الأوطان لا تغفر... كيف تتحوّل عودة المغتربات إلى محاكمة؟

الأوطان لا تغفر... كيف تتحوّل عودة المغتربات إلى محاكمة؟

حياة

الخميس 3 يوليو 20259 دقائق للقراءة


مع كل عودة إلى تونس في إجازتي الصيفية، وما إن تطأ قدماي أرض مطار قرطاج، حتى تستقبلني الكلمات التحذيرية نفسها؛ خالي الذي قضى معظم سنوات عمره في ألمانيا، وابنه المقيم في سويسرا، والعائد مثلي لقضاء العطلة، يكرران العبارة نفسها: "لا تفكّري في الاستقرار هنا... لا شيء يستحق أن تتركي فرنسا من أجله".

في البداية، كنت أظن أنّ الأمر يتعلق فقط بتدهور الوضع الاقتصادي. لكن مع مرور الوقت، بدأت أُدرك أن هذه الكلمات تخفي معنى أعمق؛ إنها تحذير من الغربة، تلك التي لا تشبه غربة الجغرافيا بل غربة الذات في وطن لا يسمح لنا بأن نكون على سجيّتنا، خاصةً نحن النساء.

ومع كل عودة لامرأة تونسية من تجربة الهجرة، سواء كانت قانونيةً أو غير نظامية، تتكشف سلسلة من الروايات الشخصية التي تفضح تعقيدات الهوية وتصطدم بتحديات اجتماعية راسخة. فالعودة إلى "الوطن" لا تعني بالضرورة العودة إلى حضن آمن ودافئ، بل كثيراً ما تتحوّل إلى صدام مباشر مع واقع يُشكّك في التجربة ويُدينها سلفاً.

وغالباً ما تحمل النساء العائدات قصصاً لا تتماشى مع السرديات المحلية المألوفة: أمومة خارج إطار الزواج وعلاقات عاطفية وجنسية غير تقليدية، أو هويات جندرية وجنسية تشكلت في مجتمعات أكثر تقبّلاً. هذه التجارب، بدلاً من أن تُستقبل كتعبير عن تنوّع ثقافي وإنساني، تُقابَل بريبة ورفض، وكأنّ صاحباتها عدن محمّلات بـ"فائض حرية" ينبغي كبحه أو محوه.

نبذ عبر الأجيال

التقى رصيف22، ريم (62 عاماً)، وهي أمّ عزباء أنجبت ابنها الوحيد خارج إطار الزواج التقليدي والمعترف به قانونياً في تونس، وآمنة (27 عاماً)، الشابّة الكويرية التي اختبرت تجربة تحرّر في إيطاليا، قبل أن تعود بدافع الواجب لرعاية والدها المسنّ.

عودتهما لم تكن إلى تونس كوطن وبيت وعائلة فحسب، بل كانت أيضاً عودةً إلى واقع يرفضهما، ويجبرهما على التواري عن الذات الحقيقية، تلك التي تصالحتا معها هناك، في الغربة.

غالباً ما تعود النساء من المهجر إلى بلدانهنّ الأصلية بتجارب حياتية وهوّيات غير تقليدية، تُقابل بالرفض والريبة، وكأنهن يحملن ‘فائض حرية‘ يتوجب كبحه أو محوه

وبرغم الفارق الكبير بين جيليهما، إلا أنّ المنظومة الاجتماعية بقيت على حالها، لا تتسع لتجربتيهما ولا تعترف بحقهما في أن تكونا كما هما، بلا خوف أو خجل.

ففي مخيلة المجتمع التونسي التقليدي، تصبح المرأة العائدة تجسيداً لكل ما يهدد المنظومة الاجتماعية التقليدية: الجرأة في المظهر، الحرية في القرار، والاستقلال المالي والعاطفي. ومن هنا تبدأ سلسلة من "الاختبارات" غير المعلنة، يُقاس النجاح فيها بأهليّتها الأخلاقية في كلّ تفصيل يومي: ماذا ترتدي؟ مع من تخرج؟ ماذا تنشر على وسائل التواصل الاجتماعي؟

كلّ سلوك يُفهم خارج السياق المحلي يُصنّف كتحدٍّ، وكلّ رأي علنيّ يُواجَه بالتحذير أو الوصم، وكأنّ عليها أن تثبت "توبتها الرمزية" عمّا عاشته في الخارج، لتستحقّ إعادة إدماجها في المعايير التي رسمها المجتمع.

هذه الرقابة لا تأتي فقط من العائلة، بل تمتد إلى الجيران، وزملاء العمل، والمحيط الاجتماعي بأكمله، فتجد المرأة نفسها ممزّقةً بين هويتين: واحدة تشكلت في المنفى حيث الحرية والتعبير، وأخرى تُفرض عليها عند العودة، حيث الامتثال والطاعة.

وهكذا، تتأرجح النساء بين الرغبة في عيش حياة حرّة ومتصالحة، وبين الخوف من العزلة أو النبذ، لتتشكل في داخلهنّ فجوة نفسية واجتماعية خانقة، يغذّيها صمت قسري ووصمة غير مُعلنة، لكنها حاضرة في كل نظرة، وكل همسة، وكل "نصيحة" مغلّفة بالقلق الأخلاقي.

الوطن لا يتّسع لقلبي

"الرجوع إلى تونس كان أكبر أخطائي… إيّاكِ والعودة"؛ بهذه الكلمات التحذيرية التي تخللها البكاء، اختتمت آمنة (27 عاماً)، حديثها عن تجربتها لرصيف22. وآمنة، شابّة كويرية تونسية، عادت قبل عامين من سواحل إيطاليا لرعاية والدها المريض، الذي توفّي لاحقاً. تقول: "عشت حياةً على سجيّتي وطبيعتي في إيطاليا، لا أُلام على مثليتي، ولا على حبيّ لـ‘غابرييلا‘ (اسم حبيبتها الإيطالية). عشت حياةً هادئةً، أعمل وأبني ذاتي، لكن رسالةً نصّيةً قصيرةً من أختي أخبرتني فيها عن مرض أبي الشديد دفعتني للعودة إلى تونس لرعايته".

وتكمل آمنة: "أبي لم يتقبّل حقيقتي يوماً، كان يزدري ميولي، ويعيّرني دائماً بها، كنت بالنسبة إليه عاراً يجب أن يبقى في الظلّ لكني عندما سمعت بمرضه لم أستطع أن أبقى في إيطاليا وعدت على الفور إلى تونس".

تتحدث إلى رصيف22، بأنها تفانت بالفعل في رعاية والدها، والحرص على نظافته، وتغيير مفارش سريره، وإعطائه الدواء في مواعيده حتى آخر يوم وفاته، لكنّ كلّ ذلك لم يقابَل إلا بالنبذ والتجريح.

وتصف تجربتها بين ضفّتَي المتوسط بالقول: "إيطاليا علّمتني أن أحبّ نفسي، وأن أقبلها، أما العودة… فقد دمّرتني. الوطن لم يعُد لي، ولا أنا عُدت له. انكسر شيء في داخلي ولا أحسبه قد يُرمَّم".

الأمومة ليست عاراً

تعيش الستينية ريم في مدينة من مدن الجنوب التونسي، قريباً من عائلتها المحافظة، بعد سنوات قضتها في فرنسا، لكنها عادت بصحبة ابنها وحكاية غير مألوفة في مجتمعها. 

هاجرت ريم في شبابها برفقة زوجها، لكن زواجهما لم يستمرّ. بعد سبع سنوات لم تفلح محاولتهما للإنجاب بسبب عقم زوجها، فقررا الانفصال، تقول ريم لرصيف22: "كان حلمي أن أُنشئ عائلةً وأنجب أطفالاً، لكن ذلك لم يتحقق". 

في الأربعين من عمرها، بدأت علاقة عاطفية مع رجل مغربي، أسفرت عن حمل غير مخطط له. وبرغم الظروف الصعبة، رفضت الإجهاض وقررت الاحتفاظ بالجنين. تفسّر ريم قرارها بالقول: "شعرت بأنها فرصتي الأخيرة كي أكون أمّاً. عندما أخبرته بحملي، رفض تحمّل المسؤولية وانفصلنا بشكل تام".

تجد النساء العائدات لبلدانهنّ الأصلية أنفسهن ممزّقات بين توقٍ لحياة حرة ومتوازنة، وبين هاجس العزلة أو الرفض الاجتماعي، فتتشكل في داخلهن فجوة نفسية واجتماعية خانقة

ربّت ريم ابنها بمفردها في فرنسا، وكانت الأمّ والمعيل والداعم. لكن مع مرور الوقت، أصبحت غير قادرة على تغطية تكاليف الحياة، خاصةً بعد تقاعدها، فقررت العودة إلى تونس بحثاً عن ظروف معيشية أفضل.

تكمل: "بعد 17 سنةً من تربية ابني، ومع تقاعدي وزيادة المصاريف، عدت إلى تونس حتى نتمكن من العيش بأقل ضغط مادي".

عند عودتها، أخبرت العائلة بأنّ والد الطفل قد توفي، وقدّمت نفسها كأرملة. استُقبلت بدايةً بالترحاب، وتلقّى الطفل اهتماماً وحبّاً من الجميع، باستثناء شقيقها الأكبر الذي لم يهضم قصتها منذ البداية، فبدأ رحلته في التقصّي، ليكتشف أنّ ريم ألّفت قصةً بشأن ترملّها وأنها لم تتزوّج بالأصل، وهنا بدأت دوامة الاشتباك مع العائلة، والتي خلّفت ندوباً في روح ريم وابنها. 

تقول: "اتهموني بالكذب وتشويه السمعة. شعرت وكأنني أُحاكَم لا كأمّ بل كطفلة ارتكبت خطأ"، وتضيف: "ما أعانني على الصمود هو استقلالي المادي، وهذا جعلني أضع حدّاً لتدخلات الآخرين. حتى النصائح لم أعد أسمح بإلقائها عليّ".

لكن تأثير تلك الأوضاع لم يقتصر عليها فقط، بل طال أيضاً ابنها الذي تأثر نفسياً بسبب ما تعرضت له والدته من إساءة كلامية ورفض، وأصيب بنوبات اكتئاب. 

انقطعت العلاقة مع العائلة لأشهر، وبقيت ريم وحيدةً، وتعرّضت لنظرات الناس وأحكامهم الصامتة، من الجيران، من الأقارب، وحتى من نساء الحيّ. 

تستذكر ريم: "في البداية كان الأمر مؤلماً. لكنني لم أسمح لهم بأن يكسروني. قاومت، وصمدت، وهذا ما دفعهم لقبولي في النهاية".

تتابع: "نعم، نظروا إليّ بازدراء، لكنني لم أطلب شفقة أحد. ربّيت ابني وحدي، ولم أؤذِ أحداً ولو أُتيح لي إنجاب سبعة أطفال، لفعلت. ما يعدّونه عاراً، هو في نظري شجاعة ومسؤولية".

صدمة العودة

غالباً ما تتحول العودة إلى الوطن بعد تجربة العيش في الخارج إلى ما يُعرف بـ"الصدمة الثقافية العكسية"، وهي حالة من الاغتراب النفسي والاجتماعي يواجهها العائدون والعائدات من مجتمعات أكثر انفتاحاً إلى بيئات محافظة لم تتغير كثيراً. وقد تناولت هذا الموضوع دراستان نُشرتا عام 2024، في مجلة "دراسات علم النفس والسلوك"، الصادرة عن "مركز الكندي للدراسات": الأولى بعنوان "التعامل مع صدمة الثقافة العكسية بعد التبادل الثقافي"، والثانية بعنوان "العوامل المساهمة وإستراتيجيات التكيّف". وتسلّط الدراستان الضوء على ما تواجهه النساء العائدات إلى مجتمعاتهنّ الأصلية من صعوبات عاطفية واجتماعية، أبرزها الشعور بعدم الانتماء وعودة القيود الاجتماعية التي تحررن منها في أثناء إقامتهنّ في المهجر.

حتى النساء العائدات بشهادات وتجارب ناجحة من أوروبا وُوجهْن بالرفض، وأُتهم بعضهن بالتعالي لمجرد رفضهن الخضوع للمنظومة الأبوية

وتشير العديد من الدراسات في علم النفس الاجتماعي إلى أنّ الصدمة العكسية قد تؤدي إلى أعراض مثل الاكتئاب والقلق، والشعور بالانفصال عن الذات والمحيط. ولا تنبع هذه الأعراض من صدمة ثقافية فحسب، بل من فجوة عميقة بين "الذات التي تطورت" و"البيئة التي بقيت كما هي". فالعائدة التي تجاوزت قيوداً اجتماعيةً في الخارج، تجد نفسها أمام مجتمع يطالبها بالعودة إلى تلك القيود وكأنّ شيئاً لم يتغير، بحسب ما أشارت إليه دراسة نُشرت بعنوان "الصدمة الثقافية العكسية لدى الطلاب السعوديين العائدين من الولايات المتحدة إلى وطنهم"، الصادرة عن جامعة "هوارد" الأمريكية و"ألجوما" الكندية، عام 2024.

هذا الصراع لا يتعلق فقط باختلاف أنماط العيش، بل يمسّ جوهر الهوية. هو صراع بين حرية اكتُسبت في سياقات أخرى، وبين رقابة تُفرض مجدداً باسم العائلة أو المجتمع أو "الحياء العام". وتتفاقم الأزمة حين تُربط العودة بشكل غير معلن بمسار "توبة اجتماعية"، وكأنّ على المرأة العائدة أن تبرّر حياتها السابقة، أو تُثبت "أهليتها الأخلاقية" كي تُقبل من جديد.

فحتى من عدن حاملات شهادات عليا وتجارب مهنيةً ناجحةً في أوروبا، وجدن أنفسهن موضع شكّ ورفض. منهنّ من انتُقدن لأنهن اخترن البقاء غير متزوجات، ومنهنّ من تعرّضن للتهميش بسبب مظهرهنّ أو طريقة لباسهنّ، وأُخريات وُصِفن بالتعالي فقط لأنهنّ رفضن الخضوع لمنظومة أبوية في محيط العمل أو العائلة.

وهكذا تتقاطع حكايات النساء العائدات من المهجر عند نقطة العودة؛ حيث يبدأ فصل أكثر تعقيداً تُختبر فيه ذواتهنّ في مواجهة محاولات المحو والإنكار والطمس.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard
Popup Image