من قصة حياة مصممة الأزياء العالمية، التي تحمل الاسم نفسه. هذه المرة، نشاهد الأغاني، والإضاءة، والاستعراض، والتصوير السينمائي، بما هو أكثر تطوراً من أعمالها السابقة.
عادت الفنانة الاستعراضية "بما لا يطلبه المشاهدون". منذ سنوات، تتردد هذه العبارة على ألسنة فنانين، ونقاد، وصحافيين، للإجابة عن تردي مستويات الأعمال الفنية العربية، سواء أكانت أفلاماً، أم مسلسلات، أم أغانيَ. الجواب الأول والأكثر سهولة مقابل ركاكتها، هو اتهام الجمهور بما لا ناقة له فيه، ولا جمل: هذا ما يطلبه الجمهور، محملين المسؤولية للناس، والمشاهدين، لا لأفكارهم، وأعمالهم. وكأن المطلوب من المشاهدين أن يكونوا هم المخرجين، والممثلين، والمنتجين، والنقاد، والمحللين السينمائيين.
لماذا أقول إن شريهان عادت "بما لا يطلبه المشاهدون"؟ لأنها وفق هذه النظرية، قدمت العكس تماماً. لعلها لم تقدم عملاً فنياً كاملاً متكاملاً لا ثغرة واحدة فيه، إلا أنه عمل جميل بصرياً، يعيد الأمل والألق إلى المسرح الذي يعاني من أزمات لا تنتهي. أعادت من خلاله شريهان الاعتبار إلى المشاهدين، والمسرح، وإلى الفنون الاستعراضية في العالم العربي.
كسبت شريهان المعركة. هزمت السرطان، وهزمت النظام المصري عندما تواجدت في ميدان التحرير أثناء ثورة كانون الثاني/ يناير 2011، واليوم تهزم العمر، وترقص كفراشة على خشبة المسرح
ربما يبدو كلامي تعاطفاً مع الفنانة، وهو أمر لا أنفيه، ولا ينفيه الآلاف غيري، لكنه ليس عاملاً مؤثراً في عدّ العمل جديراً، أم غير جدير، بالإشادة الفنية. في لحظة انتهاء المسرحية، ولدى تصفيق الجمهور، أعادت إلي شريهان اعتباري، مشاهداً، ومخرجاً، وأنا أشاهد حال الصناعة، والمواضيع التي تطرحها، وكيف تُنفَّذ، ومن تخاطب. نسفت نظرية "الجمهور عايز كده". ومرة أخرى أعادت إثبات حقيقة أن العالم العربي قادر على تقديم فن ممتع، في حال توافرت الإمكانات المطلوبة. ربما غطى الاستعراض على ضعف النص المسرحي، وعلى عشرات إشارات الاستفهام حول الإخراج، وأداء بعض الممثلين. إلا أن صنّاع العمل راهنوا على حضور شريهان الطاغي على الخشبة، مضافاً إليه عامل "العودة بعد غياب طويل".
عادت شريهان بعمل يشبهها؛ قصة عذاب وكفاح وتحدٍ، قصة نجاح، وعشرات الخيبات. وكما هاجمت السلطات الفرنسية كوكو شانيل، حصل الأمر نفسه مع شريهان. كلاهما خاضتا حروباً طويلة كسبتا بعضها، وهزمتا في بعضها الآخر. كسبت شريهان المعركة. هزمت السرطان، وهزمت النظام المصري عندما تواجدت في ميدان التحرير أثناء ثورة كانون الثاني/ يناير 2011، واليوم تهزم العمر، وترقص كفراشة على خشبة المسرح، كأنها ابنة 18 عاماً، لا في العقد الخامس من عمرها.
هو المجد الذي غنته شريهان في آخر استعراض ضمن المسرحية، ترجمت ما فعلته في حياتها، وتخطت آلامها، وأمسكت خيوط مجدها الشخصي الذي لم يأتِ إليها بسهولة، عبر السوشال ميديا، أو اليوتيوب، ولم يأت من دون ألم، لمجرد أنها تفوهت بكلمتين خلف شاشة.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
نُور السيبانِيّ -
منذ 21 ساعةالله!
عبد الغني المتوكل -
منذ يوموالله لم أعد أفهم شيء في هذه الحياة
مستخدم مجهول -
منذ يومرائع
مستخدم مجهول -
منذ 6 أيامكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ أسبوعتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت